اضطراب نتف الشعر: مقدمة
بينما اعتبر نتف الشعر لسنوات طوال مجرد عادة عصبية Neurotic habit ، فقد أضفت عليه أدبيات التحليل النفسي Psychoanalysis، معانٍ جنسية، حيث اعتبرته تعبيرا عن شكل من أشكال صراع جنسي لا واعٍ (Berg, 1936) و (Sperling,1954) و(Masserman ,1955) أو شكلا من أشكال تفريغ الشحن العصبي أو حتى بديلا للعادة السرية (Zaidens,1951)، وفي منتصف الستينات من القرن الماضي اعتبر نتف الشعر ناتجا عن التفاعلات العصابية neurotic family interactions كطريقة للتعامل مع القلق الصراعات (Greenberg & Sarner 1965)، وابتعدت بذلك التفسيرات قليلا عن الجنس.
ومع تزايد قوة التوجهات السلوكية في الطب النفسي بدأت التفسيرات السلوكية في أخذ الصدارة فاعتبر نتف الشعر واحدًا من مجموعة سلوكياتِ الاستجابة للكرب النفسي أو الضيق أو التوتر، وتضم أيضًا مص الإبهام thumb-sucking وقضم الأظافر بالأسنان nail-biting or Onychophagia واضطراب نقر الجلد المتكرر Psychogenic Excoriation واضطراب تشويه الجسد المتكرر Repetitive Self-Mutilation أو إيذاء النفس المتكرر إلخ...، ويرى معظم الكتاب السلوكيُّين (Azrin,& Nunn 1978) أن سلوك النتف في بداياته يكونُ قليل الحدوث إلا أنه يتعززُ بالتكرار لعدة أسباب هي:
1- التعزيز بإنقاص الضيق tension reduction
2- التعزيز من خلال تشريط conditioning نتف الشعر مع كثير من المشعرات البيئية أو النفسية
3- عدم دراية المريض بما ينزلق إليه من سلوك يشوه به نفسه.
4- عدم انتباه المحيطين، لأن الفعل غالبا ما يتم في السر.
ومن الواضح أن التفسير السلوكي رغم نجاح طرق العلاج المبنية عليه، لا يستطيع أن يقدم لنا بشكل يقنعنا سببَ لجوء البعض دون الآخرين لنتف الشعر استجابة لما يكادُ أن يكونَ خبرات يتعرض لها الناس جميعا فالكرب النفسي أو الضيق أو التوتر هي خبرات يتعرض لها كل بني آدم يوميا، لكن نسبة قليلة فقط هم من يلجئون لنتف الشعر للتعامل مع مثل تلك الخبرات، إذن فبالضبط مثلما تستطيع النظرية السلوكية المعرفية أن تفسر تعزيز الوساوس والأفعال القهرية في مرضى الوسواس القهري لكنها تعجز عن الإجابة على سؤال: ما هو مصدر الفكرة التسلطية (الوسواسية) الأولى؟، نجدها أيضًا تعجز عن إجابة سؤال: لماذا ينتف البعض بدايةً بينما لا ينتف آخرون رغم تعرضهم لنفس الظروف؟
وفي تسعينات القرن العشرين عندما تبلورت مجموعة من الملاحظات أدت إلى ظهور مفهوم نطاق الوسواس القهري في أدبيات الطب النفسي الغربي، ووجد اضطراب نتف الشعر مكانه بوضوح ضمن ذلك النطاق بدأت بعض التفسيرات البيولوجية التطورية في الظهور (Swedo & Leonard 1992)، فقد ثبت ظهور الأعراض القهرية في حالات الأطفال بعد إصابتهم برَقَص سيدنهام (أو الرقاص) Sydenham’s Chorea والذي يلي الحمى الروماتزمية (Swedo et al., 1997) و(Swedo et al., 1998) أي أن للأمر علاقةً باضطراب المناعة الذاتية، وكذلك لوحظت الأعراض القهرية في الأطفال بعد إصابات النوى القاعدية في الدماغ وأيَضا بعد التهاب المخ الفيروسي وكل ذلك إضافة إلى علاقتها باضطراب العرات أو اللوازم الحركية أو الصوتية، كل ذلك يشيرُ إلى حدوث أعراض أيٍّ من اضطرابات نطاق الوسواس القهري كنتيجة لتلف مناطق معينة من المخ هيَ في معظم الأحوال في النوى القاعدية خاصةً النواة المُذَنَّبَةُ وكذلك الحزام والفص الأمامي للمخ.
