إدمان الشراء أو التسوق أم الشراء القهري؟ تقديم
يعتبر إدمان الشراء أو الشراء القهري واحدا من أشكال الإدمان السلوكي Behavioral Addictions التي بدأت تتبلور المفاهيم بشأنها في العقدين الأخيرين فكما قلنا في حديثنا عن إدمان الأكل: بعد أن كان عندنا إدمان ما يشربُ أو يشمُّ أو يحقنُ أو يتنفسُ وكلها موادُّ نفسانية التأثير Psychoactive Substances ، أصبح عندنا أيضًا إدمان ما يؤكل أو ما يفعل، أي أصبح الإدمان إدمانَ سلوك نفساني التأثير Psychoactive Behavior بعدما كان الإدمان سابقا إدمان مادة نفسانية التأثير، فمثالا على ما يؤكل نجد إدمان الشيكولاتة أو السكريات والنشويات بوجه عام، ومثالا على ما يفعل نجد إدمان اللعب وإدمان المقامرة وإدمان الشراء وإدمان الألعاب الإليكترونية وإدمان الجنس وإدمان التريض وغير ذلك مما ذكرنا من قبل في مقال: الفهم الحالي للإدمان رؤية متحفظة؛
إلا أن هناك من يرون خطأ اعتبار مثل هذه السلوكيات إدمانا وإدخالها ضمن ما يتم التعامل معه طبيا بحيث تعتبر المشكلة مشكلة طبنفسية ويصبح الشخص وحده مطالبا بالعلاج من مرضه، بينما يتم تناسي دور التغيرات التي تحدث على مستوى المجتمعات البشرية الحديثة في ظل ثقافة الاستهلاك والعولمة، وكثير مما تطرقنا له في تقديمنا للموضوع، فهناك خشية من أن يتم التركيز على الظاهرة باعتبارها ظاهرة طبية تخص فردا أو مجموعة أفراد بينما تهمل العوامل الاجتماعية والإعلامية صاحبة الدور الأكبر فيما يحدث، ومعنى هذا أن هناك من يرى أن استشراء ظاهرة الشراء القهري هي استجابة إنسانية طبيعية لما يجب تصحيحه على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وليس من الصحيح اعتبارها استجابة مرضية تخص فردًا أو أفرادا.
وهناك معايير معينة قد اقترحت يجب أن يتسم بها سلوك ما ليصبح من الممكن اعتباره إدمانا سلوكيا أخذناها عن جريفيثس (Griffiths, 2002) وهو أستاذ في دراسة الإدمان السلوكي، وقد قمنا ببعض التعديل في البنود التي صيغت أصلا ضمن دراسة عن المقامرة المرضية Pathological Gambling وهي أيضًا أحد أشكال السلوكيات الإدمانية:
1- ينخرط الشخص في ممارسة السلوك بمعدلات عالية وبتكرارية ما استطاع أو يستهلك كمياتٍ مبالغ فيها في كل مرة.
2- يكون السلوك المُدْمَنُ بارزا في حياة الشخص كما يظهر من انشغاله الشديد بالشيء أو الأشياء المتعلقة به وبطرق الحصول عليه أو إيجاد الوقت لممارسته إضافة إلى الشعور بالتوق أو الاشتهاء المُلِحّ Craving للسلوك المُدْمَن وبأن ذلك التوق لا تمكن مقاومته Irresistible Craving ، أو الشعور بكثير من عدم الراحة والضيق والقلق عندما تؤجل فرصة ممارسة السلوك أو تمنع.
3- شعور الشخص بأن السلوك المدمن خارج سيطرتِه، وبعد محاولات فاشلة للسَيْطَرَة على ذلك السلوك، بهدف تَخفيض التأثيراتِ الضارّةِ للسلوكِ.
4- التجربة الشخصية لتعديل المزاجِ بممارسة السلوك المدمن أَو استعمال السلوك لتَفادي أَو تَخفيض حالةً مزاجِية غير سارةِ.
5- يسبب الانخراط المستمر في السلوك نزاعاً مَع أفرادِ العائلة أَو الناس الآخرينِ، كما يظهر من كذب المدمن على الآخرين فيما يتعلق باستمرار السلوك، وأحيانا بسبب سَرِقَة الآخرين أو الاستدانة منهم دون رد غالبا لدَعْم النشاطِ، أَو على الأقل وجود نقد مِنْ الآخرين حول السلوكِ.
