اضطراب العرات في طيف الوسواس القهري1
نستكمل في هذا المقال ما بدأناه في المقال السابق عن التداخل بين كلٍّ من العرات (كأعراض وكاضطرابات) والوسوسة أيضًا كأعراض وكاضطرابات، لنبين مكان اضطراب العرات المزمن واضطراب توريت كعضوين أصيلين في طيف الوسواس القهري، وهو ما لم يتطرق إليه ابننا الدكتور أحمد الموجي في مقاله عن العرات، وسنضيف في هذا المقال دلائل التداخل بين العرات والوسوسة في مجال الفسيولوجيا المرضية، والتغيرات الدماغية كما بينتها نتائجُ دراسات تصوير المخ الحديثة.
التداخل الفسيولوجي المرضي بين العرات والوسوسة:
أظهرت عدّةُ دراسات حديثة في الأطفال علاقة كل من أعراض الوسواس القهري وأعراض اضطراب العرات بإصابةِ النوى القاعدية، والتي تنتجُ عن عمليةِ تفاعل مناعي ذاتيٍّ تالية للإصابة بالتهاب الحلق بالبكتيريا العقدية (أي التهاب اللوزتين العادي المعروف والمنتشر جدا في كل الأطفال) وقد أشرنا إلى هذا الموضوع من قبل في إجابة التهاب اللوزتين والحالة النفسية المعروضة على استشارات مجانين، فبالفعل تلاحظُ الأعراض القهرية في الأطفال بعد إصابات النوى القاعدية في الدماغ وكذلك بعد التهاب المخ الفيروسي وهو ما يشيرُ إلى حدوث أعراض الوسواس القهري أو العرات أو كليهما، كنتيجة لتلف مناطق معينة من المخ هيَ في معظم الأحوال في النوى القاعدية خاصةً النواة المُذَنَّبَةُ Caudate Nucleus وكذلك الحزام والفص الأمامي للمخ، (Swedo et al., 1997) و(Swedo et al.,1998) والمسمى المقترحُ لهذا النوع من الاضطراب النفسي العصبي الناتج عن خلل ما يصيبُ النوى القاعدية هو البانداس PANDAS وهي اختصارٌ لعبارة:Pediatric Autoimmune Neuropsychiatric Disorder Associated with Streptococcal Infection
فإذا نظرنا إلى الوساوس والعرات باعتبار كل منهما ناتجا من الناحية العصبية عن خلل ما في النوى القاعدية فإن أكثرَ أمراض النوى القاعدية مصاحبةً لاضطراب الوسواس القهري هوَ اضطراب توريت (Zohar et al.,1999 ) واضطراب العَـرَّات الحركية المزمنة، وهو ما دفع كثيرين من الأطباء النفسيين إلى استنتاج أن هناك علاقة سببيةً بين هذين الاضطرابين (Zaharovits,1990) بمعنى أن جينًا ما من المادة الوراثية البشرية أو أن خللاً ما في منطقة النوى القاعدية في الدماغ يمكنُ أن يؤدى إلى اضطراب توريت أو اضطراب الوسواس القهري أو العَـرَّات الحركية المزمنة إلا أن ماهية ذلك الجين أو ذلك الخلل لم تحدد بعدُ على وجه الدقة، ومن الطريفِ أن دراساتٍ تمتْ فيها متابعةُ مرضى اضطراب توريت من الأطفال حتى سن المراهقة فظهرت لديهم أعراض اضطراب الوسواس القهري، وعكسُ ذلك أيضًا حدثَ أي أن متابعة المصابين باضطراب الوسواس القهري في سن المراهقة بينت حدوثَ اضطراب العرَّات أو اضطراب توريت بعد عدة سنوات في بعضهم (Peterson et al.,2001).
التداخل في التغيرات الدماغية المرضية (التركيبية والوظيفية):
وأما نتائجُ دراسات تصوير المخ الحديثة فإنها تشيرُ تقريبًا في كلا الاضطرابين إلى نفس التغيرات الدماغية سواءً من الناحية التركيبية أو من الناحية الوظيفية (Greenberg et al., 2000) :
1- فمن الناحية التركيبية نجدُ في كلٍّ من هذين الاضطرابين أن الجسم الثَّفَنيَّ أوالجسم الجاسيء Corpus Callosum يزيدُ حجمهُ، كما نجدُ أن النواةَ المذيلةَ Caudate Nucleus في كلا الاضطرابين أيضًا ينقص حجمها بما يـتراوحُ ما بينَ 5% و10% وكذلك نجدُ في كليهما فقدًا لعدم التناسق (الطبيعي) ما بين النواة المُذيلة اليمنى واليُسْرى.
2- وأما من الناحية الوظيفية فإن المقارنةَ بينَ نتائج دراسات التصوير الوظيفي أيضًا في كلا الاضطرابين تشيرُ إلى تغيراتٍ متماثلةٍ في بعض النقاط ومتعاكسة في بعض النقاط وذلك في معدل تدفق الدم ومعدل استهلاك سكر الجلوكوز في مناطق النوى القاعدية والقشرة الحجاجية والمهاد، مع إمكانية عقد ارتباطٍ بين معدل النشاط في المخ وبينَ كونِ أعراض الاضطراب لدى المريض في حالةِ كمونٍ أو هدوء أو في حالةٍ استثارةٍ مثلاً عند مقاومة الفعل القهري أو العرةِ ، بحيثُ يمكنُ استنتاجُ وجود علاقةٍ لا يمكنُ الشكُّ فيها.
