أولاً: كيف نعرفُ أن في أسرتنا مريضٌ بالوسواس القهري؟
لعلَّ أهمَّ نقطةٍ في هذا الموضوعِ هوَ أن تعرفَ الأسرةُ بادئَ ذي بدء أن واحدًا من أفرادها مريضٌ بالوسواس القهري، علمًا بأن هناكَ حالاتٌ لن تعرفَ الأسرةُ فيها أن أحد أفرادها يعاني كل هذه المعاناة، وذلك لسببين:
1- السبب الأول هوَ أن الكثيرَ من أعراض الوسواس القهري إنما توضعُ على نفس المتصل الذي توجدُ عليه التصرفات الإنسانيةُ العادية فهيَ نظافةٌ أو هيَ حرصٌ أو دقةٌ أو انضباطٌ أو هيَ اهتمامٌ أو هيَ انشغالٌ لكنهُ زائدٌ عن الحد، أي أنهُ على نقطةٍ متطرفةٍ من المتصل، والتفريقُ بينَ ما هوَ طبيعي وما هوَ غيرُ طبيعي يحتاجُ إلى وضع حدٍّ فاصلٍ نتفقُ عليه جميعًا وذلك في حد ذاته صعب! لكنَّ من الممكن أن نعتبرَ من وجود تأثيرٍ سلبيٍّ لأيٍّ من هذه الصفات على أداء الشخص لواجباته الأسرية أو الوظيفية أو الاجتماعية أو وجودَ معاناةٍِ شخصيةٍ واضحةٍ بسبب هذه الصفات بدايةً للتداخل بين ما هو طبيعي وما هوَ مرضي.
2- والسببُ الثاني هوَ أن الكثيرَ من المرضى كما ذكرتُ من قبل يعانونَ في صمت ويكتمون سر معاناتهم خوفًا من اتهامهم بالجنون ومعظم هؤلاء طبعًا يعانون من أفكار اجترارية Obsessive Ruminations ومن أفعال قهريةٍ من النوع العقلي Mental Compulsions وهوَ ما يسمحُ لهم بالمعاناة في صمت دونَ أن يحسَّ أحدٌ من المقيمين معهم في نفس البيت إلا بأنهم يعانون من الأرق أو التوتر وهكذا، لكنَّ معظمَ الطقوس القهرية الحركية يصعبُ إخفاؤها خاصةً وأن معظمها يتعلق بالنظافة والتكرار، وبالتالي فإن من السهل ملاحظةَ قيام الشخص بغسيل يديه أكثر من الشخص العادي، ومن السهل ملاحظةَ قيامه بالتحقق من أدائه للأفعال التي يفعلها الناسُ كلهم ببساطةً ولا يحسون بالرغبة في التحقق أو التأكد من فعلهم لها والمثل الشائع هنا هو التحقق لأكثر من مرة من إغلاق الباب أو القفل أو أنبوبة الغاز، وهناكَ أيضًا من يلاحظُ اضطرارهم إلى العد أثناء قيامهم بأعمالهم اليومية، وهناكَ من يبدونَ تخوفًا وتجنبًا مثلا من لمس الأشياء التي يلمسها الناسُ عادةً بلا خوف ولا قلق بل ربما بفرح مثل الأوراق النقدية المستعملة!
وأما من هم أكثرُ عرضةً للوسوسة في صمت فهم الأطفالُ لأنهم في كثيرٍ من الأحيان لا يعرفونَ أن شيئًا غير طبيعيٍّ يحدثُ لهم، ويحتاجُ الطفلُ إلى فترةٍ طويلةٍ من الوقت لينتبه إلى اختلافه عن أقرانه أو ربما نبههُ أحدهم لذلك، وربما يلاحظُ المدرس في المدرسة قبل الأهل أيضًا، وكما بينا في مقال: اضطراب الوسواس القهري في الأطفال يمكنُ أن يلاحظَ الوالدان بعض العلامات على الطفل تجعل من الحاجةِ إلى ملاحظة تصرفاته بشكلٍ أدق أمرًا لا بد منه.
