متلازمة شم رائحة الجسدORS التشخيص
لا توجدُ في التصنيفات الطبنفسية الشائعة فئة تشخيصية خاصة باضطراب شم رائحة الجسد، فهوَ يعتبرُ عرضًا قد يظهر ضمن توليفةِ أعراضِ أيٍّ من الاضطرابات كالاكتئاب أو الفصام أو صَرْع الفص الصدغي (استنادا لتوليفة الأعراض الأخرى) أو الوهام أو الوسواس القهري (استنادا إلى نوعية الفكرة وهامية أم تسلطية)، ومعنى ذلك هو أن متلازمة شم رائحة الجسد ORS، ليس لها مكانٌ قائم بذاته في التصنيفات الطبنفسية الشائعة، وعلى الطبيب النفسي الذي يسمع الشكوى من رائحة الجسد من أحد مرضاه أن يبحثَ قدر استطاعته عن اضطراب أشمل ليحدد تشخيص الحالة.
إلا أن أكثر الحالات التي تأتي إلى الطبيب بشكوى رائحة الجسد غالبا ما تبقى لا تنطبق عليها الأعراض اللازمة لتشخيصات أخرى أشمل، وإنما يجد الطبيب النفسي أمام عرضٍ أو بالأحرى مجموعة أعراض كلها تتمحور حول الشكوى من صدور رائحة منفرة من الجسد، وبالتالي فإن المطالبة بفئة تشخيصية لتلك الحالات أمرٌ لائق.
وأحد الاقتراحات التصنيفية كان أن يعتبر اضطراب شم رائحة الجسد أحد أشكال اضطراب إدراك الشكل الجسدي Body Dysmorphic Disorder، أو ما كان يسمى قديما "رهاب التشوه" Dysmorphophobia، والمريض بهذا الاضطراب الأخير يعاني من فكرة تسلطية "وسواسية" متعلقة بتشوه في شكل منطقة معينة من الجسد، وأشهرها الأنف أو الشفتان أو الثدي أو الأرداف، وفي أغلب الأحوال يكون ذلك غير صحيح، أو على الأقل مبالغ فيه بدرجة كبيرة، وهذا المريض لا يستطيع تصديق الأدلة التي تثبت خلوه من التشوه أو العيب الخلقي في أنفه مثلا إلا أن مدى اقتناعه بوجود التشوه لا يصل إلى مستوى الفكرة الوهامية، أي أنه ليس مريضا ذهانيا، (وإلا انطبق عليه تشخيص الاضطراب الوهامي من النوع الجسدي)، لكن المريض في نفس الوقت لا يستطيع التخلص من الفكرة، كما أنه يفعل أيضا أفعالا قهرية من قبيل التحقق والرغبة في الاطمئنان على شكل العضو الذي يتخيل فيه التشوه من كل المصادر الممكنة، والواضح في اضطراب إدراك الشكل هو أن شكل الجسد وليست رائحته هي لبُّ الموضوع، إلا أن بعض الدراسات (Hollander & Aronowitz,1999) تشير إلى وجود اهتمامات وسواسية برائحة الجسد لدى بعض مرضى اضطراب إدراك الشكل "الجسدي"، أي أن هناك تداخلاً في الأعراض بين اضطراب إدراك الشكل "الجسدي" ومتلازمة شم رائحة الجسد ORS، إلا أن ذلك لا ينفي وجود الاضطرابين منفصلين في العدد الأكبر من الحالات، كذلك فإن قصر توهم التشوه على الشكل الخارجي هو تسطيح للأمور في الفكر الطبنفسي الغربي.
وكنت في التصنيف المقترح لاضطرابات نطاق الوسواس القهري (أبو هندي،2002) قد صنفت اضطرابات شم رائحة الجسد ضمن وساوس الخوف والريبة باعتبارها نوعا من أنواع وساوس التشوه على أساس أن تشوها بتوهمه المريضُ في رائحته الشخصية Personal Odor ، وقلت: "هذا النوعُ من المرضى تتسلطُ على الواحد منهم فكرةُ أن رائحةً منفرةً تصدرُ من جسده ويشمها الناسُ من حوله فمنهم من يتحرجُ من إخباره بذلك ومنهم من يتهربُ من الجلوس معه، ومن هؤلاءِ المرضى بالطبع من تكونُ هذه الفكرةُ لديه فكرةً تسلطيةً يعرفُ أنها خاطئة ولكنه لا يستطيع التخلص منها ولا حتى التصرفَ دائمًا على أساس أنها خاطئة، ومنهم من يصل مدى اقتناعه بصحة هذه الفكرة إلى البعد الذهاني فيعتبروها فكرةً صحيحةً يؤمنُ بها تمامًا أي أنها تصبحُ فكرةً وهاميةً Delusional Idea".
