منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري (4)
أرسلت فاتن أبو سلو (مدرسة في معهد الفتح الإسلامي، 35 سنة، سوريا) تقول:
أشكر الآنسة رفيف الصباغ على معالجة هذا الموضوع بشكل فقهي إذ أن الموسوس بسبب الجهل تنحل مشكلته بالتعلم وربما يستجيب لمن ينصحونه لعلاج مرضه من الأطباء غير الفقهاء، أما الموسوس الفقيه –نسبياً- أو الفقيه الورع فلا يتقبل النصح إلا من فقيه يفهمه ويساعده لحل مشكلته كما أشارت الآنسة رفيف في مقالها، على سبيل المثال أعرف فتاة بدأ الوسواس عندها بعد أن درست أحكام سجود السهو، فلم تعد تهنأ بصلاة؛ لقد غدت صلاتها على الغالب تطبيقاً عملياً لكل ما جاء في الشك بترك ركن أو.... وما يقلقها دوما أنها تخشى بطلان صلاتها لكثرة ترددها...
سألتني: لم لا يزول الوسواس في رمضان مع أن الشياطين مصفدة؟
في الواقع لم أتمكن من الإجابة على هذا السؤال، ولعل في إشارة الآنسة رفيف في المقال السابق إلى أن الشيطان يلقي إلى الإنسان ما يناسب استعداده الشخصي في تقبل الفكرة الوسواسية جواباً على ذلك..
أرجو من الآنسة رفيف التكرم بالإجابة عن هذا السؤال.
وفق الله الآنسة رفيف لمتابعة مقالاتها للوصول إلى علاج "الفقهاء الموسوسين" -إن صح التعبير- وجعل في تلك المقالات عوناً وشفاء لمن أصيب بهذا الداء.
وأسأل الله سبحانه أن يأخذ بيد القائمين على الموقع ويوفقهم لما يحبه ويرضاه.
27/10/2008
* تعليق الأستاذة رفيف الصباغ
السلام عليكم ورحمة الله؛
الأخت الكريمة فاتن، أشكر لك متابعتك ودعاءك للقائمين على إدارة هذا الموقع فهم يستحقون ذلك بجدارة. كما أرجو أن يستجيب الله دعائك ويعينني على إكمال الموضوع على النحو الذي يرضيه...
وبالنسبة للفتاة (الفقيهة الموسوسة) التي تعرفينها، فإن إصابتها تؤكد الصفة المرضية للوسواس، بل نقرأ في تراجم كبار العلماء من هو مصاب بالوسواس، كابن دقيق العيد -مثلاً- وكان فقيهاً في مذهبي المالكية والشافعية متبحراً في كثير من العلوم، ويذكر المؤرخون: أن الوسواس قد قهره في الطهارات حتى كان له من ذلك قصص عجيبة، ويقال: إن جده لأمه كان موسوساً وهو من العلماء أيضاً! وفي هذا -أيضاً- إشارة إلى دور الوراثة في الإصابة بمرض الوسواس.
وكما سبق وذكرت -في مقالات منهج الفقهاء- فإن الشيطان يستغل نقاط الضعف عند الموسوس ويتسلط عليه بما يناسب استعداده للإصابة بالمرض. وباختصار: فإن للاستعداد البيولوجي دوراً في الإصابة بالوسواس، كما أن للشيطان دوراً فيه أيضاً.
وأما بالنسبة لعلاج هذه الأخت:
فأنصحها أولاً: بالذهاب إلى الطبيب النفسي لتلقي العلاج الدوائي واستدراك الأمر قبل أن تعسر المعالجة. ولا تلتفت للكلام المنتشر بين الناس أن من يذهب إلى الطبيب النفسي مجنون، أو أن الله أصابه بذلك عقوبة على معاصيه التي لا تغتفر، وربما كان المريض النفسي عندهم بمنزلة المرتد أيضاً. ولترجع -إن شاءت- إلى ما كتب في هذا الموقع في قسم "شبهات وردود" لتوضيح حقيقة العلاج النفسي.
وثانياً: أنصحها بقراءة "برنامج علاج ذاتي لمرضى الوسواس القهري" للدكتور محمد شريف سالم على هذا الموقع أيضاً...
ثالثاً: نأتي لمعضلة المعضلات وهي حصول القناعة لدى الموسوس بالوساوس الدينية بأن العلاج السلوكي الذي يتلقاه عند معالجه النفسي جائز من الوجهة الشرعية، ولا يؤثر على صحة طهارته وعباداته!!
بالمختصر المفيد: إن ما اطلعتُ عليه من أساليب العلاج السلوكي النفسي، وما يقضي به من لزوم وقف الاستجابة للوساوس، وعدم العمل بمقتضاها، جائز شرعاً، بل هو في الحقيقة ذات العلاج الذي كان يعالج الفقهاءُ به الموسوسين، وهو مستمد من أحاديث واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يمكنني الآن شرح ذلك مفصلاً، لأن هذا سيرد في مقالات متعددة ومتتابعة عن منهج الفقهاء بإذن الله تعالى، ولكن أعطيك ملخصاً عملياً يمكنها الاستفادة منه ريثما يكرمني الله بكتابة تفصيلات الموضوع، والبرنامج كالتالي:
1- الالتجاء إلى الله بالدعاء باستمرار وطلب الشفاء منه، فهو لا يعجزه شيء.