ثانيًا: كيفَ نتصرف في المرحلة الأولى بعد اكتشاف المرض؟
ولنفترض أن الأسرةَ عرفت أن أحدَ أفرادها يعاني من اضطراب الوسواس القهري ما هوَ الأسلوبُ الذي يجبُ إتباعه لكي يصلوا به إلى بر السلامة والأمان؟ من المفروغِ منهُ بالطبع أن لجوءهم للطبيب النفسي هوَ أولُ ما يجبُ فعلهُ، ولكنَّ الغرضَ الأساسي من هذا الفصل هو بيانُ كيفيةِ التعامل مع المريض الذي يحاولُ إشراكَ أهله في الطقوس القهرية، سواءً أكانت في شكل أسئلةٍ يظلُّ يسألها ويكررها ويطلبُ الإجابةَ عليها لكي يطمئنَّ هل نجيبُ عليه ليطمئنَّ أم نتركهُ ليخبطَ رأسهُ بالحائط؟ وإذا تمثلت الأعراضُ في شكل طقوس معينة في الغسيل أو الوضوء أو غير ذلك، وماذا يكونُ ردُّ الفعل في حالةِ ما إذا طلب المريضُ من أعضاء الأسرة الالتزام بقواعدَ معينة في أدائهم للأنشطة اليومية العادية، أعتقدُ أن من المفيد أن أتكلم بشكل فيه تحديدٌ أكثرَ لأن كون المريض هو أحد الأبناء يجعل الكلام مختلفا عن كونه أحد الوالدين، ويختلف الكلام كذلك بناء على مَن مِن الوالدين هل هيَ الأم أم هو الأب؟.
-1- في حالة الأبناء: عادةً ما تتمثلُ المشكلةُ هنا في خوف الوالدين على الطفل أو المراهق من أن يصبحَ مريضًا نفسيا، ولعل لذلك الخوف ارتباطًا وثيقًا بالنظرة السلبية الموجودةِ في مجتمعاتنا العربية، والموروثة أصلاً عن الغرب رغم ما يعتقدهُ الكثيرون من أن الغرب ليس لديهم مشاكلُ من هذه الناحية والحقيقةُ أن النظرة السلبية للمرض النفسي والطب النفسي بالتالي هيَ موروثٌ غربي تلقفتهُ المجتمعات العربية التي انفصلت عن تاريخها تماما، المهم أن الكثيرين من الآباء والأمهات يطلبون من الطفل أو المراهق الكف عن أفعاله التي لا معنى لها وهم يتهمونه بأنهُ يستطيعُ أن يمنع نفسه وأن الأمرَ كله بيديه! وهم في ذلك واهمون طبعًا كما أن بعض الآباء والأمهات يرون في قدرة المريض أحيانًا على التحكم في أفعاله القهرية دليلاً على أن الأمرَ كلهُ بيديه! وهذا ما يسببُ الكثيرَ من الألم للمريض، وعلى العكس من ذلك نجدُ بعض الآباء ومعظم الأمهات يستسلمون تمامًا لكل ما يطلبهُ الطفلُ أو المراهقُ فيفعلونَ ما يريحُ ابنهم من العذاب بمعنى أنهم يشاركونهُ في إتمام الطقوس القهرية أو يلتزمون بالقواعد التي يضعها لهم فأنا أعرفُ أما كانت تغسلُ رغيفَ العيش الذي ستأكلُهُ بنتها بالماء والصابون! ثم تقوم بتسخينه على النار لكي يكونَ معقمًا بالشكل الكافي!
وفي الحالة الأولى يتعذب المريض دون فائدة تذكر، وفي الحالة الثانية يكتشف الأهل بعد فترة أن استسلامهم لأعراض ابنهم أو ابنتهم لا يساعدُ بل يضرُّ وينتجُ عنهُ تعميمٌ للأعراض وتضخيمٌ للمخاوف والشكوك وتعظيمٌ للشروط، فمثلاً في المثال الذي ذكرته والذي كانت الأم تغسل فيه العيش لابنتها بالماء والصابون ثم تسخنه أصبح ذلك غير كاف من وجهة نظر البنت بعد ثلاثة شهور من ممارسة الأم لذلك، وطلبت من أمها أن تستخدم الكحول الأبيض بعد الماء والصابون وهنا خافت الأم لأنها تعرفُ أن الكحول مسكر وكل مسكرٍ حرام! إذن الاستسلام لا يحل المشكلة.
