أرسل خالد (45 سنة، المغرب، أستاذ) يقول:
السلام عليكم باختصار أصبت بهذا المرض على ما أتذكر مند فترة المراهقة ولم أكن أحسبه مرضا بل شخصيتي هكذا إلى أن سقطت في انهيار عصبي سنة 1999حيث توجهت إلى طبيب نفساني وصف لي أدوية للعلاج من الاكتتاب بعد ذلك بثلاث سنوات قرأت بموقعكم أن ما أعاني منه مرض وهو سبب اكتئابي
المهم الآن ما زلت أعالج، سؤالي هو: هل يمكن أن نسمي الشات ومشاهدة أفلام البورنو ومعاشرة النساء فعلا قهريا؟؟؟
وشكرا
3/12/2009
أهلا وسهلا بك يا خالد وسواس النظر إلى العورات هو أحد أشهر أشكال وسواس النظر بشكل عام وليتك ذكرت لنا بعض التفاصيل عن حالتك، ففي الشكل الشائع لحالة وسواس النظر إلى العورات يكون الحدث العقلي التسلطي هو فكرة أن نظرك يتجه إلى الأعضاء التناسلية للآخر (ذكرا أو أنثى) أو إلى أحد أجزاء الجسد خاصة ذات العلاقة بالنشاط الجنسي وبينما يجد المريض الفكرة مزعجة وغير صحيحة في أول الأمر فإن ما يحدث بعد ذلك هو أنه يبدأ ينشغل في كل لقاء مع شخص آخر بالتركيز على حركة عينيه وعلى اتجاه نظره لمنعه من التوجه إلى أعضاء الآخر الجنسية، ويبقى هكذا مقسوم التركيز والانتباه بين ما هو حادث في الموقف من حوار مع الآخر مثلا وبين مراقبته لنظره... وغالبا ما يفشل في التحكم بانسيابية عينيه ويفقد اقتناعه بالتدريج بعدم صحة الفكرة فيأتي إلى الطبيب النفساني مقتنعا بأن نظره يتجه غصبا عنه إلى عورات الناس، وفي نفس الوقت غالبا ما يبدأ في تأويل حركات وسكنات وإيماءات الآخر على أنها علامة على افتضاح أمره، فالآخرون يعرفون أنه ينظر للعورات، ومن المؤكد أن لانقسام انتباهه وتوزعه بين التحكم في انسيابية النظر وبين الحاصل في الموقف دورا في عدم إلمامه بكل الحاصل في المواقف الاجتماعية وبالتالي فإنه قد يفسر كلمات أو حركات أو نظرات من الآخر على أنها دليل على معرفته بالأمر...... ومن هؤلاء كثيرون يرتدون نظارة سوداء تغطي العينين جيدا ومنهم من يعتزل الناس إلخ.
وفي المثال السابق نرى أن النظر ناحية عورة الآخر يكون غصبا عن الشخص ويكون الصراع الداخلي على معنى غير جنسي، إلا أنني وجدت من يرتبط الصراع لديهم بالحرام والحلال فيرتبط النظر إلى أعضاء الآخرين التناسلية (ذكورا أو إناثا) أو إلى أحد أجزاء الجسد خاصة ذات العلاقة بالنشاط الجنسي بشهوة ما هي حرام دينيا بالنسبة لهذا الشخص فيتمحور الصراع حول غض البصر من عدمه، وبعض هؤلاء يتصرفون بشكل يبدو غريبا في السياق الاجتماعي كأن ينظر الشخص في الأرض باستمرار أثناء الحديث مع الآخرين.