وبناء على ما سبق وفي محاولة لفهم نتف الشعر من خلال نموذج نظام/حيوي Neurobiological System or ethological model افترض سويدو وليونارد (Swedo & Leonard 1992) وجود عتبة معينة من الاستثارة يبدأ الكائن عندها في القيام بسلوكيات التهيؤ grooming behaviors ، وأن تعرض تلك المناطق من المخ للتلف الجزئي بسبب اضطراب المناعة الذاتية عقب الإصابة ببكتريا الحلق العقدية أي التهاب اللوزتين العادي المعروف والمنتشر جدا في كل الأطفال، يؤدي ذلك التلف إلى خفض تلك العتبة وبالتالي يصبح الطفل أكثر استعدادا لأفعال التهيؤ التكرارية ومن بينها نتف الشعر، ويسمى هذا النوع من الاضطراب النفسي العصبي الناتج عن خللٍ ما يصيبُ النوى القاعدية البانداس PANDAS اختصارا لعبارة:(ediatric Autoimmune Neuropsychiatric Disorder Associated with Streptococcal Infection Swedo et al.,1998)، وقد يصلح هذا النموذج الافتراضي لإجابة سؤال: لماذا ينتف البعض بدايةً بينما لا ينتف آخرون رغم تعرضهم لنفس الظروف؟، خاصة وأننا كلنا نصاب بالتهاب الحلق، وأن معدل انتشار نتف الشعر في الأطفال أعلى منه في الكبار، وأن نتف الشعر العابر كثيرا ما يلاحظ في الأطفال، ولكن ليس الكلام أكثر من نظرية.
والحقيقة أن ما لدينا حتى الآن من معطيات علمية إنما يساعدنا في وضع اضطراب نتف الشعر ضمن نطاق الوسواس القهري أكثر مما يساعدنا على وضعه في أإطار أي نظرية علية أخرى، فهناك من التقارب في الصورة المرضية والتاريخ الأسري وربما الاستجابة العقَّارية بين اضطراب نتف الشعر وبين اضطراب الوسواس القهري أكثر مما يوجد من اختلاف كما يبين الجدول التالي:
موضوع المقارنة | اضطراب نتف الشعر | اضطراب الوسواس القهري | |
1 | سلوكيات تصفيحية أو قولبية (stereotypical behaviors) | نعم | نعم |
2 | يرى المريض السلوك تافها بلا معنى أو ضارا | نعم | نعم |
3 | نصف المرضى أو أكثر يعانون من اضطرابات اكتئاب أو قلق أو كليهما بصورة مزمنة | نعم | نعم |
4 | قد تلي الأعراض اضطراب المناعة الذاتية Autoimmune Disorder | نعم | نعم |
5 | يؤدي استخدام عقَّار الكلوميبرامين إلى تثبيط الاستقلاب (الأيض) metabolism في المنطقة الحجاجية الأمامية orbital frontal والحزام الثفني الأمامي anterior cingulate | نعم | نعم |
6 | معدل انتشار أعلى للاضطراب الآخر أو السلوكيات المشابهة في عائلة المريض | نعم | نعم |
7 | وجود الفكرة التسلطية | أحيانا | دائما |
8 | يأتي المريض الفعل للهرب من أو منع حدوث مكروه (Skodol & Oldham 1996) | لا | نعم |
9 | يعطي الفعل شعورا عابرا بالمتعة (Skodol & Oldham 1996) | نعم/غالبا | لا |
10 | ثبات الأعراض مع الوقت (الظاهرة القهرية) | ثابتة طوال الاضطراب (النتف) | تتغير من موضوع لآخر |
11 | بداية أعراض الاضطراب في سن مبكر(Skodol & Oldham 1996) | نعم (11-13) | غالبا في سن أكبر |
12 | التوزع بين الجنسين(Skodol & Oldham 1996) | أكثر في الإناث | متساوي |