والمطلوب من أعضاء الأسرة لكي يكونُ تصرفهم على مستوى المسؤولية هوَ إعانةُ المريض على مرضه دون تجريح ولا سخرية لأن المريض يجبُ ألا يلام كما أن العديدَ من ردود الأفعال الأسرية مثل الاهتمام المفرط والحمائية الزائدة Emotional Over-Involvement كما يتمثل في الاستسلام لرغبات المريض أو عكس ذلك كالانتقاد Criticism أو العدائية Hostility كما تتمثلُ في اتهام المريض بأنه يستطيعُ التحكم في تصرفاته ولكنهُ لا يريد أو إلقاءُ اللوم عليه فيما قد تتعرضُ لهُ الأسرة من مشاكل كل ردود الأفعال هذه التي يتركُ فيها أعضاءُ الأسرة العنان لانفعالاتهم قد ثبتَ أنها تضرُّ أكثرَ مما تفيد.
-2- في حالةِ الأم/الزوجة: في هذه الحالةِ يكونُ الدور الأساسيُّ في التعاملِ مع الموقف واقعًا على عاتق الزوج، خاصةً الزوج المتواجد في البيت طبعًا لأن هناكَ أزواجٌ لا يدخلون البيت إلا للنوم في أيامنا هذه، ويمكنُ أن يصابَ أحد أبنائه بالوسواس القهري ولا يدري إلا إذا أخبرته زوجته، وأما عندما يصيبُ الوسواس القهري الزوجةَ فكثيرٌ من الأزواجِ لا يعلمون، وكثيرًا ما يكونُ علمهم بالأمر هو أول ما يدفعُ الزوجة لطلب العلاج خوفًا من رد فعل زوجها، فإذا علم الزوج فإن الموقف الذي يجب عليه اتخاذهُ من الأفكار التسلطية هوَ طمأنةُ زوجته ومساعدتها على العلاج.
وأما الموقف الذي يجبُ عليه اتخاذهُ من الطقوس القهرية فإنه يعتمد إلى حد كبيرٍ على طبيعةِ تلك الطقوس فهناكَ طقوسٌ تستهلكُ وقتًا كثيرًا من الزوجة بما يؤثرُ على واجباتها المنزلية وهناكَ منها ما يستهلكُ الإمكانات المادية للزوج كالإسراف في شراء المناديل الورقية والصابون والمنظفات بوجهٍ عام، المهم أن الموقفَ المثالي للزوج من الطقوس القهرية هو البيانُ الواضحُ لمدى قدرته على التحمل واستعدادهُ التام لمساعدة الزوجة في العلاج بشتى صوره شريطةَ أن تتعاون مع المعالج وأن تلتزم بالعلاج وعليه أن يطمئنَ المريضةَ وأن يذكرها دائمًا بأن عدم الاستسلام للفعل القهري لن يهد الدنيا وكل ما سيحدثُ هوَ زيادةٌ مؤقتةٌ للقلق وعليها بعد ذلك طبعًا أن يلتزم بنصائح المعالج.
والواقع أن المدى الذي يمكنُ أن تصل إليه شدةُ الأعراض القهرية ومدى تعميـمها على المواقف والأحداث يعتمد كثيرًا على مدى استعداد الأسرة للتحمل فهناكَ من تشتري ملابس جديدة في كل مرة تخرجُ فيها من البيت لأن الملابس قد تلوثت بالتأكيد! ولا يمكنُ أن ترتديَها مرةً أخرى، وهناكَ من تكتفي بغسيل الملابس مرتين بدل مرةٍ واحدة لأنها تعرف أن زوجها لن يشتري لها بديلاً لما ترميه في الشارع لأنهُ اتسخ! وأضيفُ هنا أيضًا أنهُ في بعض حالات أفكار التلوث التسلطية يصل الأمرُ إلى اضطرار الزوج إلى تغيير المسكن بصورة متكررة لأن الأمورَ تصلُّ في كل شقةٍ إلى الحد الذي لا يمكنُ معهُ استمرارُ العيش فيها فالزوجةُ يصلُّ خوفها من التلوث من هذه الشقة التي تعتبرها تلوثت بشكلٍ ليس لهُ حل إلى أن تمتنع تمامًا عن تنظيفها لأنها تخافُ من لمس أي شيءٍ فيها! بل إن هناكَ من تحجمُ عن رعاية أطفالها لأنهم لا يلتزمون بما تأمرهم به فلا تطبخُ لهم مثلاً، وهناكَ من تحرمُ على أسرتها أكلَّ اللحم الحيواني لأنها رأت ما يحدثُ عند بائع اللحم من إهمالٍ يمكنُ أن تتلوثَ الذبيحةُ بسببه وهيَ ترفضُ اللحم برمته نتيجةً لذلك.
