تعتبر الأسواق الإليكترونية حديثة الظهور مقارنة بالأسواق الحقيقية إلا أنها جاءت في الوقت الذي توحشت فيه الأسواق الحقيقية على مستوى العالم... والواقع أن المولات (الأسواق العملاقة) الحديثة لا تترك سلعة واحدة يحتاجها المستهلك أو لا يحتاجها إلا وتضعها على أرفف العرض الخاصة بها، كما لا تتوانى عن متابعة كل ما تنتجه التكنولوجيا واستيراده وعرضه أمام المستهلك التعيس الذي تزداد شراهته الشرائية يوماً بعد يوم بحيث يتحول التسوق والشراء إلى نمط حياة يومي وسلوك عادي مثله مثل الذهاب إلى العمل أو حتى زيارة الأقارب والأصدقاء......
وأعداد مرضى إدمان الشراء أو الشراء القهري Compulsive Buying Disorder في تزايد على مستوى العالم، فالسوق المركزي الحالي ليس مكاناً عابراً نذهب إليه ونشترى السلعة ونعود أدراجنا مرة أخرى إلى منازلنا بدون أن نتأثر به وبدون أنه يؤثر فينا، وأما أهم ما تتميز به المولات الحديثة فهو قدرتها العظيمة على إيقاظ شهوة الشراء وهي تُصَمَّمُ أصلا لاستهدافها أي هو قدرتها على استهداف وإفشال آلية تنظيم الذات لدى الإنسان (Kotler, 1974)، وهذا الاستهداف -كما تبين سنة المرجع- قد نُوِّهَ عنه وحُذِّرَ منه سنة 1974 أي قبل 34 سنة فما بالكم بحالة الاستهداف الآن؟.... وعلى هذا المنوال صممت أيضًا معظم الأسواق الإليكترونية أو كل الأسواق التي رأيتها بنفسي فهي تستثير الرغبة في الشراء بكل قوة جاذبة ولما كان عمر التجارة الإليكترونية لا يزيد عن عقدٍ من الزمان بل ربما يقل فإن أسئلة كثيرة ما تزال دون إجابة أكيدة منها سؤالنا هل تشجع التجارة الإليكترونية الشراء القهري أو إدمان الشراء.
وباستخدام مفاهيم النظرية المعرفية الاجتماعية (Social cognitive theory Bandura, 1986) نجد أن آلية التنظيم الذاتي Self-Regulatory Mechanism هي نتاج ثلاث وظائف معرفية هي (LaRose, 2001): وظيفة الانتباه للسلوك والمراقبة الذاتية Self-observation ثم وظيفة تقييم الموقف أمام إغراء الشراء أو العمليات الحكمِية Judgmental Process على سلوك الشراء، ثم رد الفعل الذاتي أو الوظيفة الذاتية التفاعلية Self-Reactive Function أي نتاج تفاعل الذات مع مغريات الشراء طبقا لمعطيات الفرد المعرفية والقيمية والاقتصادية، فهل يختلف تفاعل الذات في السوق الحقيقي عنه في الحالة الإليكترونية وكم للانفراد على الإنترنت، ولإتاحة بطاقات الائتمان من أثر؟ وهل هو في اتجاه الانفلات أم التريث؟ كل هذه أسئلة ما تزال بغير أجوبةٍ متفقٍ عليها.