6- يسبب السلوكُ الأضرارَ والخسائر في مناطق الحياةِ الأخرى مثل التمويلاتِ أو التعليم أَو العمل، أو سوء الصحة الجسدية أَو النفسية المعرفية.
هذه المعايير كلها مطلوبة لاعتبار سلوكٍ ما إدمانيا أو قهريا اندفاعيا Impulsive/Compulsive أي مرضيا، فّإذا أردنا أن نحصر كلامنا هنا عن اضطراب الشراء القهري Disorder Compulsive Buying فإننا نتكلم عن اضطراب سلوك الشراء في مجتمع استهلاكي ينتج من أجل التسويق وتغذية متطلبات الاستهلاك التي لا يدخر وسعا لزيادتها، فهل استقراء المعلومات الموجودة حاليا عن هذا السلوك تدعم كون الشراء القهري مرضا طبنفسيا قائما بذاته بالفعل؟؟ أم تدعم أنه مجرد عرض سلوكي لبعض الأمراض النفسية؟ وهاتان حالتان تعنيان أن على الجمهور أن يصبح أكثر وعيا بوجود المرض ووجود علاج له لدى الطبيب أو المعالج النفساني، أم ترى سنجد أن المعلومات المتاحة عن الشراء القهري تدعم أنه مجرد استجابة إنسانية اندفاعية عادية لبعض الناس في ظروف اقتصاديات السوق والعولمة الاستهلاكية التي تجتاح العالم كله مشجعة على اشتر ولا تدفع الآن أو ادفع ثمن واحدة ولك اثنان؟ وأن علينا توجيه الجهود اللازمة للحد من ثقافة المولات والاستهلاك والمستخدمات لمرة واحدة؟ باختصار سنحاول معرفة ما إذا كان الشراء القهري مرضا أم عرضا أم استجابة إنسانية معولمة؟
تعريف ومعايير تشخيص اضطراب الشراء القهري:
يعرف الشراء القهري Compulsive Buying بأنه سلوك شراء مُشْكل يتصف بأنه لا يمكن التحكم به، ويتسبب في كثير من الضيق للشخص ويضيعُ وقته و/أو يتسببُ له في صعوبات أسرية أو اجتماعية أو مهنية و/أو مالية ولا يرتبط حدوثه فقط بنوبات اضطرابٍ ثناقطبي Bipolar Disorder (أيا كانت شدته) وأما معايير تشخيص اضطراب الشراء القهري فهي كالتالي (McElroy, et al., 1994):
- انشغال ذهني مفرط بالشراء والتسوق، أو نزوات اندفاعية للشراء أو التسوق بشكل معيق، كما يظهر بواحد على الأقل مما يلي وبشرط ألا يقتصر الانشغال أو النزوات أو سلوك الشراء على نوبات الاضطراب الثناقطبي (الهوس أيا كانت شدته Manic/Hypomanic).
- انشغالٌ ذهني متكرر بالشراء أو نزوات شراء أو سلوكيات شراء فعلي، يشعر الشخص بأنها لا تُقَاوم أو تقحمُ نفسها عليه أو يراها بلا داع أو عديمة المعنى
- شراء متكرّر لأكثر مِما يُمْكِنُ أَنْ تتحمّلَه ميزانية الشخص، أو لما لا يَحتَاجه، أَو التسوّق لفترات أطولِ مِنْ الوقتِ المقصود.
- يسبب الانشغال أو النزوات أو سلوك الشراء ضيقا، أو تستهلك كثيرا من الوقت بحيث تؤثر سلبا على الأداء الاجتماعي أو المهني أو تؤدي إلى مشكلات مالية كالاستدانة والإفلاس.
معدلات انتشار الشراء القهري ومن هم المرضى به?
حين نتكلم عن اضطراب الشراء القهري فإننا نتكلم عن سلوكٍ منتشر بين الأفراد في العصر الحديث، وكما ذكرت من قبل فإن الأعداد الحقيقية للمصابين به في مجتمعاتنا العربية غير معروفة وربما المسألة برمتها غير مدروسة، لكن ما لاحظته أن هناك تضاربا بشكل أو بآخر بين نتائج الدراسات المختلفة، وإن كان الانطباع العام الذي تشكل عندي وأنا أقرأ عن معدلات الانتشار في الولايات المتحدة الأمريكية هو أن نتائج الدراسات المتتالية تشير إلى تزايد أعداد المرضى عبر العقود الأخيرة وتضارب النتائج في ذات الوقت، فبداية من دراسة في ولاية إلينوس الأمريكية سنة 1989 كانت معدلات الانتشار من 2% إلى 8% (Faber & O’Guinn, 1989)، وفي 1994 و1996 أظهرت دراسات مسحية أخرى أحدث معدلات انتشار بين 12% و 16% (Magee, 1994) و (Hassay & Smith, 1996)، ثم أظهرت دراسة حديثة على نزلاء المستشفيات النفسية معدل انتشارٍ بلغ 9,3% (Grant, et al., 2005) وأما أحدث الدراسات الأمريكية والتي أجريت باستخدام الهاتف دون مواجهة فقد أظهرت معدل انتشار مُحَسَّن إلى حد كبير هو 5,8% (Koran, et al., 2006)!!!.