2- استعيذي بالله من شيطان الصلاة (خِنزَِب) واتفلي عن يسارك ثلاثاً قبل البدء في الصلاة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عثمان بن أبي العاص رضي الله تعالى عنه عندما شكا إليه وسوسته في الصلاة. ولا بأس بقراءة سورة الناس، وكذلك قوله تعالى: ((إِنْ يَشِأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيْدً * وَمَا ذَلِكَ عَلى اللهِ بعَزِيزٍ))، والإكثار من ذكر الله تعالى –عموماً- مع حضور القلب والتفكر في المعاني.
3- لا تحاولي الأخذ والرد في مضمون الوساوس ولا تشغلي نفسك في البرهنة على بطلانها، لأنها جاءت من غير دليل فتهمل من غير دليل كما ذكر النووي في شرح مسلم.
4- لا تخافي مما يأتيك من الوساوس، لأنها خارجة عن قدرتك فلن تحاسبي عليها ولن تدخلي النار بها، بل افرحي عندما تأتيك وقولي لنفسك: (يا سلام!!! أنا أنال كثيراً من الأجر على صبري وعدم استلامي لوساوسي، وأرجو من الله أن أبلغ بصبري على هذا البلاء درجات عالية في الجنة). وكلما غلبك الخوف من الوساوس: داوي نفسك بدعاء الإمام النووي وقوله فيه: (الله أعز وأجل وأكبر مما أخاف وأحذر...) واقرئي سورة (قريش) فهي مجربة في طرد المخاوف.
5- خففي من صلاتك في بداية العلاج، أي اقتصري على الأركان دون السنن فاقرئي الفاتحة فقط، واقتصري في الركوع والسجود على مقدار الاطمئنان... وهكذا، قد يبدو الأمر مرعباً جداً في البداية، ولكنه علاج لمرض يهدم المقاصد الخمسة التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها في الجملة، فهو يؤثر على: العقل: وأنت أعلم بما يجري لك من تشويش في الفكر. والدين: لأنه يؤدي عند زيادته إلى ترك الصلاة!
والنسل: حيث يحصل الطلاق أحياناً بسبب وسوسة أحد الزوجين. والمال: وخاصة في وسواس الطهارة وما فيه من إسراف للماء. والنفس: إذ كثيراً ما يصاب هؤلاء بأمراض جسدية، كالآفات الجلدية نتيجة كثرة التنظيف....، وإذا نص الفقهاء على وجوب الاقتصار على فرائض الوضوء لمن خشي فوت وقت الصلاة إن اشتغل بالسنن، ونصوا أن الاقتصار على فرائضه مسنون لمن خشي فوت الجماعة إن اشتغل بسنن الوضوء، -إذا نصوا على ذلك-، فمن خشي من هدم مقاصد التشريع على هذا النحو، يشرع له التخفيف والاقتصار على الفرائض من باب أولى.
6- حاولي أن لا تستجيبي لأي فكرة تأتيك لأن الشرع لا يقيم للوساوس وزناً ولا يبني عليها حكماً، مثلاً: التردد في قطع الصلاة يبطل صلاة الصحيح، ولا تأثير له على صلاة الموسوس كما ذكر الشافعية. إذا شككت في تكبيرة الإحرام أو في مقارنة النية لها (كما هو مذهب الشافعية) تعتبرين كأن الشك لم يأتك وتتابعين صلاتك، لأن هذا الشك لا يُبنى عليه حكم، وإن لم تطاوعك نفسك فقلدي سائر المذاهب بجواز تقدم النية على التكبير بيسير، وقد نص الشافعية على أن الأولى للموسوس تقليد مذهب الحنفية في ذلك! وإذا شككت في عدد الركعات، أو هل ركعت أم لا أو هل قرأت الفاتحة أم لا فتصرفي على أساس أنك فعلت الأكثر (لا الأقل كما هو الحكم لغير الموسوسين) فاعتبري أنك قرأت الفاتحة، وركعت، وصليت أربع ركعات لا ثلاث. وهكذا.... وإن شككت في فعل مبطل للصلاة كخروج أحرف أو حركات كثيرة متوالية، فقولي: لم أفعل ما يبطل. وإذا كان غير الموسوس لا تبطل صلاته إلا بوجود مبطل بيقين ولا بطلان بالشك، فالموسوس أولى أن لا يعمل بشكه...
7- تحايلي على الشيطان كما يتحايل عليك: إن قال لك: كيف تصلين ثلاث ركعات؟ سوف تدخلين النار!!! قولي له: لا دخل لك، أنا أطيع الله بفعل ما أمرني به من ترك الوسوسة، أنا سأصلي ثلاث وأدخل الجنة، وأنت فلتهنأ بدخول النار! وإن لم تشعري بتمام التكبير أو الفاتحة قولي: أنا لا أستطيع غير هذا ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فأنا غير مكلفة بالإتيان بهما على النحو الذي قرأت في كتب الفقه، وهكذا....
وأخيراً: لا بد من طول الصبر على المعالجة، وأرجو أن يكون في هذا العلاج فائدة لأختنا الموسوسة وغيرها ممن يقرأ الإجابة، كما أرجو أن تطمئنينا يا أخت فاتن عن حال تلك الفتاة في حال تطبيقها للعلاج، وتُعْلِمينا بمدى الفائدة التي جنتها منه. بانتظار متابعتك...
ويتبع ............: منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري(5)
واقرأ أيضًا:
هل اضطراب الوسواس القهري اضطرابٌ نادر؟ / الاستبصار واضطرابُ الوسواس القهريِّ / علاج الوسواس OCDSD فقهي معرفي ديني Relig