يعتبرُ هذا المبحثُ من المباحثِ التي لم تلقَ ما تستحقُّ من الاهتمام حتى الآن، ولعل السرَّ في ذلك يرجعُ إلى أن طب نفس الأطفال ما يزالُ في مرحلة متأخرةٍ عن تلك التي وصل إليها الطب النفسي العام كما أن ما نتكلم عنه في هذا المبحث إنما ينتمي إلى ما يشبهُ الطب النفسي الوقائي وهذا العلم أيضًا ما يزالُ في بداياته على مستوى العالم. ولعل من المهم أن أبينَ المقصود بوسوسة الأم أولاً، فالمقصود هوَ الوسوسةُ بمعناها في الطب النفسي والذي يشملُ:
1- الأم المصابةَ باضطراب الوسواس القهري: أي الأم التي تعاني من أفكارٍ تسلطيةٍ تتعلقُ مثلاً بسلامة ابنها أو بنتها تعرفُ هيَ أنها أفكارٌ غير صحيحة لكنها لا تستطيعُ التخلصَ من إلحاحها وتسلطها على وعيها، كما تعاني من أفعال قهرية تتعلقُ مثلاً بفحص الطفل للتأكد من عدم إصابته بشيء.
2- الأم صاحبة اضطراب الشخصية القسرية: وهيَ التي يعرفها الناس بالتزامها الزائد واهتمامها المفرط باللوائح والقواعد وبالشكليات في كل شيء إلى الحد الذي قد يتعارضُ مع روح الموضوع كما أنها لا تثقُ في قدرة الآخرين على إتمام أي فعل إلا إذا تأكدت أنهم ينفذونه بنفس طريقتها وبحرفية أدائها له، فهذه الحالةُ وإن كانتْ شدةُ الأعراض فيها أقلَّ إلا أنها مزمنةٌ وأقلُّ احتمالاً للعرض على الطبيب النفسي. ومن الممكن بالطبع أن نتخيل أن الأم التي تصبغُ الحمائية الزائدة تصرفاتها مع أطفالها تقعُ على نفس المتصل ما بينَ الاهتمام الطبيعي من الأم بسلامة أطفالها وما بينَ وسوسة الأم فيما يخص أطفالها.
كل طفلٍ يحتاجُ إلى مدْحِ والديه أو إلى رضاهم أو على الأقل إلى عدمِ انتقادهم لهُ فماذا تكونُ الطريقةُ لإرضاء أم موسوسةٍ؟
لابدَّ أنها الالتزامُ بما تمليهُ وسوستها عليه بما في ذلك من إنكارٍ لمشاعره ورغباته واندفاعاته الطبيعية العاديةِ، وهوَ يقعُ في صراع بينَ أن يتصرفَ حتى وهوَ خارجَ البيت بشكل طبيعي كما يفعلُ أقرانهُ وبينَ أن يلتزمَ بما وعد به أباهُ أو أمهُ، فماذا يكونُ بعد ذلك موقف الأم الموسوسة؟
إنها فقط ستطلبُ منه أداءً أفضلَ في المرة القادمة لأنَّ الأم الموسوسةَ إن أعجبها سلوك طفلها في أي منحىً من مناحي الحياة وهذا ما يندرُ حدوثهُ أصلاً، فغالبًا ما تخافُ من أن تكونَ سببًا في تدليل الطفل وهكذا بينما ينتظرُ الطفل مكافأةً كبيرةً تطلبُ الأم الموسوسة منه أداءً أفضل في المرة القادمة والتزامًا أدقَّ بقواعد الأداء.
