ظل اضطراب الوسواس القهري حتى سنة 1983 يعتبرُ اضطرابًـا نادرًا، فكانت التقديرات القديمة تشير إلى نسبة الخمسة من بين كل عشرة آلاف شخص أي بنسبة 0,05% وكانت هذه التقديرات تعتمد على دراساتٍ أجريت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وفي دراسة إنجليزيةٍ نشرت في عام1974 كانت نسبةُ وجود اضطراب الوسواس القهري في مرضى العيادات النفسية 1%وفي نزلاء المستشفيات النفسية اختلفت النسبةُ ما بين0,1% و4,0% وذلك حسبَ الدراسات المختلفة، وأما عن نسبة المرض في عامة الشعب فكانتْ نفس النسبة القديمة التي وُرِّثـتْ من سنة 1953 أي خمسة في كل عشرة آلاف نسبةً مقبولةً إلى حدٍّ بعيد.
وَفي دراسة قديمةٍ لعكاشة كانتْ نسبة اضطراب الوسواس القهري في المرضى المترددين على العيادة النفسية الخارجية لطب جامعة عين شمس 2.6 % ويقولُ عكاشة في كتابه الطب النفسي المعاصر تحتَ عنوان العصاب القهري الوسواسي: "إن هذا العصاب من أقل الأمراض النفسية شيوعًا"، وتقول نجمة الخرافي "وحالات الوسواس بصورةٍ عامةٍ نادرةٌ، وقد أدت هذه الندرةُ في الحالات ونقص الأساليب الإحصائية المتطورة في الطب النفسي إلى بطءٍ شديد في تطور النظرةِ الحديثةِ إلى هذا المرض".
وفي الطبعة الثانية من كتاب أكسفورد يقول المؤلفون: (إن اضطراب الوسواس القهري أقل انتشارًا من عصابات القلق الأخرى، حيثُ يبلغُ معدل انتشاره خلال عام ما بين 0,01%و0,23% وذلك حسب دراسة نشرت عام1980)، ثم يضيفونَ أن "دراسةً أمريكيةً أحدثَ استخدمت فيها معايير التشخيص المدرجة في التقسيم الأمريكي للأمراض النفسية -التصنيف التشخيصي الإحصائي الثالث DSM III-، وجدتْ معدل الانتشار الحياتي Lifetime Prevalence أعلى بكثير من كل التوقعات السابقة حيثُ وصل إلى ما بين 2% و3% أي من شخصين إلى ثلاثة من كل مائة شخص)، وهكذا كان المؤلفون لكتاب أكسفورد يشككون من باب خفيٍّ في إمكانية أن يكونَ السبب في هذه النسبة العالية في الدراسة الأمريكية هوَ عدم صلاحية معايير التشخيص الأمريكية وإن لمْ يذكروا ذلك صراحةً. إلا أنَّ الدراسات المسحية أو الوبائية التي أجريت على عامة الشعب الأمريكي وبالتحديد الدراسة التالية: (National Institute of Mental Health “NIMH” ECA Epedimiologic Catchment Area Study).
وغيرها من الدراسات المسحية التي أجريت على الشعوب الغربية الأخرى في عدة بلدان أثبتت بوضوح أن اضطراب الوسواس القهري يوجد بين الناس بنسبٍ تتراوح ما بينَ 35 و60 ضعفًا للنسب القديمة،حيث وصلت معدلات الانتشار الحياتية لاضطراب الوسواس القهري إلى -2,41,2% في الدراسة الأمريكية وفي دراسة أخرى وصلت النسبةُ إلى 2,8%.
وأمام هذه النتائج كانَ هناك احتمالان لتفسير الفرق الكبير بين نتائج الدراسات القديمة والدراسات الحديثة، أما الاحتمالُ الأول فهوَ أن الكثيرَ من حالات اضطراب الوسواس القهري يعيشون في المجتمع دونَ أن يذهبوا للطبيب النفسي ولذلك أظهرتهم الدراسات التي أجريت على عامة الشعب وليس على مرضى العيادات النفسية، وأما الاحتمال الثاني فهوَ أن الدراسات الحديثة شملت حالات لها تشخيصات أخرى غير اضطراب الوسواس القهري أو أنها لا ترقى إلى كونها اضطرابًا نفسيا من الأصل، ولكنهم شخصوا خطأً في هذه الدراسات.
فإذا ناقشنا الاحتمال الأول فإن فيه الكثيرَ من الوجاهة لأن عدة أسباب تؤدي إلى عدم لجوء المريض بالوسواس القهري إلى الطبيب النفسي في الكثير من الحالات بمعنى أنهُ لن يوجدَ في العيادات النفسية وإنما في المجتمع:
1- الأعراضُ التي يتسمُّ بها اضطراب الوسواس القهري في كثيرٍ من الحالات خاصةً الخفيفة الشدة تبدو شبهَ طبيعيةٍ في نظر المريض وفي نظر أهله لسبب بسيط هوَ أنها تمتدُ من صفاتٍ محمودةٍ اجتماعيا فمثلاً نظافةٌ زائدةٌ بعضَ الشيء أو انضباطٌ زائدٌ بعضَ الشيء أو دقَّـةٌ زائدةٌ بعضَ الشيء أو حرصٌ زائدٌ بعض الشيء وكلها أشياءٌ لا تستدعي في نظر غالبية الناس العرض على الطبيب النفسي هذا إذا اعتبرنا أنها قد نُـظِـرَ إليها على أنها غير طبيعية من الأساس في رأي المريض أو أهله، بل إن هناك ما يشيرُ إلى أن بداية اتصاف الشخص الذي تبدأ معه الأعراض في طفولته بهذه الصفات كالنظافة الزائدة أو الدقة الزائدة إنما يُـشجَّـعُ عليه الطفل في البيت وفي المدرسة ويحتاجُ الأمرُ في كثيرٍ من الأحيان إلى شدة أعراض أعلى من اللازمة لتشخيص الاضطراب عند الطبيب النفسي لكي ينتبه المريضُ أو أهلهُ لوجود شيءٍ غير طبيعي، ومما يعززُ هذا التصور أن فترةً ليست بالقصيرة عادة ما تمرُّ بينَ بدءِ معاناة المريض وبين عرضه على الطبيب النفسي، فإذا قارنا ذلك بأعراض اضطرابات نفسية أخرى كاضطراب القلق المتعمم أو الفصام أو الاكتئاب الجسيم لوجدنا أن قدرة الشخص والأسرة على تحمل الأعراض فترة قبل اللجوء للطبيب النفسي أقل منها في حالات الوسواس القهري ويستثنى من ذلك بالطبع حالات الوسواس القهري الشديدةُ التي لا يستطيع تحملها لا المريضُ ولا أهلهُ.