وعلى الرغم من أن معرفةَ الأسبابِ الأكيدةِ لكلا الاضطرابين والتغيرات التشريحية المصاحبة له في خريطة الوصلات العصبية الدماغية ما تزالُ في مرحلة البداية إلا أن كلاًّ منهما يصاحبهُ نقصٌ أو خللٌ في التحكم التثبيطي Inhibitory Control أو زيادةٌ في النشاط العصبي لحلقة الاتصالات العصبية بينَ قشرة المخ الجبهية Frontal Cortex، والجسم المخطط Corpus Striatum ، والكرة الشاحبةُ Globus Pallidus، والمهاد Thalamus، وهذه كلها أجزاءٌ في الحلقة العصبية المضطربة الأداء في مرضى الوسواس القهري.
وأخيرا فكثيرًا ما يجدُ الطبيبُ النفسانيُّ نفسه في حيرةٍ علاجية أيضًا لأن علاجَ اضطراب العَرَّات الحركية أو اضطراب توريت مختلفٌ من الناحية الكيميائية عن علاج اضطراب الوسواس القهري فقد أثبتت التجاربُ العلمية في الطب النفسي أن العَرَّات الحركيةَ تعالجُ باستخدام العقَّـاقير التي تقلل نشاط الناقل العصبي الدوبامين؛ بينما يعالجُ اضطراب الوسواس القهري باستخدام العقَّـاقير التي تزيدُ من كمِّ أو تأثير ناقل عصبيٍّ آخر هو السيروتونين!
والحقيقةُ أنَّ توقعَ الأطباء النفسانيين لوجودٍ علاقة بيولوجيةٍ بينَ الاضطرابين كانَ من المفترض أن يُـثْبِـتَـهُ تجريبُ العقاقير الدوائية بحيثُ يستجيبُ مريضُ أيٍّ من الاضطرابين لنفس العقَّـار؛ ولكن ذلك لم يحدثُ للأسفْ خاصةً في المرضى الأكثر عددًا وهم الذين يعانونَ من عرَّاتٍ (لوازم) صوتية أو حركية غيرِ مصحوبةٍ بأفكار أو صور وسواسية؛ ولكن الذي ظهر إلى حد ما في الدراسات التي أجريتْ على مرضى اضطراب الوسواس القهري الذينَ يعانونَ من أعراض عراتٍ حركية إضافة إلى أعراض الوسواس هوَ أن هذه المجموعة من المرضى ربما تستجيبُ لكلا النوعين من العقَّـاقير إذا استخدما سويًا أي أن المريض يأخذُ عقارًا يزيد السيروتونين وعقارًا يضادُّ الدوبامين، ولقد جربت تلك الخلطة العقَّارية بنفسي مع مرضى العرات دون وساوس واضحة، ووجدتُ نتائج أطيب من استخدام مضادات الدوبامين وحدها رغم أن استخدام مضادات السيروتونين مع مضادات الدوبامين يحمل خطرًا أكبر لظهور أعراض خارج هرمية، لكن حاجة المريض أحيانا تبررُ ذلك، ولنتذكر هنا أن مضادات الدوبامين تلزم أحيانا كعقاقير تعزيزية في حالات الوسواس القهري المقاومة للعلاج.
وكمثالٍ على الصعوبة العلاجية نجدُ على استشارات مجانين:
هل هذا هو عذاب عرَّات التوريت؟ م/ توريت والكفر م
المراجع العلمية:
1. وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة عدد 293، يونيو 2003.
2 . Swedo SE, Leonard HL, Mittleman BB, et al (1997) : Identification of children with pediatric autoimmune neuropsychiatric disorders associated with streptococcal infections by a marker associated with rheumatic fever. Am Psychiatry 154:110-112.
3 . Swedo SE, Leonard HL, Garvey M, et al (1998) : Pediatric autoimmune neuropsychiatric disorders associated with streptococcal infections: clinical description of the first 50 cases. Am Psychi. 155:264-271.
4 . Zohar, J. Sasson, Y. Gross , R. Iancu I. & Chopra, M. (1999 ) : OCD and Schizophrenia – are they related ? Abstracts of The World Congress of Psychiatry , W PA, Current Opinion In Psychiatry ,V.12, supp 1, p. 118, S-49-52.
5 . Zaharovits I. (1990): Obsessive Compulsive Symptoms In Schizophrenia, In New Research Program And Abstracts, 143rd annual meeting of the APA, New York, May 1990,NR139, p 99.
6 . Peterson BS, Pine , D. S., Cohen, P. and Brook,J.S., (2001) : Prospective, Longitudinal Study of Tic, Obsessive-Compulsive, and Attention-Deficit/Hyperactivity Disorders in an Epidemiological Sample. J. of the Ame. Academy of Child and Adoles. Psychi..V. 40 (6).
7 . Greenberg B. D., Ziemann U., Corá-Locatelli G., Harmon A.,. Murphy D. L, Keel J. C., Wassermann E. M. (2000) : Altered cortical excitability in OCD.Neurology,Volume 54 • Number 1 • January 11, 2000.
اقرأ أيضا:
من الوسواس إلى الرهاب إلى العرات:ربما؟ م12/ الاستمناء والوسواس والعرات والشُّقَـيْـقـة!/ الهاتف المحمول والقتل البطيء(4)