ثمَّ هل افتراضُ أن الأم الموسوسةَ تنتج أطفالاً موسوسين هو افتراضٌ صحيح؟ وكيفَ يمكنُ إن وجدَ طفلٌ موسوسٌ لوالدةٍ موسوسةٍ أن نقولَ أن التأثير كانَ لطريقة التربية وليس للمادةِ الوراثية التي انتقلت إلى ذلك الطفل؟ بمعنى آخرَ كيفَ سيمكنُ الفصل ما بينَ ما هوَ وراثةٌ وبينَ ما هو نتيجةُ البيئةِ الأسرية؟ خاصةً وأن دراسات التبني التي تربي فيها أم موسوسةٌ أطفالَ أم غير موسوسةٍ أو العكس غير ممكنةِ التطبيق حتى في الغرب لأسباب أخلاقية، وما يعنينا بالطبع في هذا الفصل هوَ ما يمكنُ أن تسببهُ البيئةُ الأسريةُ في وجود وسوسة الأم على الطفل، فماذا يكونُ تأثيرُ والدة تتوقع من طفلهما أن يتحكم في كل شيء ربما قبل الأوان وربما بشكل يفوقُ طاقةَ البشر، وماذا يمكنُ أن نتوقعَ من تأثير على طفل تطلبُ منهُ أمه أن يقومَ بغسلِ الخبزِ قبلَ أن يأكلهُ أو المفاتيح كلما عاد من خارج البيت وهكذا؟
إن من الصعوبة بمكان أن تعيشَ مع أم تخافُ من إظهار المشاعر بوجهٍ عام كما هو الحال في صاحبة اضطراب الشخصية القسرية، ولا تفرح بالمفاجئات لأنها تتوجسُ خيفةً بينها وبينَ نفسها من كل ما هوَ غيرُ ملتزمٍ بالقواعد، وكلُّ ما هوَ مفاجئٌ هوَ بالطبع مخالفٌ للقواعد إلى حد ما! يا سبحان الله إن مثل هذا الطفل في النهاية لابد يتحولُ إلى شخصٍ جامدٍ متحجر لا يستطيعُ أن يحسَّ إلا بالقواعد والأطر واللوائح وكلِّ ما هوَ غيرُ إنساني أو كل ما هو محددٌ بدقةٍ وانتظام، إن عدم القدرة أو عدم السماح بإظهار الحب مباشرةً من جهة الوالدين أو إظهارهُ فقط بصورٍ أخرى مثلَ تلبية الحاجات المادية للطفل إنما يحملُ في طياته رسالةً للطفل مؤداها أن التعبير عن الحب من جهة الوالدين إنما يكونُ بتلبية الحاجات لا بالسماح بالتسيب وأن التعبير عن الحب من جهته هو للوالدين إنما يكونُ بطاعتهم والالتزام بعمل الأشياء كما يطلبون منه وينطبقُ هذا الوصفُ بالطبع أكثرَ ما ينطبق على حالات اضطراب الشخصية القسرية في الأم التي تنجبُ فيها الأم الموسوسةُ أطفالاً موسوسين.
ولقد عالجتُ بنتًا تحمل الليسانس بتقدير ممتاز كانت تعاني من الوسواس القهري وتاريخ حالتها يوضحُ كيفيةَ تأثير وسوسة الأم على طفلتها فقد كانتْ البنت في طفولتها موضوعًا لوسوسة الأم التي كانت تخافُ على عذرية طفلتها الصغيرة من أي رجل وكانت تقومُ بتعرية البنت وتفتيش ملابسها بحثًا عن نقطة الدم كما كانت تقوم بالكشف على البنت بنفسها لكي تطمئن كلما حدث أن غابت البنتُ عنها وكان هناكَ احتمالٌ لانفراد رجل بها!، لقد أثرَ ذلك في نفسية البنت بالطبعِ ولم تستطعْ لا أن تتصرفَ بشكل طبيعي مع الرجال الذين كانَ ولابد أن تتعامل معهم في حياتها بعد ذلك، ولا استطاعتْ أن تنسى لأمها ما تسببت لها فيه من الألم النفسيِّ وهيَ طفلةٌ صغيرةٌ حتى أنها بدت كمن تعاقبُ أمها عندما أصبحت شابةً تحملُ الليسانس، فعلى الرغم من أن الاكتئاب الجسيم المصحوب بأعراض الوسواس القهري الذي أصاب الأم (وتصرفت خلالها تلك التصرفات الفظيعة التأثير مع بنتها الصغيرة) لم تطلْ مدتهُ فقد كانت كلها أربعةَ أشهر إلا أنهُ تركَ أثرًا عميقًا في نفس البنت، لكننا بالطبع يجبُ ألا ننسى وجودَ تهيئةٍ أو استعدادٍ لدى سماح نفسها للإصابة بالوسواس القهري وللوراثةِ دورٌ فيه، لكننا لا نستطيعُ أن نقولَ أن لما تعرضت البنتُ لهُ من ضرارٍ نفسي دورًا في تهيئتها للإصابة بالوسواس القهري وإن كانَ من الممكنِ أن يهيئها للعصابية بوجه عام.
