يذكر بعض علماء النفس أن وجود الوسواس القهري كان متلازما مع وجود العقل البشري (Lewis, 1936) وهو في الحقيقة مرض مؤلم لمن يصاب به ومشكلته الرئيسية هي أن معظم المرضى المصابين به يشعرون أن ما يفكرون فيه ويفعلونه -ويعيدون ويزيدون في التفكير والفعل- هراء لا طائل منه ورغم ذلك لا بد من تكرار التفكير، وأحيانا بعض الأفعال التافهة التي لا قيمة لها كمثل من يعيد في وضوئه وصلاته ساعات وساعات كي يتأكد انه أدى الصلاة بصورة مقبولة من ربه سبحانه وتعالى.
ومثل أيضا من يستغرق في التفكير العميق والمتكرر عن كيفية وجود الله سبحانه وتعالى رغم أنه مؤمن به ومصدق ولكنه لا يستطيع أن يدفع بالفكرة عن نطاق عقله وتفكيره.. وفي الحقيقة يوجد صور إكلينيكية كثيرة لهذا المرض لا يمكن حصرها في هذا المقال ولكن إذا كان هناك فكرة أو فعل ملح، ومتكرر أكثر من ساعة يوميا وهذه الفكرة أو هذا الفعل مزعج ومر بك للشخص الذي يقوم به ويحاول التخلص من هذا الفعل أو هذه الفكرة بدون جدوى فإن هذا يعتبر اضطرابا للوسواس القهري.. التقسيم الدولي للأمراض – العاشر 1992 (World Health Organization,1992).
أما كلمة وسواس في اللغة العربية فيقول عنها الزبيدي في تاج العروس: هي صوت الحلي مجازاً وصوت الصائد وكلبه إذا همسا، فهو الصوت الخفي، قال ذا الرمة:
فبات يشئزه ثاد ويسهره تذوب الريح والوسواس والهضب
ويقول الأعشى:
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرَفًت كما استعانَ بريح عِشْرقٌ زَجِلُ
وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة، وهي حديث النفس والأفكار، وحديث الشيطان أيضاً بما لا نفع فيه ولا خير.
والآن دعوني أذكر لكم دوافعي لكتابة هذا البحث، والحوافز التي جعلتني حريصاً على كتابته وهي:
1- ما يحدث دائما في المقالات العلمية الغربية وحتى الكتب العلمية والتاريخية للدول الغربية من تجاهل (وقد يكون جهلا) لتاريخ الوسواس القهري بالمنطقة العربية وما جاورها من بلاد إسلامية قد لا تكون ناطقة بالعربية.
2- الرغبة في فتح المجال للكتابة عن تاريخ الأمراض النفسية الأخرى وبالذات في العصور القديمة والقرون الوسطى مثل مرض الفصام واضطرابات التغذية والإدمان والقلق وغيرهم والتنويه عن دور الحضارات القديمة مثل الفرعونية والبابلية والآشورية وغيرهم في وصف هذا الاضطراب، وذكر إضافات علماء المسلمين في هذا المجال؛ وهذا يتطلب مجهودا كبيرا من علماء النفس والأطباء النفسيين والمؤرخين. ولكن لابد لي أن أنوه بأن بعض الأطباء النفسيين قد نشروا في هذا المجال؛ فعلي سبيل المثال لا الحصر ما كتبه الدكتور حنفي يوسف عن مرض الفصام في العالم الإسلامي بالعصور الوسطي(Youssef & Yossef, 1998).
3 -الرغبة في لفت انتباه الباحثين في مجال علم النفس والطب النفسي بالمنطقة لأهمية الدراسة في هذا الاضطراب نظرا لزيادة معدل انتشاره (من1- 3 % من السكان) (Stoll et al., 1992) وفي نفس الوقت النقص الشديد للأبحاث فيه -نسبيا بالشرق الأوسط- إذا ما قورنت بما نشر من أبحاث في هذا المجال بالدول الغربية. (El-Saadani, 1996).
عهد ما قبل الميلاد:
ولنبدأ الكلام بعهد الفراعنة في مصر.. فقد أرسل أحد الكهنة إلى ابنه مجموعة رسائل في فحواها تشير إلى الشك والوسوسة لدى ذلك الشخص وهذه المجموعة من الرسائل والتي أرسلها هذا الكاهن "حقا نخت" لابنه تعد من أوائل ما كتب عن الحياة الزراعية والاجتماعية في العالم القديم.
لقد قام هذا الكاهن في هذه الرسائل بعد وحصر كل شيء حتى القمح والشعير وفيها أيضا تهديد ووعيد لأبنائه إذا هم قصروا أو أهملوا في زراعة أو تخزين محاصيلهم الزراعية، وقد كان ذلك في عهد الدولة الوسطى حيث العاصمة المصرية هي "طيبة".. الأقصر الآن.. وقد كان لحقانخت أراض أخرى قرب منف.. الجيزة حاليا.. وبالوجه البحري وكان يقوم بالتنقل بين هذه الضيع من وقت لآخر وأثناء ذلك يرسل الرسائل لأبنائه المقيمين في طيبة جنوب مصر يستحثهم على رعاية حيواناتهم وأراضيهم بطريقة تشير إلى شدة دقته وحصره لكل صغيرة وكبيرة في بيته وأرضه بطيبة في صعيد مصر (سليم حسن،1992، ص ص 122-112).