ولما كانت عملية النتف في أغلب الأحيان مصحوبة بتقليل الشعور بالتوتر النفسي فقد اعتبرها البعض مرتبطة بعملية تنظيم المشاعر emotion-regulation ، كما وضعت أيضًا نظريات تربط اضطراب نتف الشعر بإفراز الأفيونات الداخلية endogenous opioids بشكل يعززُ سلوك النتف ويعززُ تكراره بنفس المنهجية التي افترضت لتفسير سلوكيات إيذاء النفس self-harming behaviors إلا أن كل المعلومات المتاحة حتى الآن ليست أكثر من نظريات لها ما يبررها ويتوافق معها ولكنها في نفس الوقت تعجز عن تفسير كل الحالات، وربما نستطيع أن نعتبر اضطراب نتف الشعر متعددَ الأسباب وقد يختلف السببُ من حالة لأخرى، وكذلك فإن المتاح من النظريات ما يزال يفسر كيفية استمرار السلوك من جانب المريض رغم الأذى الواضح والقيود التي يفرضها ذلك الاستمرار على حياته لكن كل النظريات لا تقدم السبب الأصلي أو المبدئي ما تزال، وأقوى النظريات حتى الآن هي التي تضم اضطراب نتف الشعر إلى نطاق الوسواس القهري
المراجع:
1-Berg C.(1936): The unconscious significance of hair. Int J Psychoanal. 1936;17:73-88.
2-Sperling M.(1954): The use of the hair as a bisexual symbol. Psychoanal Rev. 1954;41:363-365.
3-Masserman J (1955): Dynamic psychiatry. Philadelphia: W.B. Saunders Co: 163-171, 1955.
4-Zaidens S(1951): Self-inflicted dermatoses and their psychodnamics. J Nerv Ment Dis 113: 400-402, 1951.
5-Greenberg HR, Sarner CA.(1965): Trichotillomania, symptom and syndrome. Arch Gen Psychiatry. 1965;12:482-489.
6-Azrin, NH, Nunn RG.(1978): Habit control in a day. New York, NY: Simon & Schuster; 1978
7-Swedo SE, Leonard HL.(1992): Trichotillomania: an obsessive compulsive spectrum disorder? Psychiatr Clin North Am. 1992;15:777-790.
8-Swedo SE, Leonard HL, Mittleman BB, et al (1997) : Identification of children with pediatric autoimmune neuropsychiatric disorders associated with streptococcal infections by a marker associated with rheumatic fever. Am Psychiatry 154:110-112.
9-Swedo SE, Leonard HL, Garvey M, et al (1998) : Pediatric autoimmune neuropsychiatric disorders associated with streptococcal infections: clinical description of the first 50 cases. Am Psychi. 155:264-271
10- Skodol AE, Oldham JM (1996): Phenomenology, differential diagnosis, and comorbidity of the impulsive-compulsive spectrum disorders In: Oldham JM, Hollander E, Skodol AE, eds. Impulsivity and Compulsivity. Washington, DC: American Psychiatric Press; 1996:1-36.
ويتبع >>>>>>: اضطراب نتف الشعر التشخيص
اقرأ أيضاً:
اضطراب نتف الشعر Trichollomania مقدمة/ الوسواس القهري ونتف الشعر بينَ القهرية والاندفاع/ اضطراب نتف الشعر : نطاق الوسواس/ أكل الشعر : لا نتف الشعر فقط