اضطراب العرات Tic disorder: مقدمة
ربما أشرنا في أكثر من إجابة سابقة على استشارات مجانين إلى وجود علاقة بين العرات وبين الوسوسة كأعراض وكاضطرابات، فالعَـرَّةَ أو اللازمة الحركية تعنى حركةً مفاجئة متكررةً وغير منتظمةٍ في مجموعةٍ معينة من العضلات، وهيَ في شكلها تشبه الحركات الطبيعية للإنسان لكنَّ الذي يجعلها اضطراباً هو تكرارها رغم محاولة الشخص أن يتوقف عنها، وكذلك إحساسه بأنهُ مضطرٌ لفعلها ليتخلص من إحساس جسدي بالضيق ينتابهُ ويشتدُّ عليه كلما حاول الكفَّ عن تكرارها؛ فما أشبه الحال بحال مريض الوسواس القهري الذي يحاول منع نفسه من أداء الأفعال القهرية، والحقيقة أن التشابه بين العرات والوساوس القهرية، أعمق من مجرد تداخل تشخيصي كما سنرى في هذا المقال حيث نبين أيضًا تداخلهما وراثيا، وفي المقال الذي سيليه -إن شاء الله- حيث نبينُ التداخل في الفسيولوجيا المرضية والتداخل في التغيرات الدماغية التركيبية والوظيفية بين العرات والوسوسة.
أولا: التداخل التشخيصي بين العرات والوسوسة:
تمثلُ العَرَّات مشكلةً تشخيصية صعبةً تواجه الطبيب النفسي في كثيرٍ من الأحيان؛ لأنها كالأفعال القهرية تشعرُ المريضَ بعدم قدرته على منعها رغم ما تسببه له من الإحراج ومن انتقادات الناس؛ كذلك فإن هناكَ إلى جانب العَـرَّات في نسبة لا يستهانُ بها من مرضى هذا الاضطراب أفكارا أو صورا أو نزعاتٍ وسواسيةً تحشرُ نفسها في ذهن المريض بالضبط كأفكار الوسواس القهري التسلطية.
ولعل من المفيد في مثل هذا الموقف التشخيصي أن يتأمل الطبيبُ النفسي محتوى الأعراض الفكري والشعوري جيدًا لأن هناكَ وساوسُ يمكنُ أن تصاحبَ العَرَّات وتكونُ مرتبطةً بها عندما يكون محتواها الشعوري والفكري مناسبًا، كأن يحسَّ المريضُ بأفكار تسلطيةٍ مؤداها أنه لم يُـؤَدِّ العرةَ (اللازمة الحركية أو الصوتية) بالشكل الصحيح فيضطرُ إلى تكرارها مثلاً، لأن ذلك بالطبع مختلف عن أفكار تتعلق بالموت أو الجنس أو العدوانية، ففي الحالة الأولى تكونُ الأفكار التسلطيةُ مرتبطةً بالاضطراب الأصلي وهو اضطراب توريت أو اضطراب عرات مزمن، ولكن ذلكَ التشخيص لا يكفي في الحالة الثانية ويفضل أن يشخص الطبيبُ اضطراب الوسواس القهري إضافة إلى اضطراب توريت أو العرات المزمن.
وينطبقُ نفسُ الكلام على ما يلاحظُ من أفعالٍ قهرية في مرضى العَـرَّات الحركية المزمنة أو مرضى اضطراب توريت لأن العَـرَّات الحركية المركبة كالنقر على جزءٍ ما من الجسد بشكل معين أو لمس الأشياء أو الأشخاص بشكل معين ومحدد مثلاً أو التقبيلُ أو اللّكْمُ أو العضُّ إلى آخره، كل ذلك يمكنُ أن يدخلَ تحتَ عباءة العَرَّات الحركية ما دام يشكل غايةً في حد ذاته بالنسبة للمريض، بينما الأفعالُ القهرية الأخرى كالعدِّ أو الغسيلِ المتكرر أو إعادة التحقق والتي يقصدُ منها منعُ حدثٍ غيرِ مرغوبٍ فيه ولكنها لا تكونُ غايةً في حد ذاتها، هذا النوع من الأفعال القهرية مرتبط باضطراب الوسواس القهري، وإن وجدَ في شخص يعاني من اضطراب توريت فإن الطبيب النفسي يضيفُ له تشخيص اضطراب الوسواس القهري.
ولعلَّ أهمَّ ما يميزُ مرضى العرات هو وجودُ ما يسمى بالظواهر الحسية الجسدية Somatosensory Phenomena وهيَ مشاعرُ جسديةٌ بالضيق تسبقُ فعل العَرَّةِ، وتحُثُّ وتدفعُ الشخص إلى تكرارها إلى أن يحسَّ بأنهُ فعل العرةَ بالشكل المضبوط وهذه مختلفةٌ عن الأفكار التسلطية المعرفية وعن القلق المستقلي (أي المرتبط بالجهاز العصبي المستقلي ANS) الذي يسبقُ الأفعال القهرية في مرضى الوسواس القهري.