عهد ما بعد الميلاد:
ولا ننسى أنه عندما قام بعض اليهود بمحاولة قتل المسيح.. عليه السلام.. واتهم في ذلك حاكم القدس بالتحريض على قتل المسيح.. طلب هذا الحاكم إناء من الماء وغمس يديه فيه أمام العامة من الناس قائلا لهم "إن كنت قد قتلته فإن هذا الماء سوف يستحيل دما" وكأنه ينفض التهمة عن نفسه أو يغسل يديه من دم المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم (1998 , Jenike). ولقد وصف جالينوس طبيب الإمبراطورية الرومانية الأول هذا المرض وذلك في القرن الثاني الميلادي.( Loza & Forshaw, 1988).
الوسواس القهري في عهد الخلافة الاسلامية:
وفي عهد الدولة الإسلامية والتي امتدت من حدود الصين شرقا وحتى المحيط الأطلنطي غربا ومن تركيا والأناضول شمالا حتى أواسط أفريقيا جنوبا فلقد كان التراث الإسلامي زاخرا بوصف هذا المرض وأنواعه وعلاجه بأساليب لم تعرفها الدول الغربية إلا من أقل من نصف قرن من الزمان...، ولنبدأ بقوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "سورة ق الآية 16."
والوسوسة هنا هي حديث النفس، ويقال هي حديث النفس والصوت الخفي وبه سمي صوت الحلي ورجل موسوس بكسر الواو (ابن قيم الجوزية، 1972، ص ص 149-146). ويمكن لنا أن نلخص بعض أنواع هذا الاضطراب ومرجعي في هذا هو بعض الكتب الدينية وليس ما ذكر في المراجع الغربية الحديثة مؤخرا.
أولا: الوسواس في الاعتقاد: قال النبي صلى الله عليه وسلم "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا.. من خلق كذا.. حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته " رواه أحمد وأبو يعلى وغيرهما ورجاله ثقاة.
ثانيا: الوسواس في النية: يقول الإمام الغزالي في الإحياء "وإن تم تكبيرة الإحرام فيكون في قلبه بعض التردد في صحة نيته ويغترون بذلك ويظنون أنهم إذا اتعبوا أنفسهم في تصحيح النية وتميزوا عن العامة بهذا الجهد والاحتياط فهم على خير عند ربهم! (أبو حامد الغزالي,1998 ص ص 42-25 1998).
ثالثا: وسواس في التطهر: وهو ما يفعله الموسوس بعد البول من سلت أو نثر أو نحنحة أو قفز أو غير ذلك مما لم يصح فيه نص.. وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء؛ فأمره أن ينضح فرجه إذا بال وقال: ولا تجعل ذلك من همتك واله عنه.
رابعا: الوسواس في الوضوء والغسل: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء" رواه أحمد وابن خزيمة والترمذي وغيرهم.
خامسا: الوسواس في انتقاض الطهارة: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له: إنك قد أحدثت.. فليقل له كذبت..إلا ما وجد ريحا بأنفه أو سمع صوتا بأذنه" رواه مسلم وأحمد وأبو داوود وغيرهم (يحيى غزاوى , 1988, ص ص 13-3).
سادسا: الوسواس في الصلاة: روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن أبى العاص قال: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي يلبسها علي.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ذاك شيطان يقال له خنزب.. فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه.. واتفل عن يسارك ثلاثا.. ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني (ابن الجوزى,1990 ص ص 171-160 ).
ومن أصناف الوسوسة في الصلاة:
الوسوسة في التكبير.. قال الغزالي في الإحياء "ولربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه"( أبو حامد الغزالي , ,1998 ص ص 42-25).
الوسوسة في مخارج الحروف.. كمن يعيد ويزيد في تكبيرة الإحرام مثل الله أك.. أك.. أك.. أكبر.. ليتأكد من نطقها في الصلاة.
سابعا: الوسواس في الأكل والشرب: ويتمثل بالتنطع في السؤال عما لم يرد فيه نص من الطعام والشراب.. أو كيفية طهارته وحلاله (يحيى غزاوى , 1988, ص ص 13-3).
وهذا قليل من كثير مما ذكر في الطب النبوي عن الوسوسة وطرق إيقافها وهو ما يسميه علماء العلاج السلوكي والمعرفي حديثا "Thought Stopping" وباللغة العربية "إيقاف الأفكار" (Drumond, 1993 ; Emmelkamp et al., 1980 ; James & Blackburn, 1995; Van Oppen & Arntz, 1994)
وقد ذُُكِر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف: [اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي ولك ربي تراثى اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح] ذكره الترمذي. فالنبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من وسوسة الصدر بعد أن يتعوذ من عذاب القبر؛ وهذا يدل على مدى الصعوبة والمعاناة من الوسوسة.
