تفاعلاً مع مقال "نطاق الوسواس القهري هل لنا أن نفكر؟ "، أرسلت صديقة مجانين تقول:
"الجميع يوسوس.. ويتألم وهذه هي الحياة"، د. وائل... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
عرفت موقعكم مجانين من صديقتي التي كانت تنقل لي مقالات طيف الوسواس القهري، فكنت أتصفح مقالة "نطاق الوسواس القهري هل لنا أن نفكر؟"، وكنت قد قرأت من أين بدأت الفكرة التسلطية الأولى وهي أول قراءة لي من موقعكم مجانين، وشعرت وقتها أن كل العالم موسوسين، لأنه دلت تجاربي الخاصة أنه لا يوجد شخص في هذه الحياة لا يحمل في رأسه فكرة "مؤلمة"، لكن يبقى الفرق أو الفيصل هو أثرها على سلوكنا وحياتنا وقراراتنا إن عشنا بسلام بها ومعها فالأمر عادي جدا وإذا كنا نتألم بسبها فهي فكرة "مكروهة" "لعينة" علينا التخلص منها بالماسا إن فقدنا الإرادة في التخلص منها، مع أن في نظري أن كل منا يحمل في رأسه فكرة أو أفكارا تطربه وتسعده حينا وتزعجه أحيانا كثيرة، وأنا منهم -من حملة هذه الأفكار- ولكني أرى أن هذا الأمر عادي جدا، لذلك لو تم وضع اختبار يقيس "ما نتمتع به من أفكار غير مؤذية" وما نحمله في رؤوسنا من أفكار مؤذية وعلى أساسه نحكم به على أنفسنا إن كنا موسوسين وسوسة غير طبيعية أو طبيعيين "موسوسين عاديين" على اعتبار أن كل شخص يحمل في رأسه فكرة أو أفكارا.
أرجو أن أكون أوضحت فكرتي...
18/12/2004
وردًّا عليها قال الدكتور وائل:
الأخت العزيزة أهلا وسهلا بك على مجانين، وأشكرك على ثقتك، أنا أتفق معك تماما في أن كل بني آدم عرضة للوسوسة، ولست أنا فقط من يتفق معك فهذا كلام علمي مدروس، وقد قلت في تقديمي لأحد كتاباتي عن اضطراب الوسواس القهري: (من السهل جدًّا أن تعودَ بذاكرتك متأملاً في خبرتك الشخصية "الطبيعية"، وتحاولَ أن تجدَ نوعًا من العلاقة أو الشبه بين ما ذكرتهُ أنا في السطور السابقة عن الوسواس وبينَ ما هو جزءٌ من خبرتك الشخصية "الطبيعية"، وأنا أعرف أنك في أغلب الأحيان ستجدُ صدى لا يمكنُ إغفالهُ لما أقول.
فمثلاً: كم مرةً حدثَ أن واتتكَ فكرةُ أنك لم تغلق باب البيت أو السيارة جيدًا وفكرت في الرجوع لكي تتحقق أو لعلك رجعت بالفعل وتحققت؟
كم مرةً مددتَ يدكَ في جيبك لتطمئنَّ إلى وجود المفتاح أو وجود رخصة القيادة إن كنتَ تقود سيارتك بنفسك أو تذكرة السفر إن كنت تسافرُ بالقطار أو الأتوبيس؟
إن ما يحدثُ لمريض الوسواس القهري ليس عجيبًا ولا شاذًا وإنما شبيهٌ في محتواه وفي معناهُ بما يحدثُ لمعظم إن لم يكن كل الناس فالدراسات التي أجريت حتى الآن على معظم الشعوب تشيرُ إلى أن نسبةَ ما بين الثمانين والتسعين بالمائة منهم تحدثُ لهم أفكارٌ اقتحاميةٌ من نفس نوع الأفكار التسلطية التي نجدها في مرض الوسواس القهري، ونفس الكلام ينطبقُ على الأفعال القهرية!