ثم استطرتُ قائلا:"وأما ما يجعلني أضعُ مرضى وسواس التشوه تحتَ وساوس الخوف والريبة فهو ما يلي:
(1) وجودُ الخوفِ من التشوه سواءً في الشكل أو في الرائحة أو في الشعور بالذات وإدراكها ومن تأثير ذلك على حياة المريض وعلاقاته الاجتماعية، أو من التعرض للانتقاد بسببه.
(2) وجود منظومةٍ معرفيةٍ تميلُ إلى تأويل أي حدثٍ حياتيٍّ أو موقفٍ اجتماعي عابر أو بسيط يحدثُ للمريض كدليل على وجود التشوه المتوهم، (رغم أن مثل هذا الموقف نفسه يفسرهُ الآخرونَ على أنه عابرٌ أو بلا معنى وينسونهُ بسرعةٍ).
(3) وجود الأفكار التسلطية المتعلقة بذلك، والأفعال القهرية المتعلقة بذلك أيضًا والمتمثلة في العرض المتكرر على العديد من الأطباء وإجراء العديد والعديد من الفحوص الطبية بسبب الريبة في نتائج هذه الفحوص".
وبالتالي فقد رأينا مرضى اضطراب شم راحة الجسد (ومرضى وساوس الخوف والريبة بوجهٍ عام) على متصل سلوكي معرفي شعوري يبدأ من عدم التأكد من صحة الفكرة الملحة (فكرة تسلطية) في جانب وينتهي عند الاعتقاد التام بصحة الفكرة (فكرة وهامية)، أي أن لدينا نوعين من المرضى على الأقل نوع وسواسي ونوع ذهاني، وعندنا كثيرون من المرضى بين بين، بل وبعضهم يتأرجح على المتصل أي يتغير مدى تأكده من صحة الفكرة من وقت لآخر، بمعنى أننا لا نقصرُ مرضى متلازمة شم رائحة الجسد ORS، ولا مرضى اضطرابات نطاق الوسواس القهري عامة على من تكون الأفكار لديهم تسلطية بمعناها في اضطراب الوسواس القهري، وهذا ما تشير إليه ملاحظات إكلينيكية عديدة إضافة إلى الدراسات المهتمة، وإن بدا التداخل بين الاضطرابات النفسية المختلفة مزعجا للبعض فإن ذلك عيبَ التصنيفات المتصلبة مسطحة النظرة.
إضافة إلى أن رؤيتنا للتشوه أعم، فنحن لا نقصرهُ على تشوه الشكل بل نضم إليه تشوه الحضور النفسي الاجتماعي وتشوه الشعور أيضًا (سواء الرائحة أو الشعور بالذات)، ومعنى ذلك أننا لا نعتبر اضطراب شم رائحة الجسد شكلا من أشكال أو عرضا مواكبا لاضطراب إدراك الشكل الجسدي، وإنما نعتبر كليهما شكلا من أشكال وساوس التشوه والتي يقع كل واحدٍ من أصحابها في مكان ما على متصل معرفي ممتد بين الفكرة التسلطية والفكرة الوهامية، وكل ذلك واقع في نطاق الوسواس القهري، وهو ما يعني رؤية أكثر مرونة للحالة واقتناعا أكثر بتفرد كل إنسان في مرضه.
هذا هو موقف مجانين من مشكلة التصنيف مع مفهوم متلازمة شم رائحة الجسد ORS، ولا تنسوا أعزائي المجانين، أن المفاهيم المتعلقة بتصنيف الاضطرابات المرضية تقبع في أذهان الأطباء النفسين، بينما المرضى بتلك الاضطرابات هم مرضى بني آدميين كل واحد منهم إنسان مستقل، وصحيحٌ أن التشخيص مهم لتحديد العلاج، ولكن العلاج يفشل ما لم يفصل بعناية على كيان البني آدم المريض، أتمنى ألا أكون أزعجتكم بمقالي هذا.
المراجع
وائل أبو هندي (2002): الوسواس القهري بين الدين والطب النفسي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ص 201-202
Devinsky O, Khan S, Alper K. Olfactory Reference Syndrome in a patient with partial epilepsy. Neuropsychiatry Neuropsychol Behav Neurol 1998;11:103-5
Hollander E, Aronowitz BR. Comorbid social anxiety and body dysmorphic disorder: Managing the complicated patient. J Clin Psychiatry 1999;60:27- 31
اقرأ أيضا:
وسواس في رائحة الجسم والفم/ رائحتي كريهة.. قد تكون فكرة وهامية/ رائحة الجسد:وسواس البَخَرِ المتوهم م/ رائحة كريهة من شعري لا أشمها