وهناك من يدور وسواس النظر لديه حول تأثير النظر إلى شيء ما على قوة الإبصار فيصبح تجنب أو تحاشي النظر مباشرة إلى الضوء أو إلى الشمس أو إلى الماء أو غيره هو الفعل القهري Compulsion أو احتياط الأمان Safety Behavior الذي يؤديه الشخص باستمرار لأن الفكرة التسلطية لديه هي أن النظر مباشرة إلى الضوء سيسحب قوة إبصاره فهو رغم تفاهة وعدم صحة الفكرة في رأيه لا يستطيع إلا أن يتصرف وكأنها صحيحة.... على كل أنت إلى حد ما حددت لنا المشكلة بأنها النظر إلى العورات، ولم تعط أي تفاصيل أكثر وإنما انطلقت للسؤال المتعلق بالحالة الجديدة "هل يمكن أن نسمي الشات ومشاهدة أفلام البورنو ومعاشرة النساء فعلا قهريا وشكرا"....... وأرد عليك بالتساؤل حول مفهوم القهرية وما يترتب فقهيا على كون شيء ما قهريا أولاً ثم أتساءل ثانيا عن من "نحن" الذين تشير إليهم في تساؤلك "هل يمكن أن نسمي"؟
والقهرية كما في الفهم الغربي تستخدم بمعنيين مختلفين أحدهما هو القهري القسري Compulsive والآخر هو القهري الاندفاعي Impulsive ففي بعض الحالات يكون الفعل قهريًا قسريا عندما يضطر المريض لفعله استجابة لشعورٍ متعاظمٍ بالضيق والقلق أو الخوف يتخلص منه المريض بفعل الفعل القهري فلا يكون الفعل مصحوبًا بلذةٍ معينة وإنما فقط بالتخلص من الضيق أو القلق أو الخوف، وهذا هو الشكل المعتاد والمشتهر للفعل القهري في اضطراب الوسواس القهري
وفي بعض الحالات يكون الفعل قهريا اندفاعيا، بمعنى أن المريض يفعله استجابة لرغبةٍ ملحةٍ في الفعل الذي يكون مصحوبًا بما يشبه الشعور باللذة وعادة ما يتلوه شعور بالندم بسبب الاستجابة لتلك الرغبة، التي يرفضها الشخص عادةً بوعيه، ومن ذلك منظومة الإدمان كلها، واضطرابات العادات والنزوات Habit and Impulse Disorders أو اضطرابات التحكم في الاندفاعة Impulse Control Disorders وكذلك اضطرابات التفضيل الجنسي Disorders of Sexual Preference (أو الشذوذات الجنسية Paraphilias) ففي كل هذه الحالات نجد شكلا مختلفا للعملية القهرية يكون فيها الفعل القهري وربما ما قبله من تخيلات ممتعا إلا أنه فعلٌ من النوع الذي عادة ما يعقبه الندم الشديد
ويشترطُ في الطب النفسي لاعتبار ظاهرة ما اضطرابا تسلطيًّا قهريًّا أن تستوفي الظاهرةُ القهريةُ فيها الشروطَ التالية:
- رفض الظاهرة القهرية ولو جزئيًّا من جانب المريض،
- الرغبةُ في والإصرارُ على مقاومة الظاهرة القهرية ولو من حينٍ لآخرَ،
- إلحاحُ الظاهرة القهرية فكرةً كانت أو فعلاً على وعي المريض،
- إيقان المريضِ بأنها إنما تنبعُ من داخل كينونته النفسية وليستْ بفعلِ مؤثِّـرٍ خارجي،
ومثلما أشرنا من قبل في مقالنا القديم عن مفهوم نطاق الوسواس القهري فإن الشرطين الأول والثاني يتميزان بكونهما متغيران إما في بداية الاضطراب أو في المراحل المتقدمة منه، فمثلاً في حالة وسواس الوضوء/انتقاض الوضوء الذي يضطر المريض بسببه إلى الوضوءِ مثلاً عشرينَ مرةً قبل كل صلاة، يمكنُ أن يتغيرَ موقفُ المريض الفكري من الفكرةِ ما بينَ الرفض المطلق لصحتها في بداية الاضطراب إلى القبول بها والاستسلام لها في المراحل المتقدمة منهُ، وواقع الأمر أنه إما أن يستسلم وهو على جهل بالفقه الإسلامي اليسير أو أن يستسلم على علم بالفقه لكنه يفشل في الالتزام بقواعد التيسير لأنه يرغب في الوصول إلى الفعل الكامل قدر استطاعته، وبعضهم يوسوس في كونه موسوسا من عدمه وبالتالي في هل يصح له التخفيف؟ أو يوسوس في صحة معاييره التي يقيس أو يقيم بها أو غير ذلك.... المهم أنه بعد رحلة طويلة من العذاب يستسلم أخيرا ويصل ربما لقرار ألا يفكر في الموضوع.
وعكسُ ذلك يمكنُ أن يحدثَ في حالات اضطرابات الوسواس القهرية الاندفاعية Impulsive مثلاً فقد يقبل المريضُ الرغبةَ التسلطيةَ أو الفعل القهري في بداية الاضطراب ولكنهُ يرفضها ويعترفُ بعدم صحتها في المراحل المتقدمة منه، ويطلب العلاج منها مثل كل حالات المدمنين ومرضى الشذوذات الجنسية Paraphilias والاضطرابات المتعلقة بالشذوذات الجنسية Paraphilia-Related Disorders.... وهكذا تتأرجحُ مقاومة المريض للفكرة التسلطية بين الاقتناع بأنها تافهة أو غير صحيحة وعكس ذلك بين مراحل الاضطراب المختلفة.