وهكذا يمكنُ أن تصبحَ المرأةُ الموسوسة بالنظافةِ عكسَ ما كانت لأنها تعتبر أنه لا فائدةَ من التنظيف فهوَ لن يزيل التلوث الذي حدث فضلاً عن خوفها من أن تلوثَ نفسها، ويمكنُ أن يصبحَ حالُ أطفالها يرثى له بعد أن كانت موسوسةً في اهتمامها بهم، ويعتمد ذلك كلهُ إلى حد كبير على مدى ما تسمحُ به إمكانات الزوج المادية واستعدادهُ للاستسلام لوساوس زوجته.
وأما موقفُ الأبناءِ في حالة إصابةِ أمهم باضطراب الوسواس القهري فهوَ موقفٌ لا يحسدونَ عليه خاصةً في المرحلة الأولى أي في مرحلة اكتشاف أن ما تفعلهُ الأم من تصرفاتٍ تبدو غريبةً أو مبالغًا فيها هو علامةٌ من علامات المرض النفسي فهم من جهةٍ لا يستطيعونَ إخبارها بأنها مريضةٌ نفسيًّا خوفًا من أن يتهموا بقلة الأدب وهم في نفس الوقت من جهةٍ أخرى لا يستطيعونَ دائمًا طاعتها في كل تحكماتها ومتطلباتها، ولا ننسى بالطبع أنها الأم التي تجبُ طاعتها بحكم الدين، ولكن هل معنى ذلك أن عليهم طاعتها؟ وإلى متى تجبُ عليهم طاعتها؟.
إن هناكَ حالاتٍ رأيتها بعيني رأسي كانَ على الأولادِ فيها إن أرادوا الحياةَ في البيت كأبناء للأم أن يلتزموا حرفيا بتعليماتها والتي كان منها على سبيل المثال لا الحصر: الخروجُ من باب البيت ممنوعٌ في يوم الجمعة (لأن فيه ساعةُ نحس!) والدخول من باب البيت يجبُ أن يكونُ بالقدم اليمنى ومن باب الشقة إلى باب الحمام حيثُ يتمُّ خلعُ الملابس كلها والاغتسال ثم غسيل المفاتيح، وهكذا، وكانَ على البنت ألا تجلسَ مباشرةً على المقاعد الخشبية في الجامعة بل كان عليها أن تقوم بفرش مجموعةٍ من المناديل الورقية قبل الجلوس لكي لا تخالف أمها وهكذا، وهناكَ حالاتٌ تتسببُ أفكارُ التلوث التسلطية فيها إلى العزلة الاجتماعية التامة للمريض وللأسرة أيضًا فهم لا يفتحونَ باب البيت لأحد لأن الأم لا تثق في نظافته مثلاً وحتى في حالة ثقتها في نظافته أو في كونه سيلتزمُ بقواعد الوجود في الشقة فيلمس كذا ولا يلمسُ كذا على سبيل المثال، وأحيانًا يقاوم أعضاءُ الأسرة ذلك لكنهم كثيرًا ما يستسلمون لأن النتائج المترتبةَ على عدم طاعتهم للأوامر دائمًا ما تكونُ أسوأ من طاعتهم للأوامر.
ومعنى ذلك أن هؤلاء الأبناء يوضعونَ في صراعٍ مستمرٍّ ما بينَ رغبتهم في الحياة بشكلٍ طبيعي وبين التزامهم بتعليمات الأم وبين اضطرارهم للكذب عليها أحيانًا أو باستمرار، إن على الأبناءِ أن يستعينوا بالأب أو بالخال أو بالعم (أو من هم في مقامهم حسب الظروف الخاصة بكل أسرة) في مثل هذه الحالة لأن تركَ هذه الأمور لا يؤدي إلى هدوئها وإنما بالعكس إلى تفاقم المشكلة.
