جاء في لسان العرب مقابل كلمة شره (الشَّرَهُ: أَسْوَأُ الحِرْصِ، وهو غلبة الحِرْصِ، شَرِهَ شَرَهاً فهو شَرِهٌ وشَرْهَان. ورجل شَرِهٌ: شَرْهَانُ النفس حَرِيصٌ. والشَّرِهُ والشَّرْهَانُ: السريعُ الطَّعْمُ الوَحِيُّ، وإِن كان قليلَ الطَّعْمِ. ويقال: شَرِهَ فلانٌ إِلـى الطعام يَشْرَهُ شَرَهاً إِذا اشْتَدَّ حِرْصُهُ علـيه) ومعنى الوَحِيِّ هنا هو السريع أي أن المقصود هو سرعة التهام المأكول، وشدة الحرص على التهام أكبر قدرٍ منه، ومن المعروف شرعا أنه لا يجوز الإسراف في الأكل، ويُكره أن يزيد عن الشبع لقوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجدٍ وكُلوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفوا إنهُ لا يُحِبُّ المسرفين} صدق الله العظيم "الأعراف31"، ولكن موضوعنا هنا هو كيفية التعامل مع نعمة الأكل أثناء أكلها.
وقد ذكرنا في مقالنا السابق عن الأمراض التي اشتهر أنها ترتبط بالبدانة، وجود ما يشير إلى ارتباط تلك الأمراض بكيفية تعاملنا مع المأكول أكثر من ارتباطها بالبدانة فعلا!، بمعنى أن زيادة منسب كتلة الجسد ليست هي ما ترتبط به تلك الأمراض، وإنما طريقة الأكل أو طريقة التعامل مع المأكول، فهناك مثلا أبحاث تثبتُ أن متلازمة التناذر الاستقلابي Metabolic Syndrome of Obesity أو متلازمة (إكس) Syndrome X، وهي أشهر ما تتهم البدانة بالتسبب فيه إنما ترتبط بمعدل وسرعة التهام المأكول وكذلك بالإسراف في تناول الطعام في الوجبة الواحدة أو بمعنى أدق هي ترتبط بالشره، وكذلك فإن زيادة دهون الكبد وصولا إلى التنكس الدهني للكبد Hepatic Steatosis ترتبط أيضًا بزيادة سرعة التهام الطعام Increased Rate of Eating، وهذا مثبتٌ في التجارب على الأوز الذي يتم إطعامه رغما عنه (Karmann et al, 1992) وفي الإنسان أيضا وإن لم تكن الآلية التي يحدث بها ذلك مفهومة بعد (Karll et al., 2001)، بل إن دراساتٍ عديدة أجريت منذ عقودٍ (Hollifield & Parson, 1962) و(Fabry & Tepperman,1970) أثبتت العلاقة بين كثرة الأكل وبين حدوث تغيرات استقلابية شبيهة جدا بما يوصف الآن بأنه يرتبط بالبدانة، ونورد في مقالنا هذا أدب الإسلام في النهي عن الشره في الطعام.
فمما ورد في النهي عن الشره في السنة النبوية المطهرة وكلها أحاديثُ من صحيح البخاري: عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَأْكُلُ حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَدْخَلْتُ رَجُلاً يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ كَثِيرًا فَقَالَ يَا نَافِعُ لا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًي وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًي وَاحِدٍ وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعَنْ عَمْرٍو قَالَ كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلا أَكُولاً فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ" فَقَالَ فَأَنَا أُومِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقد اختلفَ في تفسير هذا الحديث، فهل المراد هنا هو سبعةُ أمعاء بالتحديد التشريحي أم أن المعنى المقصود هو معنى مجازي؟ فقال الراوندي رحمه الله: المعي على وزن اللوي، واحد الأمعاء وهي مجاري الطعام في البطن، وهذا مثل وذلك أن المؤمن لا يأكل إلا من الحلال، ويجتنب الحرام والشبهة، والكافر لا يبالي ما أكل، وكيف أكل، ومن أين أكل، وإذا كان كذلك فمآكل الكافر أكثر من مآكل المؤمن.
وقال النووي: المختار أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل في معا واحد وأكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل المؤمن، كما جاء في فتح الباري بل هو على ظاهره ثم اختلف في ذلك على أقوال: الأول أنه ورد في شخص بعينه، واللام عهدية لا جنسية، ويؤيده ما رواه عن الطبراني بسند جيد بزعمه عن ابن عمر، قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله سبعة رجل فأخذ كل واحد من الصحابة رجلا وأخذ النبي صلى الله عليه وآله رجلا فقال له: ما اسمك قال: أبو غزوان، قال: فحلب له سبع شياة فشرب لبنها كله فقال له النبي صلى الله عليه وآله: هل لك يا أبا غزوان أن تسلم؟ قال: نعم فأسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله صدره فلما أصبح حلب له شاة واحدة فلم يتم لبنها، فقال: مالك يا أبا غزوان؟ فقال: والذي بعثك بالحق لقد رويت قال: إنك أمس كان لك سبعة أمعاء، وليس لك اليوم إلا معي واحد: ثم ضعف هذا الحمل" صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم.