2- ميلُ الكثيرينَ من مرضى الوسواس القهري إلى إخفاء معاناتهم لخوفهم من أن يعتبرها الناس جُـنونًا أو دليلاً على الكفر أو ضعف الإيمان "في حالة المرضى المتدينين" أو ضعف الشخصية أو غيره، ثم أن هناكَ ملحوظَـةً أخرى ربما كانتْ لها علاقةٌ أيضًا بالنقطة السابقة وهيَ أن مريضَ الوسواس القهري يتميزُ باتساع نطاقِ ما يعتبرهُ طبيعِيًّـا من التصرفات مقارنةً بغيره من المرضَى فإذا أضفنا ذلك إلى خوفه من اتهام الناس له بالجنون أو الضعف لفهمنا لماذا هو مستعدٌ لتحملُ المعاناة في صمت.
3- أما ما يضافُ إلى ذلك فهوَ عدم اكتشاف اضطراب الوسواس القهري من جهة الطبيب العام أو المتخصص في غير الطب النفسي رغم لجوء المريض لطلب العلاج من آثار الوسواس القهري فمثلاً هناكَ من مرضى اضطراب الوسواس القهري الذين يعانون من أفعالٍ قهرية تتعلق بالنظافة من يعرضون على طبيب الأمراض الجلدية وتشخص حالاتهم على أنها التهاب جلدي أو حساسية جلدية للمنظفات دونَ أن يحاول الطبيبُ معرفة السر الحقيقي وراء ذلك والمريضُ بالطبع لن يتكلم من تلقاء نفسه في أغلب الحالات، وهناك ما هو أقلُّ شهرةً ولكنهُ منتشرٌ في بلادنا ويتعلقُ بمرضى اضطراب الوسواس القهري الذين يعانون من وساوس تتعلق بانضباط القولون Bowel Obsession من عدمه حيثُ يشكُّ الواحدُ منهم في نقضه للوضوء وفي كثير من الأحوال يستجيبُ القولون بشكل عصبي فيزيدُ الأمور سوءًا كثيرونَ من هؤلاء المرضى لا ينتبه إليهم الطبيب الباطني ولا يحاول أن يبحثَ وراء شكاواهم وعادة ما يكتفي بوصف بعض أقراص الفحم وبعض مهدئات القولون.
وهكذا نستطيعُ أن نشبهَ حالَ مرضى اضطراب الوسواس القهري بمثال الكرة الثلجية المغمورة جزئيًّـا في الماء (والذي سمعتهُ من الدكتور أحمد عكاشة في إحدى محاضراته ونسبهُ إلى بروفيسور هافنر) كما في الشكل أعلاه. والحقيقة أن هذا هو الحال في كثيرٍ من الاضطرابات النفسية ولكن هذا التشبيه ينطبقُ أكثرَ ما ينطبق على اضطراب الوسواس القهري:
1- فجزءٌ ضئيلٌ من الكرة الثلجية يظهرُ فوقَ سطح الماء وهؤلاء هم المرضى اللذين يعرفون أنهم مرضى باضطراب نفسي اسمه اضطراب الوسواس القهري.
2- وأما الجزءُ الكبيرُ المغمور تحت الماء فيشملُ جزءًا كبيرًا يمثل المرضى الذين لا يعرفون أنهم مرضى فيحسبون أن هذا هو قدرهم أي أن الله خلقهم كذلك!
3- وأما الجزء الصغيرُ تحتَ الماء فيمثلُ أولئك المرضى الذين يفقدهم الأطباء إي الذين لا ينتبه الأطباءُ إلى كونهم مرْضَى باضطراب الوسواس القهري لأنهم يعرضونَ عليهم لأسبابٍ أو شكاوى مرضية أخرى رغم كون هذه الأمراض أو الشكاوى في معظم الأحوال جزءًا من اضطراب الوسواس القهري وذلك لسببين أولهما أن المريضَ يعتبرُ أفكارهُ التسلطية وأفعالهُ القهريةَ إما طبيعية أو جديرة بالكتمان لكي لا يظنهُ الناسُ مجنونًـا وثانيهما أن السواد الأعظم من الأطباء من التخصصات الطبية المختلفة بعيدًا عن الطب النفسي "خاصةً في منطقتنا العربية" لا يعرفون أصلاً ما هو اضطراب الوسواس القهري ولا تختلفُ أفكارهم عنه عن أفكار الناس من غير الأطباءْ.
اقرأ أيضاً:
هل الوسواس القهري لا يعالج؟ / هل يؤدي الوسواسُ القهري إلى الجنون؟ / نطاق الوسواس القهري هل لنا أن نفكر؟ / الوسواس القهري بين الدين والطب الفسي