وبينما يرى دونالد بلاك وهو أحد كبار المهتمين بالموضوع أنه ليس هناك دليل علمي على زيادة معدلات الانتشار في السنوات الأخيرة (Black, 2007)، أرى أن ذلك غير صحيح وهو وإن صدق في المجتمع الأمريكي فإنه بالتأكيد غير صحيح في مجتمعاتنا العربية (والنفطية بصفة أخص) والتي دخلتها ثقافة التسوق مع الفضاء المفتوح وبطاقات الائتمان دفعة واحدة، وأكرر أن الأمر غير مدروس عندنا، ولكن الأقرب للمنطق هو أن الظاهرة أقرب للاستشراء منها للانحسار في أي مجتمع تسود فيه المعايير والقيم الغربية الحديثة؛
ولعل هذا الفهم يقود إلى أننا ربما نتحدث عن ظاهرة أكثر شيوعا مما نتوقع لكنها لا ترقى دائما إلى درجة الاضطراب أو الإدمان السلوكي، وفي نفس الوقت نتحدث عن ظاهرة قد تكون مرضية في بعض الأشخاص بحيث تستوفي معايير التشخيص اللازمة وهذه الأخيرة ضُيِّقَتْ إلى حد كبير لتستبعد كثيرا من أشكال الشراء الاندفاعي المنتشر والمقبول غربيا وتم ذلك برفع النقطة العتبية التي عندها يعتبر المفحوص مريضا بالشراء القهري، ولذا كانت نسب الاضطراب الكامل المصنف ضمن اضطرابات التحكم في الاندفاعية Impulse Control Disorders قليلة في الدراسة الأخيرة.
كل هذه احتمالات ربما تفسر عدم وضوح الزيادة في معدلات الانتشار في أمريكا، والمهم أن المشكلة لا يمكن أن تقتصر على الإجراءات الطبنفسية دون الإجراءات الاجتماعية، حيث يحتاج المرضى من مدمني الشراء إلى تدخل طبنفسي واجتماعي واقتصادي ترشيدي بينما يحتاج عامة الناس في العصر إلى توعية اجتماعية وتدخل اقتصادي ترشيدي، وتغييرات في وضع السوق العالمي الحالي.
كذلك أصبح من المختلف عليه ما إذا كان اضطراب الشراء القهري مرضا يصيب النساء بمعدلات أكبر بكثير من الرجال، فبعد أن كانت الدراسات تشير إلى أن 9 من كل 10 مصابين هم إناث، (McElroy, et al., 1994)، أظهرت دراسات أحدث أن المعدلات تقريبا متساوية (Koran, et al., 2006) وقد تكون نتائج الدراسات القديمة خادعة لأن النساء أقرب دائما إلى التصريح بحبهن للتسوق والشراء (لأن علاقة الأنثى بأشيائها فيها نوع من الاستعراض) بينما الرجال أقرب دائما إلى التصريح بأنهم إنما يجمعون الأشياء بتعقل واستحقاق (لأن علاقة الذكر بأشيائه فيها نوع من الشبق وحب التملك)، إلا أن نتائج هذه الدراسة تتنافى مع نتائج دراسة إنجليزية حديثة أيضًا (Dittmar, 2004) أظهرت أن 92% من المشاركين في الدراسة والذين يمكن اعتبارهم مصابين بالشراء القهري هم من الإناث، وأحسب أن المنشور في الصفحات العربية على الإنترنت يشير أيضًا إلى استفحال سلوك الشراء الاندفاعي وربما الإدماني أو القهري بين الإناث أكثر منه بين الذكور.
