تاريخ اضطراب الوسواس القهري (6)
قال الشيخ أبو محمد ابن قدامة المقدسي في كتابه ذم الوسواس:
الحمد لله الذي هدانا بنعمته وشرفنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته ومن علينا بإتباعه الذي جعله علما على محبته ومغفرته وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته فقال سبحانه: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (آل عمران:31)، وقال تعالى: [....... وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ] (الأعراف: 156).
ثم قال: [..... فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] (الأعراف:158) أما بعد: فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان يقعد له الصراط المستقيم ويأتيه من كل جهة وسبيل كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 16، 17). وحذرنا الله عز وجل من متابعته وأمرنا بمعاداته ومخالفته فقال سبحانه: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً....] (فاطر:6)، وقال: [يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ.....] (الأعراف: 27) وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته وقطعا للعذر في متابعته وأمرنا الله سبحانه وتعالى بإتباع صراطه المستقيم ونهانا عن إتباع السبل فقال سبحانه: [وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام:153).
وسبيل الله وصراطه المستقيم هو الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته بدليل قوله عز وجل: [يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ] (يس:1-3) وقال: [....... إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ] (الحج: 67) وقال: إنك لتهدي إلى صراط مستقيم فمن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان.
(ونلاحظ في الكلام السابق الحرص الشديد من جانب ابن القيم على التفريق بين الاحتياط والوسوسة، وأن الاحتياط في الالتزام بأوامر الشرع مرغوب بينما الوسواس والمغالاة في أمر العبادات ينافي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، بل ويُعتبر من الأمور المذمومة المنهي عنها).
فصل ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان حتى اتصفوا
بوسوسته وقبلوا قوله وأطاعوه ورغبوا عن إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صلى كصلاته فوضوؤه باطل وصلاته غير صحيحة ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواكلة الصبيان وأكل طعام عامة المسلمين أنه قد صار نجسا يجب عليه تسبيع يده وفمه كما لو ولغ فيهما أو بال عليهما كلب.
ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات والأمور المحسوسات وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه بل يعلمه غيره منه ويتيقنه ثم يشك هل فعل ذلك أم لا وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعملها من نفسه يقينا بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها مكابرة منه لعيانه وجحدا ليقين نفسه حتى تراه متحيرا كأنه يعالج شيئا يجتذبه أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه.
كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس وقبول وسوسته ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته، ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده تارة بالغوص في الماء البارد وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك وربما فتح عينيه في الماء البارد وغسل داخلهما حتى يضر ببصره وربما أفضى إلى كشف عورته للناس وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه.
قلت ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل أن رجلا قال له أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك هل صح لي الغسل أم لا فما ترى في ذلك فقال له الشيخ اذهب فقد سقطت عنك الصلاة قال وكيف قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة المجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ والصبي حتى يبلغ"، ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون.
(ونجد في فتوى ابن عقيل عُذراً لمن يقضي الأوقات الطويلة في الوضوء أو الغسل بالساعات فتسقط عنه فريضة الصلاة، لأن ما يفعله هذا الموسوس ضرباً من الجنون، والمجنون واحد ممن رُفع عنهم القلم، وقد تكون هذه الفُتيا من باب التهكم على هذا الموسوس لعله يرتدع عن وسواسه وفعله القهري!!). قال وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة وربما فاته الوقت ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى وربما فوت عليه ركعة أو أكثر ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ثم يكذب.
قلت وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة فلم يدعه إبليس حتى زاد ففرق بينه وبين امرأته فأصابه لذلك غم شديد وأقاما متفرقين دهرا طويلا حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر وجاءه منها ولد ثم إنه حنث في يمين حلفها ففرق بينهما وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها.
وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك فاشتد به التنطع والتقعر يوما إلى أن قال أصلى أصلى مرارا صلاة كذا وكذا وأراد أن يقول "أداءاً" فأعجم الدال وقال "أذاء" لله (أي من الإيذاء والضرر، والصلاة لا تكون أبداً للإيذاء) فقطع الصلاة رجل إلى جانبه وقال: "ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين".
قال: ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مرارا.
قال: فرأيت منهم من يقول الله أكككبر قال وقال لي إنسان منهم قد عجزت عن قول السلام عليكم فقلت له قل مثل ما قد قلت الآن وقد استرحت وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة وأخرجهم عن إتباع الرسول وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو وهم يحسنون صنعا فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنا ما كان فإنه لا يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم ومن شك في هذا فليس بمسلم ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته وأي شيء يبتغي العبد غير طريقته.
ويقول لنفسه ألست تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الصراط المستقيم فإذا قالت له بلى قال لها فهل كان يفعل هذا فستقول لا فقل لها فماذا بعد الحق إلا الضلال وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان فإن اتبعت سبيله كنت قرينه وستقولين يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليقتد بهم وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته.
قلت: هو إبراهيم النخعي.
وقال زين العابدين يوما لابنه يا بني اتخذ لي ثوبا ألبسه عند قضاء الحاجة فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب ثم انتبه فقال ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد فتركه.
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه فإذا قيل له لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى حتى إنه قال لقد هممت أن أنهى عن لبس هذه الثياب فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز فقال له أبي مالك: "إن تنهى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبسها ولبست في زمانه ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال عمر صدقت".
ثم ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم ولو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسوسين لمقتهم ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم وها أنا أذكر ما جاء في خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلا.
ويتبع >>>>>>>: تاريخ اضطراب الوسواس القهري (8)
واقرأ أيضاً:
تاريخ اضطراب الوسواس القهري/ الطب النفسي الإسلامي