فأما وظيفة الانتباه للسلوك والمراقبة الذاتية فتعني أن يعي الفرد سلوكه الآني بكل أبعاده ودوافعه وعواقبه لحظة بلحظة..... ويحتاج الشخص ليحسن الانتباه لسلوكه أن يكون في مستوى جيدٍ من الوعي والتركيز والانتباه (أي لا يكون مرهقا أو جائعا أو محتاجا للنوم أو سكرانا أو مسطولا... إلخ)، كذلك يكون الفرد في حالة الشراء في صحبةٍ أكثر انتباها لسلوكه منه في حالة الشراء منفردا!، ومما يتعارض أيضًا مع دقة وسواء الانتباه للسلوك ومراقبته: الحالات الشعورية الداخلية، كحوافزِ التسوّق التي لا تقاومِ، وكذلك المحفّزات الخارجيةُ في السوق كعروضِ البيع المغريةِ، كل هذا قَدْ يُعرقلُ أَو يَرجئ الملاحظةَ الذاتيةَ الدقيقة، ويبين تصفح مواقع التسوق الإليكتروني المختلفة أن عوامل إضعاف الانتباه للسلوك والمراقبة الذاتية أكثر وأمضى من عوامل تفعيله، ففضلا عن المؤثرات الصوتية والبصرية لا نستطيع إغفال الاختراق الأمضى للتسويق الإليكتروني فكل إنسان معرض لفتح رسالة تسويق في بريده الإليكتروني وهو نصف نائم على سريره وبيانات بطاقة ائتمانه محفوظة في مستندٍ نصي على سطح مكتب جهازه المحمول! أي انتباه للسلوك هنا يمكن أن يكون مفعلا ؟!.
وأما العمليات الحكمية على سلوك الشراء أي تقييم الموقف أمام إغراء الشراء، فهي العمليات التي تقيمه حسب المعاييرِ الشخصيةِ مِنْ الحصافة والتعقل أمام الإغراء أَو فيما يتعلق بمعاييرِ المجموعةِ التي ينتمي إليها، أو مقارنات أسرية مَع شريكِ الحياة، أو بسلوك الشراء السابق لدى الشخص نفسه....... ومن المهم الانتباه هنا إلى أن عملية التقييم هذه تنجح فقط عندما يراها الشخص مهمة ويتصرف حسب ما تمليه بؤرة الضبط لديه (وبؤرة الضبط Locus of Control هي مكونٌ من مكونات الشخصية وتعني إدراك الشخص لبؤرة تحريك الأحداث في حياته وهل هي داخلية Internal Locus of Control ... حيث يعتقد الشخص أنه قادرٌ على تحديد ما يحدث له بناء على سلوكه شخصيا... أو خارجية أي بؤرة ضبط خارجي External Locus of Control حيث يعتقد الشخص أن ما يحدث له ينتج عن عوامل خارجية غير مفهومة مثل الحظ أو الظروف غير المتوقعة وبالتالي يصعب التنبؤ بها فضلا عن التحكم فيها)......وفي موقف التعرض لمحفزات الشراء يمكن أن تتداخل عوامل عديدة لتؤثر في العملية الحكمية على سلوك الشراء مثل التحاور مع البائع ومثل رؤية عرضٍ أرخص أو لونٍ نادرٍ من المنتج... أو ما يشير إلى قرب نفاذ المنتج أو أنها آخر قطعة إلخ...
ومن الواضح أن الأسواق الإليكترونية تستطيع بامتيازٍ أن تؤثر في العملية الحكمية دافعة في اتجاه الشراء المتكرر، وحسبنا مقارنة التواصل الحي مع البائع في السوق الحقيقي بمحادثة إليكترونية نصية أو صوتية (وهناك غرف دردشة في هذه المواقع وهناك تبادلات بريد إلكتروني مَع مستشاري مبيعاتِ) تتم مع البائع على الإنترنت أيهما يستطيع ليَّ الحكم في اتجاه الشراء؟.