ومن المختلف عليه أيضًا سؤال ما هي السن التي يبدأ عندها المرض؟ فبينما بينت بعض الدراسات قديما وحديثا سن أواخر ما تحت العشرين وأوائل ما بعدها (Koran, et al., 2002) أظهرت بعض الدراسات سن 30 كمتوسط لبداية الأعراض (McElroy, et al., 1994)، ويرى دونالد بلاك أن السن المنطقي هو سن الاستقلال عن الأسرة والأهلية لحمل بطاقات الائتمان (Black, 2007) ، وإن كنت في مجتمعاتنا أرى الظاهرة أو التكوين المعرفي المهيأ لها منتشرة بين الأطفال والمراهقين وليس فقط الراشدين.
ورغم غياب الدراسات الطولية التتبعية Longitudinal Follow-up Studies يعتبر المسار المرضي لاضطراب الشراء القهري أو هوس الشراء مسار مزمنا مستمرا أو نوَبيا Chronic Continuous or Episodic حسب أغلب الدراسات (McElroy, et al., 1994) وأيضًا (Schlosser et al., 1994)، كذلك هناك ما يشير إلى شيوعه وانتقاله من جيل لجيل بين أفراد العائلة متواكبا مع عددٍ من الاضطرابات النفسية وعلى رأسها اضطرابات المزاج Mood Disorders (الاضطرابات الوجدانية كالهوس والاكتئاب) وكذلك اضطرابات القلق Disorders Anxiety واضطرابات إساءة استخدام العقَّاقير Substance Use Disorders حيث تنتشر مثل هذه الاضطرابات بين أقرباء مرضى الشراء القهري (Black, et al., 1998)؛
كما تنتشر بين المرضى أنفسهم في خبرتنا الشخصية سواء كاضطرابات مواكبة أو كجزء من التاريخ المرضي للحالة، وأما الطريقة التي ينتقل بها اضطراب الشراء القهري من جيل لجيل فلا يمكن إرجاعها لقوانين الوراثة وحدها -رغم وجود محاولات لإثبات ذلك (Comings, 1998)- لأن للتعلم الاجتماعي من الوالدين والأقرباء دورا لا يمكن إغفاله، كذلك لأن التطور المذهل الذي حدث في وسائل الإعلان والتسوق وأساليب الإغراء، وفي المقال القادم نستكمل الصورة المرضية لاضطراب الشراء القهري لنكمل عرض المتاح من المعلومات قدر الإمكان ولعل نجيب على السؤال مرض أم عرض أم مجرد استجابة للعولمة فتابعونا.
المراجع:
Griffiths, M. (2002): Gambling and Gaming Addictions in Adolescence, London: Blackwell.
Faber RJ, O’Guinn TC.( 1989): Classifying compulsive consumers: advances in the development of a diagnostic tool. Adv Consum Res. 1989;16:147-157.
Magee A. (1994): Compulsive buying tendency as a predictor of attitudes and perceptions. Adv Consum Res. 1994;21:590–594.
Hassay DN. Smith CL. (1996): Compulsive buying: an examination of consumption motive. Psychol Marketing. 1996;13:741–752.
Koran LM. Faber RJ. Aboujaoude E, et al. (2006) Estimated prevalence of compulsive buying in the United States. Am J Psychiatry. 2006;163:1806–1812
Black D. (2007): A review of compulsive buying disorder. World Psychiatry. 2007 February; 6(1): 14–18.
McElroy S Jr. Keck PE Jr. Pope HG Jr, et al.(1994): Compulsive buying: a report of 20 cases. J Clin Psychiatry. 1994;55:242–248.
Dittmar, H.(2004): Understanding and diagnosing compulsive buying. In: Coombs R. , editor. Addictive disorders: a practical handbook. New York: Wiley; 2004. pp. 411–450.
Koran LM. Bullock KD. Hartston HJ, et al. (2002): Citalopram treatment of compulsive shopping: an open-label study. J Clin Psychiatry. 2002;63:704–708.
Schlosser S. Black DW. Repertinger S, et al. (1994): Compulsive buying: demography, phenomenology, and comorbidity in 46 subjects. Gen Hosp Psychiatry. 1994;16:205–212
Black DW. Repertinger S. Gaffney GR, et al. (1998): Family history and psychiatric comorbidity in persons with compulsive buying: preliminary findings. Am J Psychiatry. 1998;155:960–963.
Comings DE. (1998): The molecular genetics of pathological gambling. CNS Spectrums. 1998;6:20–37.
ويتبع>>>>>>>: إدمان الشراء مرض أم عرض أم رد فعل؟؟2
اقرأ أيضاً:
مجتمع يربينا على الإدمان ولا مجتمع الفياجرا؟