وقال النووي أيضًا: يحتمل أن يريد بالسبعة في الكافر سبع صفات هي: الحرص، والشره، وطول الأمل، والطمع، وسوء الطبع، والحسد، وحب السمن وبالواحد في المؤمن سد خلته، وقال القرطبي: شهوات الطعام سبع: شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع وهى الضرورية التي يأكل بها المؤمن، وأما الكافر فيأكل بالجميع، ثم رأيت أصل ما ذكره في كلام القاضي أبى بكر وهو أن الأمعاء السبعة كناية عن الحواس الخمس والشهوة والحاجة (بحار الأنوار : الباب الخامس).
وأورد البخاري في كتاب الأطعمة أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (ما شبعَ آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعامٍ ثلاثة أيامٍ حتى قُبضَ) وأورد المنذري في الترغيب والترهيب أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أولُ بلاءٍ حدثَ في هذه الأمَّةِ بعدَ نبيِّها: الشِّبَع فإنَّ القومَ لمَّا شبعتْ بطونهم سمنتْ أبدانُهم، فضعفت قلوبهم، وجمحتْ شهواتُهم) وأورد أبو نعيم في الحلية أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يحذر من الإسراف بالطعام ويقول: (إيَّاكم والبِطْنة في الطعام والشراب، فإنها مَفْسدةٌ للجسم، مورثةٌ للسقم، مَكْسَلةٌ عن الصلاة، وعليكم بالقَصْدِ فيهما، فإنَّهُ أصلحُ للجسدِ وأبعدُ عن السَّرَف، وإنَّ اللهَ تعالى لَيبغضُ الحَبْرَ السَّمين وإنَّ الرجل لن يهلكَ حتى يُؤْثر شهوته على دينه).
وليسَ المقصود بالطبع من ذلك أن الشبع حرام فقد جاءَ في فتح الباري بعد رواية أوردها تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله شبع من الطعام، قال القرطبي: فيه دليل على جواز الشبع، وما جاء من النهي عنه محمول على الشبع الذي يثقل المعدة، ويثبط صاحبه عن القيام بالعبادة، ويفضي إلى البطر والأشر والنوم والكسل، وقد تنتهي كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة، وذكر الكرماني تبعا لابن المنير أن الشبع المذكور محمول على شبعهم المعتاد منهم، وهو ما رواه المقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ملا آدمي وعاء شرا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه، فان غلب الآدمي نفسه فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواهُ الترمذي وابن ماجه.
وقال القرطبي: لو سمع بقراط بهذه القسمة لعجب من هذه الحكمة، وقال الغزالي قبله: ذكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة فقال: ما سمعت كلاما في قلة الأكل أحكم من هذا، ولا شك في أن أثر الحكمة في الحديث المذكور واضح، وإنما خص الثلاثة بالذكر لأنها أسباب حياة الحيوان، ولأنه لا يدخل البطن سواها، وهل المراد بالثلث التساوي على ظاهر الخبر أو التقسيم إلى ثلاثة أقسام متقاربة، محل احتمال، والأول أولى، ويحتمل أن يكون لمح بذكر الغلبة إلى قوله في الحديث الآخر "الثلث كثير".
وقال بعضهم: مراتب الشبع تنحصر في سبع: الأول ما تقوم به الحياة، الثاني أن يزيد حتى يصوم ويصلي عن قيام وهذان واجبان، الثالث أن يزيد حتى يقوى على أداء النوافل، الرابع أن يزيد حتى يقدر على التكسب وهذان مستحبان، الخامس أن يملا الثلث وهذا جائز، السادس أن يزيد على ذلك وبه يثقل البدن، ويكثر النوم، وهذا مكروه، السابع أن يزيد حتى يتضرر، وهي البطنة المنهي عنها، وهذا حرام، ويمكن إدخال الأول في الثاني والثالث في الرابع (بحار الأنوار: الباب الخامس).
ويكره الإسلام كبر البطن والكرش.. لأنهما يمنعان المسلم من الجهاد والنشاط فيقول الرسول "أعوذ بأمتي من كبر البطن ومداومة النوم والكسل"، ويقول: (أشد الناس عذابا يوم القيامة المكفي الفارغ). والمكفى هو الذي يكفيه غيره من الناس عناء الحركة لحاجاته بسبب غناه أو مركزه فهذا النوع من الناس الذي تقل حركته ونشاطه الجسدي يصاب بكثير من أمراض التخمة والكسل (د.عبد الباسط السيد مرسي، 2005).