وأما رد الفعل الذاتي أو الوظيفة الذاتية التفاعلية أي نتاج تفاعل الذات مع مغريات الشراء طبقا لمعطيات الفرد، فهي حوافز سلوكيةً ومعرفية ملموسة ترضي الشخص عن سلوكه وعن نفسه، مثلا مكافأة الذاتِ على السلوكِ الجيدِ بنزهة أو رحلة سياحية، أَو تعطي حوافز تقيمية وتقديرية كاحترام النفسِ أَو الرضا عنِ الذات، حيث يخرج الشخص من تجربة التعرض لمغريات الشراء منتصرا وشاعرا بقدرته على ضبط سلوكه وهو ما يرفع تقدير الذات....، وعلى الجهة الأخرى أي في حالة الشراء يقوم امتلاك المنتج بإعطاء المكافأة آنيا إضافة إلى كل عواقب ذلك الإيجابية والسلبية على الشخص، ولا تعجز مواقع التجارة الإليكترونية أن تقدم حوافز مماثلة تماما خاصة والإنسان في حالة التوحد مع الجهاز الإليكتروني فرغم أنك في حال الشراء الإليكتروني كثيرا ما لا تستلم ما اشتريته في الحال في انتظار إرساله بالبريد (باستثناء المنتجات الإليكترونية السائلة كالأغنيات والكتب الإليكترونية والأفلام حيث تستلم ما تشتريه في الحال إليكترونيا بتحميله من الموقع بعد الدفع ببطاقة الائتمان مباشرة)... إلا أننا في حالة الشراء الإليكتروني نجد العواقب الإيجابية للشراء دائما أسرع وصولا للفرد في صورة مكافآت أو هدايا إليكترونية.... أسرع بكثير من ما يعطيه فرصة التأمل أو التنبه للعواقب السلبية.
وإذا قلنا بأن قوة العرض في الأسواق الحقيقية قد أفلحت بامتياز في تربية وتسمين مدمني شراء وليس فقط مندفعي شراء، وأصبح لدى العاملين في المجال النفسي الاجتماعي الاقتصادي مشكلة اسمها الشراء القهري أو إدمان الشراء استدعت سياسات ترشيد ذاتية ونظريات تفسير ومحاولات علاج عديدة.... فإننا نستطيع القول بأن مصممو ومديرو مواقع الأسواق الإليكترونية قد استوعبوا معظم ذلك واستهدفوا ربما إفشال كل ذلك عبر فضاء الأسواق الإليكترونية.
وعلى الجهة الأخرى يقول منظرو التجارة الإليكترونية Electronic Commerce أن المفترض هو أن حصول عملية البيع والشراء إليكترونيا إنما يقوي آلية تنظيم الذات لا أن يضعفها (Schmitz, 2000) و (Steinfield & Whitten, 2000) بل على العكس يرى هؤلاء أن في الشراء إليكترونيا راحة وتوفير بدلا من الانتقال للمول والتنقل بين رفوف العرض.. إلخ... تفعل ذلك وأنت أكثر هدوءا أمام شاشة الكومبيوتر!
رغم ذلك فهناك دلائل على وجود مدمني شراء إليكتروني Compulsive e-Shoppers على الأقل بين مدمني الإنترنت وهناك نتائج مقارنات بين من يتسوقون إليكترونيا ومن لا يتسوقون تشير إلى أن المشترين عبر الإنترنت أكثر اندفاعية ويطلبون تشكيلات أكثر (أي يستمتعون بالعرض أكثر) وهم أيضًا أقل خوفا من المخاطرة وأقل انتباها للنوعية أو الماركة والسعر (Donthu & Garcia, 1999) وكلها سمات شخصية تشجع إدمان الشراء أو الشراء القهري.
وقد افترض البعض بأنّ متسوقي الإنترنتِ ليسوا متسوقين ترفيهيينَ Recreational Shoppers بوجه عام مقارنة بزبائن السوق العادي (Donthu & Garcia, 1999) وهم بالتالي أقل وقوعا في شراءٍ غير منظم، إلا أن ذلك لم يثبت علميا فلم تَجد دراسة مسحية أخرى أي اختلافِ هامٍ في التوجهِ للتسوّق الترفيهيِ بين ثلاث مجموعات هي مجموعة المشترين المكرّرينِ بكثرة Frequent Shoppers على الإنترنتِ ومجموعة المشترين العرضيينِ Occasional Shoppers على الإنترنتِ ومجموعة غيرِ المشترين وأحرز أفراد المجموعاتِ الثلاث درجات فوق منتصفِ مِقياسٍ للتسوّق الترفيهيِ (Recreational Shopping Scale Li et al., 2000).... وأما دراسات السوق في الولايات المتحدة الأمريكية وفي إنجلترا فتشير إلى حجم لا يستهان به من المشترين المندفعين عبر الإنترنت، كما تُخَمن أعدادهم بأنها تبلغ ربع أو أربعة أخماس كل المشترين عبر الإنترنت.... وتبدو الإنترنت بالتالي وكأنها تجذب أعدادا متزايدة من المشترين الاندفاعيين الذين يتحول جزءٌ منهم إلى مدمني شراء أو مشترين قهريين(LaRose, 2001).