وعن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحدث نفسي بالشيء لأن أخرَّ من السماء أحب إليَّ من أن أتكلم به، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) رواه أحمد 1-235 .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) رواه البخاري 3276.
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال: شُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتا ً أو يجد ريحاً) رواه النسائي 36.
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن وكان يستنجي ويستجمر بشماله ولم يكن يصنع شيئا مما يصنعه المبتلون بالوسواس من نتر الذكر والنحنحة والقفز ومسك الحبل وطلوع الدرج وحشو القطن في الإحليل (قناة مجرى البول)، وصب الماء فيه وتفقده الفينة بعد الفينة ونحو ذلك من بدع أهل الوسواس وكان إذا سلم عليه أحد وهو يبول لم يرد عليه ذكره مسلم في صحيحه عن ابن عمر
وروى البزار في مسنده في هذه القصة أنه رد عليه ثم قال: [إنما رددت عليك خشية أن تقول: سلمت عليه فلم يرد علي سلاما فإذا رأيتني هكذا فلا تسلم علي فإني لا أرد عليك السلام وقد قيل: لعل هذا كان مرتين وقيل: حديث مسلم أصح لأنه من حديث الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر، وإذا ظن الشخص في وجود نجاسة غير مرئية في ثوبه فإنها تطهر إذا غلب على ظن الغاسل طهارة محلها بلا عدد، ويقدر للموسوس ثلاث غسلات فقط، ويعصر الثوب في كل واحدة منها.
ويطهر المكان "وهو الأرض" بصب الماء الطاهر عليها ثلاثا وتجفف كل مرة بخرقة طاهرة وإذا صب عليها ماء كثير بحيث لا يترك للنجاسة أثرا طهرت وتطهر الأرض أيضا باليبس فلا يجب تطهيرها الماء.
نستنتج من هذه الأحاديث النبوية والأحكام الفقهية النابعة من سنته المطهرة صلى الله عليه وسلم أنها علاج -قاطع وشاف- معرفي سلوكي ديني في توصيفه كعلاج، وذلك لأي موسوس يرغب في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
المصادر العربية:
1- سليم حسن (1992): تاريخ مصر القديمة، الجزء الثالث ؛ الدولة الوسطى. القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب.ص: 112 – 122.
2- ابن قيم الجوزية (1972). إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان بيروت ، النور الإسلامية للطبع والنشر والتوزيع، الجزء الأول ص ص 149-146 .
3- أبو حامد الغزالي (1998) : إحياء علوم الدين ، كتاب شرح عجائب القلب ، دار الكتب العلمية ، منشورات محمد على بيضون ، بيروت لبنان الطبعة الأولى ، الجزء الثالث، من ص 25 إلى ص 40.
4- يحي غزاوي (1988) . ذم الموسوسين والمغرورين ( سلسلة عرفت فالزم) ، بيروت ، مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع ص ص 13-3 .
المصادر الإنجليزية:
5- Lewis, A. J. (1936). Problems of obsessional illness. Proceedings of the Royal Society of Medicine, 29, 325-336.
6- WHO (World Health Organization, 1992) : ICD-10 Classification of mental and behavioral disorders. Clinical descriptions and diagnostic guidelines. Geneva : WHO
7- Youssef,H.A., & Youssef, F.A.(1996). Evidence for the existence of schizophrenia in medieval Islamic society. History of Psychiatry,vii,055-062.
8- Stoll, A. L., Tohen, M., Baldessarini, R. J. (1992). Increasing frequency of the diagnosis of obsessive-compulsive disorder. American Journal of Psychiatry, 149(5) 638-640.
9- El-Saadani, M. (1996). Epidemiological, Phenomenological & Biochemical study of obsessive compulsive disorder patients in Alexandria, MD Thesis. Alexandria University, Egypt , 1-286.
10- Jenike, M. A. (1998). An overview of obsessive compulsive disorder. In: Jenike M, Baer L, Minichiello W (Ed.).Obsessive-compulsive disorder practical management,(pp 3-11). St Louis: Mosby. 3 rd ed.
11- Loza, N. & Forshaw, D. (1988 ). Insanity on the Nile. Postgraduate Doctor Middle East, 11, 28-35.
12- Drumond, L. M. (1993). Behavioural approaches to anxiety disorders. Postgraduate Medical Journal,69,222-226.
13 Emmelkamp, P.M.G., Helm, M. V.D. VanZanten, B. L., & Plochg I. (1980). Treatment of obsessive-compulsive patients: the contribution of self-instructional training of the effectiveness of exposure Behavioral Research and Therapy, 18(1) 61-66.
14- James, I. A., & Blackburn, I.M., (1995). Cognitive therapy with obsessive-compulsive disorder. British Journal of Psychiatry, 166(4) 444-450.
15- Van Oppen, P., & Arntz, A. (1994). Cognitive therapy for obsessive-compulsive disorder .Bahviour Research & Therapy, 32(1) 79-87.
ويتبع >>>>>>>: تاريخ اضطراب الوسواس القهري (2)
واقرأ أيضًا:
تاريخ اضطراب الوسواس القهري/ الطب النفسي الإسلامي