وهناكَ الكثيرُ من الحالات التي تأخذُ فيها وسوسةُ الأم شكل الخوفِ المفرط على أبنائها حتى من الذكور، وذلك ما يتحملهُ الأطفالُ طالما ظلوا أطفالاً، لكنهم عندما يقتربون من مرحلة البلوغ وعندما يبدؤون في مقارنة تصرفات الأم معهم بتصرفات أمهات أصدقائهم، غالبًا ما يبدؤون في إعلان الثورة والعصيان خاصةً في الحالات التي يتخذُ الأب فيها دورَ الناقد أو الساخر من تصرفات الأم ومشاعرها دونَ أن يتدخل بطريقةٍ إيجابية ويساعد الأم على العلاج، بل إن بعض الأبناء يسخرون من مشاعر الأم المسكينة التي يشعرهم خوفها عليهم بأنها ما تزالُ تراهم أطفالاً، وبعضهم يعمدُ إلى اللعب بأعصاب الأم المسكينة، ما أتكلمُ عنهُ بالطبع هو ناتجُ خبرةٍ شخصية يمنعني ضيقُ المقام هنا من الخوض في إعطاء تفاصيلها المرضية، لكن الذي لاحظت أنهُ صفةٌ مشتركةٌ بينَ الأمهات المصابات بهذه الحالة هوَ الإحساس المتضخم بالمسؤولية والتقييم المفرط لخطر غياب الولد عن عيونها، علمًا بأنها تؤمنُ بالقضاء والقدر، وتعرفُ جدا أن الحذرَ لا يفيدُ في منع القدر، لكنها لا تستطيعُ مقاومةَ أفكارها التسلطية المتعلقةَ بما يمكنُ أن يحدثَ للولد ولا أفعالها القهرية المتعلقةَ بمراقبته أو التضييق على ابتعاده عنها بشتى الطرق والوسائل.
وأما تأثيرُ إصابةِ الأم باضطراب الشخصية القسرية وكلمةُ الإصابة هنا في الحقيقة قد لا تكونُ موفقةً لأن اضطراب الشخصية إنما هوَ اضطراب في السمة بمعنى أنهُ يصبغُ حياةَ الشخص كلها منذ بداية مراهقته أو حتى منذ سنين طفولته وعلينا أن نستنتجَ من ذلك أن الأم هنا تكونُ موسوسةً من قبل أن تكونَ أمًّا!، بمعنى أن الأطفال يولدونَ وهيَ على هذه الحالة، صحيحٌ أن الحالةَ تتميزُ بتداخل الأعراض فيها مع السلوكيات الحياتية العادية ويكونُ التمييز بينَ ما هوَ دليلٌ على المرض وما هوَ سلوكٌ بشريٌّ عادي أمرٌ يحتاجُ إلى خبرةٍ وإلى وقتٍ لكي يفصلَ فيه لكنَّ من يعيشونَ مع صاحب الشخصية القسرية يختلفُ الأمرُ بالنسبة لهم فشريكُ الحياة والأبناء إذن وضعهم مختلف لأنهم أكثرُ من يعانونَ من الجوانب السلبية في هذه الشخصية، فالجوانبَ الإيجابيةَ في الشخصية القسرية تتمثلُ في الانضباطِ والالتزام باللوائح والقوانين مع الإخلاص والتفاني في العمل وهيَ أشياءٌ ربما ينتفعُ بها المجتمعُ أو المؤسسةُ التي تعملُ بها صاحبة الشخصية القسرية.