وقد أجازَ بعضُ الفقهاء زيادةَ الشبع للتَّقَوِّي على الطاعات كالصوم وغيره، أو التقوي على أداء الواجبات، أو حتى لا يستحي الضيفُ.. ولشدة كراهة الإسراف في الطعام فقد شبَّهَ القرآن الكافرين بالأنعام السائبة في أكلهم وشربهم:{إن الله يُـدْخلُ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ جناتٍ تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يَتَمَتَّعُونَ ويأكلونَ كما تأكُلُ الأنْعامُ، والنَّارُ مَثْوىً لهم} صدق الله العظيم"محمد 12".
ومما وجدتهُ في موقع أهل البيت على الإنترنت من كتاب الدعوات (الدعوات : الباب الثاني) فيما يفيدُ النهيَ عن الشره: قال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فان القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء" صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "أفضلكم منزلة عند الله أطولكم جوعا و تفكرا، وأبغضكم إلى الله تعالى كل نؤم أكول شروب" صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقال الأصبغ بن نباتة سمعت أمير المؤمنين علي يقول لابنه الحسن -رضيَ اللهُ عنهما- يا بني ألا أعلمك أربع كلمات تستغني بها عن الطب فقال بلى يا أبت فقال علي-رضيَ اللهُ عنه- "لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع ولا تقم عن الطعام إلا وأنت تشتهيه وجود المضغ وإذا نمت فأعرض نفسك على الخلاء وإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب"، وسئل فقيل إن في القرآن كل علم إلا الطب فقال علي -رضيَ اللهُ عنه- أما أن في القرآن لآية تجمع الطب كله {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}صدق الله العظيم.
وقال صلى الله عليه وسلم :"أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة ولا تناموا عليها فتقسو قلوبكم" (الدعوات: الباب الثاني)، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهُ قال: أتى أبو حجيفة النبي صلى الله عليه وآله وهو يتجشأ، فقال صلى الله عليه وآله: "اكفف جشاءك، فان أكثر الناس في الدنيا شبعا أكثرهم جوعا يوم القيامة" قال: فما ملأ أبو حجيفة بطنه من طعام حتى لحق بالله (بحار الأنوار: الباب الخامس).
وما أود التنبيه إليه في هذا المقال هو أن علينا أن ننتبه جيدا إلى أهمية الطريقة التي يتعامل بها الإنسان مع ما يأكل، فعلى المسلم أن يعي جيدا أثناء أكله أن المأكول نعمة الله عليه وأن احترامها واجبٌ وتأملها كذلك واجب أي أن الأكل بسرعة أمرٌ منهي عنه، ولو فعلا بدأنا في تغيير طريقتنا في التعامل مع المأكول ودعونا ربنا أن يرزق أجسادنا مما نأكل بقدر ما تحتاج لتصح الأجساد، لو اتبعنا أدب الأكل في الإسلام لاختلف كثيرٌ وكثير من أحوالنا مع أجسادنا، كذلك أود التنبيه إلى أهمية ألا نعتبر معطيات الدراسات العلمية معطياتٍ نهائية لأن من الواضح أن الإنسان بما في ذلك العلماء والباحثون قابلون جدا لأن تخدعهم المظاهر ولعل ربطهم للأمراض التي ترتبط بالشره بالبدانة بدلا من الشره دليلا أو مثالا على ذلك.
المراجع العربية:
1. بحار الأنوار : باب 5 مّ كثرة الأكل والأكل على الشبع على http://www.al-shia.com/html/ara/books/behar/behar63/130.htm
2. عبد الباسط السيد مرسي (2005): أسلمة الطعام(2) عن موقع إنترنت مجانين.
المراجع الغربية:
1- Krall J G., Buckley1, M.C, Kissileff, H.R & Schaffner, F.(2001) Metabolic correlates of eating behavior in severe obesity. International Journal of Obesity (2001) 25, 258-264.
2- Karmann H, Rideau N, Zorn T, Malan A, Maho Y(1992) Early insulin response after food intake in geese. Am J Physiol 263: 782-784,
3- Hollifield G, Parson W. (1962): Metabolic adaptations to a stuff and starve feeding program. I. Studies of adipose tissue and liver glycogen in rats limited to a short daily feeding period. J Clin Invest 1962; 41: 245-249,
4- Fabry P, Tepperman J.(1970) Meal frequency a possible factor in human pathology. Am J Clin Nutr 1970; 23: 1059-1068,
اقرأ أيضا:
كيف نأكل؟ هل لهذا علاقة بالبدانة / هل البدانة مرض؟ / الوصمة الاجتماعية للبدانة / ما هي أسبابُ انتشار البدانة؟ / البدانة في الأطفال والمراهقين