وإذا أردتُ أنا أن أصفَ ما أجدهُ في خبرتيَ الشخصية "الطبيعية أيضًا" فإنني بمنتهى الصدق حدثَ أن عدت لأتحقق من غلق الباب على مرات متفرقة في حياتي خاصةً في طفولتي وأيام امتحاناتي وأنا طبيب، وحدثَ وأنا أتوضَّأُ في الصباح أن واتتني فكرةٌ مؤداها(ماذا سيحدثُ لو حدثَ تلامسٌ بين مواسير الماء وأسلاك الكهرباء في حائط البيت، إنها ستكونُ الصعقة بالتأكيد، هل سأعرفُ ذلك بمجرد لمسي للصنبور؟ أم أنني سأفاجَأُ بالصعقة الكهربية وأنا أغسلُ وجهي مثلاً؟ ثم أليسَ من الممكن أن يحدثَ التلامسُ أثناء استعمالي للماء وبالتالي لا أكونُ مجرد من يكهربه لمسُ الصنبور فيصرخُ ويهرب؟)
وهكذا تتوالد في رأسيَ الأفكارُ وما زالت تعاودني أحيانًـا، وحدثَ وأنا في طريقي للمطار أن تحققتُ من وجود جواز السفر في حقيبة يد زوجتي عدةَ مرات، وأنا أعرفُ أن الغالبيةَ العظمى من الناس عندهم مثلُ هذه الخبرات في الذاكرة، وحكي لي أحد زملائي أنهُ أحيانًا تواتيه وهو يقود سيارته مسافرًا على الطريق السريع رغبةٌ في أن يفتح الباب ويلقي بنفسه من السيارة! وهو بالطبع غيرُ مكتئبٍ، فهل يعنى ذلك أننا نعاني من اضطراب الوسواس القهري؟
بالطبع لا لأن هذه الأفكارُ التي تشبهُ الأفكار الاقتحاميةَ وأحيانًا الأفعال التي تشبهُ الأفعالَ القهرية فضلاً عن كونها عابرةً، إنما تحدثُ لي وللكثيرين في أوقات الكرب أو الضغط النفسي أو الانشغال أو الإرهاق وربما تتسببُ في بعض الضيق لصاحبها لكنهُ يستطيعُ التخلص منها ومقاومتها بسهولة وسرعان ما ينساها ولا تؤثرُ سلبًا على حياته، وهنا يبدو أنه يكمنُ الفرقُ بيننا وبينَ مريض اضطراب الوسواس القهري، فالظاهرُ أن الفرقَ الوحيدَ إنما يكونُ في كيفية تعاملنا مع هذه الأفكار الاقتحامية التي قد تطرأ على كل بني آدمَ أثناء خبراتهم الحياتية اليومية، فبينما نحنُ ننساها بسرعةٍ لا يستطيعُ مريض الوسواس القهري ذلك وإنما يجدُ نفسه أسيرًا لأفكار تتوالدُ من الفكرة الاقتحامية الأولى وتضخمُ المعاناة بشكل كبير)
إذن فأنا أتفق معك تماما، فقط أؤكد على أن الفيصل في الحاجة للعلاج عقاريا كان بالماس أو الم.اس.ا، أو معرفيا وسلوكيا، إنما هو أن ينتج عن وجود الفكرة التسلطية أو الفعل القهري خللٌ ما في أداء الإنسان في حياته الدنيوية بكل مناحيها، أو في علاقته بربه سبحانه وتعالى، فهنا لابد من تلقي العلاج.
وأما ما تقترحينه في قولك: (وضع اختبار يقيس "ما نتمتع به من أفكار غير مؤذية" وما نحمله في رؤوسنا من أفكار مؤذية)، فلنترك الأفكار غير المؤذية فلا حاجة بنا الآن لدراستها أو قياسها، وأما قياس الأفكار المؤذية فإنما تقصدين أن يكونَ لدينا مقياس للوسوسة، وهناك بالفعل مقاييس أجنبية الصنع من النوع الذي تنشدين وبعضها ترجم وقنن في البلاد العربية، وهناك المقياس العربي للوسواس القهري وكلها مع الأسف مقاييس اكتشفت أنها لا تعبر بصدق عن واقع حال مرضانا من العرب المسلمين، لأن جلَّ وساوسهم الدينية تختزل في عبارة أو عبارتين، واكتشفت أن معظمهم لا يجيب عليها بنعم رغم أنها موجودة! أتدرين كيف؟
أقول لك: إذا افترضنا أن السؤال هو: هل تجد نفسك مدفوعا لتكرار أشياء لا معنى لها؟ فإن المريض بوسواس الوضوء سيجيب لا بينما هو يقضي الساعات يتوضأ ويعيد الوضوء، لسببٍ بسيط هو أنه يجد لهذا الفعل ولتكراره ألف معنى!، ونفس هذا المريض إذا سألته كما في معظم المقاييس المتاحة: هل تهتم كثيرا بالنظافة؟ سيقول لا وإذا سألته هل تبالغ في غسل يديك أيضًا سيقول لا لأن الوضوء أمرٌ مختلف في وعيه عن النظافة، وهذا الكلام جزء من كثير، سننشره إن شاء الله على مجانين.
وبسبب ما تقدم فقد بدأت أنا والأخت المستشارة الدكتورة داليا مؤمن، وأخي الأكبر الدكتور محمد شريف سالم عملا نسأل الله أن يعيننا عليه، وهو أننا أخذنا من شكاوى أهلنا من المرضى المسلمين، سواء في أماكن عملنا أو من على استشارات مجانين وبدأنا في صوغ مقياس للوسواس القهري يكون مناسبا للمريض العربي، ونسأل الله أن يعيننا على إكماله وتقنينه، فسليه لنا التوفيق، وأهلا وسهلا بك دائما على مجانين.
اقرأ أيضاَ:
هل الوسواسُ القهري نوعٌ من الجنون؟/ ما هو مصدر الفكرة التسلطية (الوسواسية) الأولى؟(2)/ الوسواس القهري بينَ عالم الغيب وعالم الشهادة