والحقيقةُ أن كونَ الأم صاحبةَ شخصية قسرية لابد أن يكونَ أكثر تأثيرًا على الأطفال من كون الأب هو صاحبُ الشخصية القسرية نظرًا لحميمية وطول العلاقة مع الأطفال من جانب الأم، وهناكَ واحدةٌ من النقاط المتعلقة بهذا الموضوع وضعت فيه بعضُ الفرضيات ولكنها لم تثبتْ بالملاحظة العملية في عيادات الطب النفسي، وهذه النقطة هيَ عمليةُ التدريب على استخدام الحمام فكما ذكرتُ في فصل اضطراب الشخصية القسرية فإن نظرية التحليل النفسي ترجعُ أسباب تكونِ الشخصية القسرية إلى الصعوبات النفسية التي يواجهها الطفلُ أثناء هذه الفترة إذا وصلت شدتها وحدتها إلى المستوى الذي يحدثُ معهُ تثبيتٌ في هذه المرحلة "المرحلة الشرجية" من مراحل النمو النفسي الجنسي؛
ولنتخيل أما موسوسةً أو صاحبةَ شخصية قسريةٍ فمن الطبيعي أنها ستتوقعُ من أطفالها قدرةً مبكرةً على التحكم والانضباط وهو ما لا يحدثُ دائمًا كما أنهُ يفتحُ احتمالاتٍ كثيرةٍ لأشكال التأثير السلوكي على الأطفال، هذه الأم ربما تحاول تدريب طفلها على التحكم في عملية التبرز في سن صغيرة ربما كانت حتى أقل من السنة، ومعروف أن نموَّ الوصلات العصبية بينَ النخاع الشوكي وبين القشرة المخية تلك الوصلات التي تجعلُ ذلك التحكم ممكنًا إنما يحدثُ في السنة الثانية من العمر وربما قرب نهايتها، معنى ذلك أن هذه الأم تطلبُ من طفلها ما لا يستطيعُ هوَ بيولوجيًّا أن يصل إليه، وبما أن صاحبة الشخصية القسرية لا تعترفُ بالضعف أو بالعجز البشري إلا مرغمةً ولا تغفرُ الإهمال أبدًا فإن مثل هذا الطفل طفلٌ مسكين لأن أمه تريدُهُ أن يطلب القسرية وهوَ بعدُ لا يتلقى في وعيه الإشارةَ بأن المستقيم ممتلئٌ وأنهُ على وشك التبرز كما يحدثُ في الكبار!، لكنها لا تفهم ذلك وتريدُ من طفلها أن يكونَ نظيفًا منذُ ولادته إذا استطاعتْ.
ولا نستطيعُ في النهاية أن نعمِّمَ ونقولَ أن تأثيرَ وسوسة الأم على الأطفال هيَ كذا أو كذا لأن طريقةَ تشكل سمات الشخصية لا تقاسُ ولا يصحُّ التنبؤ بها بهذه السهولة، وكلُّ ما نستطيعُ قولهُ هوَ أن وسوسة الأم كثيرًا ما تحمل الأطفالَ ألمًا نفسيا ومعاناةً ربما يكونُ لها أثرٌ على سلوكِ الطفل فيما بعد، كما يمكنُ أن تكونَ لها تفاعلاتٌ مع ما يحملهُ هذا الطفلُ من مورثات يأخذها من الأم الموسوسة ولكنَّ الشكل الذي سنصلُّ إليه في النهاية يصعبُ التنبؤ به.
اقرأ أيضاً:
الوسواس القهري والشخصية القسرية/ هل الوسواس القهري لا يعالج؟/ علاج الأفكار الوسواسية