وكأمثلةٍ على التداخل التشخيصي نجد على استشارات مجانين:
الاستمناء والوسواس والعرات والشُّقَـيْـقـة! / من الوسواس إلى الرهاب إلى العرات: ربما؟ / من الوسواس إلى الرهاب إلى العرات: ربما؟ متابعة2 / توريت والكفر متابعة/ جيفارا في نطاق الوسواس القهري/ اضطراب وجداني ثناقطبي ولا عرَّات ولا كوريا؟
التداخل الوراثي بين العرات والوسوسة:
20% من الأطفال المصابين باضطراب الوسواس القهري يعانون أيضًا من اضطراب العَـرَّات و5% منهم يعانون من اضطراب توريت، ومن الأطباء النفسيين من يفترضُ أن نوعًا من أنواع اضطراب الوسواس القهري على الأقل مرتبطٌ باضطراب العَرَّات أو اضطراب توريت، وبعضهم يرى أن لهذا النوع من الوسواس القهري خواصَ معينة تختلف عن النوع الآخر من اضطراب الوسواس القهري إلا أن نتائج الدراسات في هذا الموضوع ما تزالُ متضاربة، وإن كانت عدةُ دراساتٍ (Ziemann et al., 1997) و(Di Lazzaro et al., 1998) و(Broocks et al.,1998) و(Greenberg et al., 2000) و(Swerdlow , 2001) درست فيها التغيراتُ الاستثارية لقشْرَةِ المخ Cortical Excitability وذلك من خلال تِقَـنِـيَّةٍ جديدةٍ هي الحَـثُّ المِغناطيسي عبر الدماغ (ranscranial Magnetic Stimulation (TMS قد بينت أن استثارية قشرة المخ تتغيرُ بشكلٍ متشابهٍ في اضطراب الوسواس القهري واضطراب توريت وأن التغيراتِ تكونُ أوضحَ في حالات الوسواس القهري ذات العلاقة باضطراب توريت إما بتصاحبهما معًا أو بوجودِ تاريخ مرضي لاضطراب توريت في أسرة مريض اضطراب الوسواس القهري (Broocks et al.,1998).
وهناك دراسات حديثة قد بينتْ نتائجها أن ما بينَ الثلثُ والنصف من مرضى اضطراب توريت الكبار (Pauls et al.,1986) و(Pitman et al., 1987) والصغار (Grad et al.,1987) على حد سواء يصابون باضطراب الوسواس القهري؛ كما أن كلا الاضطرابين يظهرُ في عائلات المرضى بمعنى أن المريضَ بالعَرَّات الحركية المزمنة أو المريض باضطراب توريت له أقرباءُ يعانون من اضطراب الوسواس القهري وكذلك المريض باضطراب الوسواس القهري له أقرباء يعانون من اضطراب توريت أو اضطراب العَرَّات الحركية المزمنة.
ولهذا دأبت مع مريض الوسواس القهري أن أسأل عن تاريخ ظهور العرات فيه هو أو في أحدِ أفراد الأسرة، وفعلت العكس مع مرضى العرات المزمنة أو مرضى توريت فسألت عن الوسوسة في المريض نفسه أو أسرته، والحقيقة أنني وجدت علامات وسوسةٍ في مرضى العرات أكثر مما وجدتُ علامات اضطراب عرات في مرضى الوسوسة، ولعل ذلك لأن الوسواس القهري هو صاحب النطاق، وللحديث بقية فاقرؤوها في المقال التالي.
المراجع العلمية:
1. وائل أبو هندي (2003) : الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة عدد 293، يونيو 2003.
2. Ziemann U, Paulus W, Rothenberger A. (1997) : Decreased motor inhibition in Tourette’s disorder: evidence from transcranial magnetic stimulation. Am J Psychiatry 1997; 154: 1277–1284.
3. Di Lazzaro V, Restuccia D, Oliviero A, et al. (1998) : Magnetic transcranial stimulation at intensities below active motor threshold activates intracortical inhibitory circuits. Exp Brain Res 1998; 119: 265–268.
4. Broocks A, Thiel A, Angerstein D, Dressler D.(1998) : Higher prevalence of OC symptoms in patients with blepharospasm than in patients with hemifacial spasm. Am J Psychiatry 1998; 155: 555–557.
5. Greenberg B. D., Ziemann U., Cor?-Locatelli G., Harmon A.,. Murphy D. L, Keel J. C., Wassermann E. M. (2000) : Altered cortical excitability in OCD.Neurology,Volume 54 . Number 1 . January 11, 2000.
6. Swerdlow , N.R. (2001) : OCD & Tic Syndromes. Advances in the Pathophysiology and Treatment of Psychiatric Disorders: Implications for Internal Medicine. Medical Clinics of North America.Vol. 85 . No. 3.
7. Zohar, J. Sasson, Y. Gross , R. Iancu I. & Chopra, M. (1999 ) : OCD and Schizophrenia – are they related ? Abstracts of The World Congress of Psychiatry , W PA, Current Opinion In Psychiatry ,V.12, supp 1, p. 118, S-49-52.
8. Pauls DL, Towbin KE, Leckan JF, Zahner GEP, Cohen DJ (1986) : Gilles de la Tourette’s syndroe and OCD: evidence supporting a genetic relationship. Arch Gen psychiatry 1986;43:1180-1182.
9. Pitman RK, Green RC, Jenike MA, Mesula MM (1987) : Clinical comparison of Tourette’s disorder and Obsessive-Compulsive Disorder. Am J Psychiatry 1987;144:1166-1171 .
10. Grad LR, Pelcovitz D, Olson M, Matthews M, Grad GJ (1987) : Obsessive-compulsive symptomatology in children with Tourette’s syndrome. J Am Academy Child Adolescent Psychiatry 1987;26:69-73.
ويتبع>>>>>>>>>>>>>: اضطراب العرات في طيف الوسواس القهري2
اقرأ أيضا:
من الوسواس إلى الرهاب إلى العرات:ربما؟ م12/ الاستمناء والوسواس والعرات والشُّقَـيْـقـة!/ الهاتف المحمول والقتل البطيء(4)