-3- في حالة الأب والزوج والعائل الوحيد: وهنا أصعبُ الأوضاع لأن الزوجَ هوَ الآمرُ الناهي وهو السيد المطاع في معظم البيوت العربية وليسَ كلُّ مريض بالوسواس القهري يعترفُ أمامَ نفسه وأمام الآخرين بأنهُ مريضٌ نفسي ولعلها هنا تكمنُ المشكلةُ فلو أن الأب على استعدادٍ للاعتراف بمرضه لما كانت هناكَ مشكلة، فمن الممكن أن يكونَ المريضُ هنا لا يعرفُ أنهُ مريض ومن الممكنِ أن يكونَ عارفًا بأنهُ مريض لأنهُ يعرفُ أنهُ ورثَ هذه الحالةَ عن جده أو أبيه مثلاً ولكنَّ معلوماته هيَ أنهُ لا علاج لمثل هذه الحالات وليست هناكَ بالطبع ثقافةٌ طبيةٌ نفسيةٌ لدى معظم الناس في بلادنا العربية ولا درايةٌ بالتطور الذي أحرزهُ الطب النفسي في أساليب وطرق العلاج، والذي يحدثُ في الكثير من الأحيان هوَ أن الزوجةَ والأبناءَ يلاحظونَ اضطراب تصرفات الأب ولكنهم يخافون من فتح الكلام في الموضوع.
وكثيرًا ما يستسلمونَ لتحكمات هذا الأب والزوج، وهناكَ حالاتٌ يصلُّ فيها استسلام المريض للطقوس القهرية إلى الحد الذي يؤثرُ على التزامه بعمله وقدرته على كسب لقمة العيش لأنهُ يتأخر عن مواعيد العمل، وأحيانًا يرفضُ الذهاب أصلاً للعمل، ومن المعروف أن ممارسي طقوس الغسيل وطقوس التحقق بصفةٍ خاصةٍ من أكثر الذين يقابلون مشاكلَ في عملهم، وهناكَ حالاتٌ قليلةٌ يتسببُ اتخاذُ أعضاء الأسرةِ لموقفٍ حادٍ من الطقوس القهرية التي يطلبُ منهم الزوج/الأب المشاركةَ فيها فيرفضون المشاركةَ إلى وقوف الأسرة على حافة الانهيار بالطلاق وأحيانًا يحدث الطلاق بالفعل!، فماذا يفعلُ هؤلاء المساكين؟ لابد في رأيي أنا من نوعٍ من طلب التدخل والوساطة من أهل الزوج أو أصدقائه المقربين ويحسن فعلُ ذلك بعد محاولة الكلام في الموضوع مع الزوج نفسه لأن فتح الموضوع بصورةٍ حكيمةٍ يمكنُ أن يكونَ كافيًا لاعتراف الأب/الزوج بوجود مشكلة، ويصبحُ اللجوء إلى الطبيب النفسي ممكنًا بعد ذلك.
ثالثًـا: كيف نتعاون مع المعالج أثناء العلاج؟
الحقيقةُ أن تعاونَ الأسرة مع المعالج أثناءَ العلاج يفيدُ فائدةً كبيرةً في التعجيل بعملية الشفاء وفي المحافظة على التحسن الذي يتم الوصول بفضل الله تعالى إليه، وإن كانَ هناكَ في بلادنا كثيرٌ من المرضى النفسيين بوجهٍ عام يقبلون على الطبيب النفسي دونَ علم أفراد أسرتهم ويطلبون من الطبيب ألا يجبرهم على إعلام الأهل بأنهُ يُعالجُ نفسيا وهو ما يجعلُ الطبيب والمريض وحدهما في العملية العلاجية ويجعل العلاج أصعب وأطول ولا حول ولا قوةَ إلا بالله.
ويحتاجُ الأمرُ بالطبع إلى فهم أعضاء الأسرة كلهم لطبيعة اضطراب الوسواس القهري ونوعية الأدوية المستخدمة في علاجه وطول المدة التي يقرر الطبيبُ النفسي احتياج المريض إلى الاستمرار على العلاج خلالها كما أن من واجب الطبيب النفسي أن يوضحَ للمريض وللمتوفرين من أعضاء الأسرة احتياج المريض إلى الصبر على الدواء الذي لا يعملُ إلا بعد فترة قد تصل إلى ثلاثةَ شهورٍ مع أن المريض يستخدمهُ كل يوم فهذه هيَ النقطةُ الأولى التي يحتاجُ المريض والأهلُ فيها إلى تعلم الصبر، وفي الحالات التي يكونُ فيها الأهل متفتحون ومستعدون للتعاون يستطيع الطبيبُ النفسي أن يشرح لهم مفاهيم العلاج السلوكي والمعرفي ويستطيعُ أن يتخذ منهم معاونين له في برنامج العلاج السلوكي الذي يتفق عليه مع المريض، ومن الممكن الاستعانةُ بأخ المريض أو أخته كما يمكنُ الاستعانةُ بالأبناء بشرط أن يكونوا على قدر من الفهم والوعي اللازم لإدراك الفرق بين دورهم كمساعدين للمعالج ودورهم كأبناء، وأن يفرقوا بين ما تجبُ عليهم فيه طاعة الأم أو الأب، وبينَ ما هو جزءٌ من المرض تجبُ عليهم إعانةُ الأب أو الأم عليه.