وبرغم ذلك (رغم وجود حالات إدمان شراء مرضية بين مدمني الإنترنت، وبين هواة الشراء ببطاقات ائتمان مسروقة) فإنه في غياب وجود دليلٍ علمي موضوعي عن وجود مدمني شراء إليكتروني... أو دليل علمي موضوعي على أن مواقع التجارة الإليكترونية تعزز إدمان الشراء أو تدفع إلى الشراء القهري، فإننا نجد أن المتاح لنا هو محاولة استقراء الواقع الذي يبدو موحيا بشدة.... وحقيقةً فمثلما هناك عوامل في مواقع التجارة الإليكترونية تضعف آلية التنظيم الذاتي، فهناك أيضًا في معظم مواقع التسوق الإليكتروني ما قد ينبه إلى مراقبة السلوك وما قد يعزز العمليات الحكمية كإظهار السعر بالدولار أو غيره إلى جوار كل سلعة، وعند المتصفح وقت للمقارنة إذا هو أراد... ومعظم المواقع تعرض لك الفاتورة قبل أن تضغط بالموافقة على السحب من بطاقة ائتمانك... والمهم أن تتروى وتقرأ... بما يسمح لك أن تسترجع ميزانيتك في عقلك، وهناك من يقدمون للزبون الإليكتروني قائمة بمشترياته السابقة من نفس الموقع، رغم ذلك فإن المتسوق على الإنترنت أضعف بمراحل من المتسوق الواقعي الذي أصبح ضعيفا بالضرورة في زمان العولمة....... وفي المقال التالي سنحاول عرض المتاح عن طرق العلاج النفسي للشراء القهري أو إدمان الشراء.
المراجع:
1- Kotler, P. (1974) Atmospherics as a maketing tool. Journal of Retailing, 49, 48-64.
2- Bandura, A. (1986). Social foundations of thought and action: A social cognitive theory. Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall.
3- LaRose, R.(2001): On the negative effects of e-commerce: A socio-cognitive exploration of unregulated buying. Presented at the 35th Anniversary Conference of Hong Kong Univ. 23-7, 2000.
4- Schmitz, S.W. (2000). The effects of electronic commerce on the structure of intermediation. Journal of Computer Mediated Communication, 5 (3). Downloaded from the Web on May 23, 2000 from: http://jcmc.indiana.edu/vol5/issue3/schmitz.html
5- Steinfield, C. & Whitten, P. (2000): Community level socio-economic impacts of electronic ommerce, Journal of Computer Mediated Communication, 5 (2). Downloaded from the Web on May 23, 2000 from: http://jcmc.indiana.edu/vol5/issue2/steinfield.html
6- Donthu, N. & Garcia, A. (1999): The Internet shopper. Journal of Advertising Research, 39, 52-58.
7- Li, H., Kuo, C., & Russell, M.G. (2000): The impact of perceived channel utilities, shopping orientations, and demographics on the consumer's on-line buying behavior. Journal of Computer Mediated Communication, 5 (2). Downloaded from the Web on May 23, 2000 from: http://jcmc.indiana.edu/vol5/issue2/hairong.html
ويتبع>>>>>>>: إدمان الشراء أو التسوق أم الشراء القهري؟ مشاركتان
اقرأ أيضاً:
إدمان الشراء أو التسوق أم الشراء القهري؟ تقديم / إدمان الشراء مرض أم عرض أم رد فعل؟؟(1-3) / الشراء القهري هل من علاج؟! / الشراء القهري هل من علاج يناسبنا؟