اعتاد بواب العمارة أن يصاحب الدكتور (س) أستاذ التحاليل الطبية المشهور وهو يصعد إلى شقته في الطابق الثالث حيث يخلع الدكتور ملابسه كلها على باب الشقة ويبقى فقط بالملابس الداخلية وتقابله زوجته بالبشكير ليلتف به ثم يسلك مساراً محدداً في الشقة لكي يصل إلى الحمام وهو حريص جداً ألا يلمس أي شيء حتى يصل إلى غايته، وهناك يظل لمدة ساعتين أو أكثر تحت المياه حتى يشعر نسبياً أنه قد تخلص من آثار التلوث في العمل ثم يتبع ذلك استخدام كميات كبيرة من المواد الكيميائية المطهرة على يديه وأجزاء أخرى من جسمه وقد تركت هذه المواد آثاراً ظاهرة في تلك الأماكن،
وفي هذه الأثناء يكون البواب قد عاد إلى غرفته في البدروم وهو يحمل قميصاً وبنطلوناً وحذاءاً جديداً، ويتكرر ذلك كل يوم تقريباً، والبواب سعيد بذلك، والدكتور في غاية الشقاء والألم، فهو يعاني من الشعور الدائم بالتلوث منذ أن كان يفحص أحد العينات المصابة بالالتهاب الكبدي (C) وتناثرت بعض أجزاء العينة على يديه، وعلى الرغم من قيامه بتطهير يديه فوراً إلا أن الشعور بالتلوث لم يفارقه منذ تلك اللحظة، ويبلغ ذلك الشعور ذروته حين يجلس في المعمل وسط العينات.
ومن فرط معاناته لمدة عام كامل منذ تلك الحادثة، فقد فكر في ترك هذا العمل لكي يستريح من هذه الطقوس المضنية التي يجد نفسه مجبراً عليها كل يوم، فالأمر لا ينتهي عنده بممارسة الغسيل والتطهير بل يمتد طوال اليوم والليلة حيث يجب عليه أن يتجنب لمس الستائر والكراسي وسائر أثاثات الشقة، ولا يستعمل إلا أشياء محدودة جداً يسهل غسلها أو التخلص منها، ولقد أدى ذلك إلى تقلص المساحة المتاحة له في الشقة فهو لا يتحرك بحريته في كل مكان بل يلتزم بأماكن محدودة جداً حتى لا ينشر التلوث في كل مكان، وحسب تعبيره فقد أصبح مسجوناً في زنزانة داخل بيته.
وبعد تردد دام لمدة عام قرر ترك العمل ظناً منه أنه سيستريح من هذا الشعور المؤلم وقد استراح فعلاً لبعض الوقت إلى أن جاء يوم كان يمشي فيه في أحد الشوارع التجارية فقابله أحد زملائه القدامى في العمل فصافحه واحتضنه -كعادة أي زملاء في عمل لمدة طويلة- ومن يومها عاوده الشعور بالتلوث، لأن زميلة مازال في مكان العمل الذي يشعر بتلوثه، وحين عاد إلى البيت شعر أن كل شيء قد تلوث مرة أخرى، وباءت كل محاولات التنظيف والتطهير بالفشل فقرر السفر لفترة بعيداً عن المنزل وذهب إلى أحد المدن الساحلية، وكانت دهشته كبيرة حيث وجد نفسه يعيش بشكل طبيعي تماماً لمدة أسبوعين، ثم بدأت تعاوده هواجس التلوث وتقاليد النظافة الصارمة مرة أخرى فعاد إلى بيته حزيناً.
وأكثر ما كان يؤرقه هو ذلك العناء الذي يسببه لزوجته وأولاده، فقد فرض عليهم نظاماً قاسياً في الحركة داخل الشقة وفي الغسيل المستمر والنظافة المبالغ فيها جداً، وهو يخشى أن يعاني بعد ذلك مثله، ولكنه لا يملك تغيير هذا الواقع.
* هذه إحدى حالات الوسواس القهري وهو مرض نفسي له أسباب بيولوجية ونفسية واجتماعية، فمن الناحية البيولوجية يوجد اضطراب في الناقلات الكيميائية العصبية في المخ وهذا يحتاج للعلاج الدوائي بجرعات عالية من عقارات مختلفة أهمها الكلوميبرامين (Anafranil) ومانعات استرداد السيروتوينن النوعية (SSRI) مثل الفافارين والفلوكستين والسيبرام .
ومن الناحية النفسية تكون هناك حالة من القلق المتصاعد يحاول المريض تهيئته من خلال القيام بالأفعال القهرية لعله يستريح. وباستمرار الحالة تحدث ارتباطات شرطية كثيرة مع أشياء في بيئة المريض بحيث تصبح هذه الأشياء مثيرة لفكرة التلوث، ومع التعميم يجد المريض نفسه محاطاً بكثير من مثيرات الوساوس والأفعال القهرية وفي محاولته لتجنب هذه المثيرات تتقلص المساحة التي يتحرك فيها بحيث تصبح غرفة واحدة في المنزل أو حتى جزء من غرفة، ولهذا يطلق على هذا المرض اسم (الحصر) حيث يحصر المريض في دائرة ضيقة لا يستطيع الخروج منها.
ويحدث كل هذا رغم علم المريض بأنه غير منطقي وغير صحيح فهو يمتلك بصيرة بعدم معقولية وساوسه وأفعاله القهرية ولكنة مع هذا لا يستطيع أن يقاومها، فهو ليس مجنوناً بل يتمتع بكامل عقله ومع هذا يقوم مضطراً بهذه الأفعال القهرية المستغربة منه ومن كل من يتعامل معه.
أما الجانب الاجتماعي لهذا المرض فيتمثل في سيطرة الوساوس والأفعال القهرية على علاقات المريض وحركته داخل المجتمع حيث يفرض عليه المرض قطع علاقاته بكثير من الناس ترتبط بهم الوساوس حيث يعتقد أنهم مصدر عدوى له أو لأحد من أفراد أسرته فيقاطعهم دون سبب منطقي واضح أو يتأفف من التعامل معهم، وربما يكونون ذو أهمية اجتماعية له فيؤثر ذلك على حياته الاجتماعية ومستقبلة العملي.
والوسواس حين يهمل علاجه يتحول إلى مجموعة من العادات والطقوس الراسخة، وهنا يحتاج المريض إلى ما يسمى بالعلاج السلوكي وهو باختصار يتضمن تعريض المريض لمثيرات الوساوس بشكل تدريجي مع منعه من القيام بالأفعال القهرية من خلال برنامج علاج سلوكي محدد.
وكثيراً ما يفيد انتقال المريض إلى مكان جديد تقل فيه مثيرات الوساوس ويعطى المريض فرصة للاستراحة من العادات والطقوس القهرية التي كان مستعبداً لها في بيئته الأولى وإن كان هذا التأثير مؤقتاً حيث إذا لم يواكب ذلك علاجاً فعالاً فسرعان ما يكون للمريض ارتباطات وسواسية مع عناصر البيئة الجديدة التي انتقل إليها.
واقرأ أيضًا:
هل الوسواس القهري نوعٌ من الجنون/ بين الوسواس القهري والفصام: نسخة مجانين!/ بين الوسواس القهري والفصام/ التخزين المرضي: وسواس أم فصام؟