رابعًا: كيفَ نتعاون مع المريض والمعالج في مرحلة العلاج الوقائي؟
ولعلَّ من أهم المفاهيم التي يجبُ إيصالها للناس هنا هوَ أن الوقايةَ خيرٌ من العلاج بمعنى أن الاستمرار على العقار بعد حدوث التحسن أفضلُ من تركه وإعادةُ المحاولة كلها بعد رجوع الأعراض خاصةً وأن الدواءَ قد لا ينجحُ في كل مرة!، ومن النقاط الهامة هنا في مجتمعاتنا أن يوضح الطبيبُ النفسي أن الدواء المستخدم في العلاج سواءً كان من مجموعة الماس أو الماسا هو دواءٌ آمنٌ إلى حد كبيرٍ في حدود العلم والدراسات المتاحة منذ أكثر من عشرين عامًا وحتى يومنا هذا وأن الاستمرار عليه لفتراتٍ طويلةٍ آمنٌ أيضًا وأن تركهُ في أغلب الحالات يعني أن تعودَ أعراضُ الوسواس القهري إلى الظهور.
ثمَّ أن هناكَ نقطةٌ هامةٌ أيضًا وهيَ أن نتيجةَ العلاج إنما تقيمُ بابتعاد المريض عن السلوكيات القهرية التي كانَ يضيعُ أيامهُ في ممارستها، وبقدرته على فعل ومواجهة الأشياء التي كانَ يخافُ من مواجهتها، وكذلك بقدرته على التغلب على الأفكار التسلطيةِ إذا حدثَ أن هاجمتهُ في لحظةٍ ما وهو على العلاج، لكنَّ الغريب أن المرضى في بلادنا يريدونَ معنى آخرَ لنجاح العلاج وهوَ أن ينسوا أعراض المرض وفترةَ المرض بكل تداعياتها وتأثيراتها عليهم وعلى أسرهم ومن هذه التداعيات مثلاً أنهم ما يزالون يتناولونَ الدواء والذي يشكلُ في الكثير من الأحيان عبئًا اقتصاديا على الأسرة، أو أنهم ما زالوا يتذكرون الأفكار التسلطيةَ التي كانت تقتحمُ وعيهم ولا ينجحون في التخلص منها، ولا يكفيهم أنهم يستطيعون بعد العلاج التغلبَ عليها والتخلص منها فهم يريدونَ نسيانها تمامًا والواقعُ أن ما يطمحُ إليه العلاجُ هو أن تكونَ لدى المريض القدرة على التحكم في أفكاره وأن يستطيع التناسي؛
لا أن ينسى ما كان، أقول هذا القول لأنني لاحظتُ نوعًا من التعاون المستتر مع المريض ضد حالته أثناءَ مرحلة العلاج الوقائي، فترى أعضاء الأسرة يوافقون بصمتهم على ترك المريض للدواء وانقطاعه عن المتابعة مع طبيبه لأنهم يرون أنهُ تحسن ولم يعد بحاجةٍ إلى علاج ولا إلى طبيب، وهم في الحقيقة فضلاً عن مخالفتهم لنصائح الطبيب إنما يعبرون عن رغبتهم في التخلص من العبء المادي والمعنوي لاستمرار المريض على العلاج مع أن هذا هوَ السبيل الوحيد إذا أراد الله تعالى لبقاء مريضهم قادرًا على التحكم في وسواسه القهري.
واقرأ أيضًا:
رسالة لأهل مريض الوسواس القهري / علاقة الفعل القهري بالحدث العقلي التسلطي / هل هناكَ أنواعٌ من اضطراب الوسواس القهري؟ / الالتزام الديني والوسوسة هل من علاقة؟