ولنأخذ مثالا يجعل الأمر سهلا عليك يا خالد تخيل أنك أيام الوسوسة في موقف مع أحد الناس وأن نظرك اتجه (أو هكذا تعتقد) إلى أعضائه التناسلية ليس هذا فقط بل هو غالبا انتبه لذلك... عند هذه اللحظة ستشعر برغبة عاتية في النظر إلى وجهه لتبحث عن علامة تشير إلى أن أمرك فضح أو لم يفضحْ... وتشعر في نفس الوقت بالخجل الشديد من التقاء نظريكما إلا أنك في النهاية تنظر إلى وجهه بنصف عين أو بشكل لا يواجهه مباشرة لتستريح... فتنظر إلى وجهه للبحث عن إمارات أنه يحتقرك أو يرثى لحالك.. إلخ هذه النظرة هي فعل قهري قسري تحتاج إلى فعله لتنجو من الرغبة العاتية في التحقق من أنه عرف ما بك أو لم يعرف؟ أي للتخلص من الكرب النفسي الناتج عن تلك الرغبة وعندما تنظر إليه فتجد أن وجهه متعادل التعبير بما يعني أنه لم يلحظ نظرتك إلى أعضائه التناسلية عندئذٍ ستشعر براحة كبيرة لأنك تحققت من أنه لم يلحظك.... لكنك بعد وقت قصير غالبا ما تتذكر حركة ما أو نظرة ما منه فتبقى حائرا يا ترى لاحظ نظراتي أم لا؟..... لاحظ هنا أن الفعل القهري متعادل أو فعل عادي غير مرتبط بمتعة في ذاته.
وأما من لا يعرفون معاناة المبتلى بوسواس النظر فأعطيهم مثالا آخر هو مثال المصابة بوسواس النظافة والخوف من التلوث أو العدوى وقد اضطرت للمس شيء تعتقد أنه ملوث هنا ستشعر برغبة عاتية في غسل يديها ويصحب ذلك توتر شديد وربما خوف من عواقب التلوث وتبقى على نار إلى أن تتمكن من غسل يديها... فغسل اليدين هنا فعل قهري قسري لكنه يعطي كثيرا من الراحة –وإن كانت وقتية- بمجرد فعله........ ومن الطريف أن مثل هذه الموسوسة بعد سنوات من الوسوسة يمكن أن تستجيب بغسيل يديها لأن زوجها انتقدها أو انتقد طريقتها في الطهي على سبيل المثال... ويبدو أن تكرار الفعل القهري القسري يمكن أن يسبب نوعا من الإدمان السلوكي Behavioral Addiction للأفعال القهرية، فنجد أن سلوك غسيل اليدين كفعل قهري مريح في ذاته دون أن يسبقه اتساخ اليدين أو الشعور باتساخهما ففي المثال السابق ليس هناك رابط منطقي بين انتقادات الزوج وغسيل اليدين لكن صاحبتنا تعودت على مر السنين أن فعل غسيل اليدين يريحها كثيرا ويخفف من توترها.
وأما ما يحدثُ في حالات اضطرابات الوسواس القهرية الاندفاعية فهو سيناريو مختلف لأن ما يحدث هو أن شخصا ما يجدُّ نفسه مقهورا على تكرير انفلاتة سلوكية ما، غالبا ما يندم عليها ويستنكرها في لحظات وعيه، لكنه أثناءها غالبا ما يشعر بالمتعة أو على الأقل بزوال الضيق، وهذه الانفلاتة قد تكون تعاطي مادة مدمنة أو الجلوس إلى الإنترنت لمتابعة التشات أو لدخول موقع جنسي أو غير ذلك من كل أشكال الاندفاع الوسواسي، ولعل أكثرَ مظاهر دوامة الإدمان السلوكية شبها بأعراض الوسواس القهري هو التوق المُلِح أو الخرمانُ على المستوى المعرفي، وما يستتبعهُ من أفعال التعاطي أو التكرار أو التخزين للمُدْمَن مادةً كان أو نشاطا على المستوى السلوكي، فهنا تكتمل الحلقة المعرفية السلوكية النموذجية للوسوسة، فالتوقُ الملحُ يأخذُ شكل الفكرة التسلطية في صورة خيالات وتخيلات تفرضُ نفسها على المدمن أو المتعاطي- أثناء ابتعاده عن المدْمَنِ أو أثناء إعداده مثلا للمادة أو تعاطيها أو لممارسة النشاط المُدْمَن......
لكن التساؤل المهم هنا هو هل يصبح الفعل الاندفاعي أو الإدماني قهريا بهذا الشكل؟ وهل يمكن أن نغفل أن الفعل القهري القسري غالبا ليس ممتعا في ذاته ودون ارتباط بالحدث العقلي التسلطي مقارنة بالفعل القهري الاندفاعي الذي غالبا ما يكون ممتعا في ذاته ودون ارتباط بالحدث العقلي التسلطي... إلا أنني لا أستطيع إغفال أنه في بعض الحالات -خاصة في حالات الإدمان- نجد أن ممارسة الفعل القهري الاندفاعي لا تكون ممتعة إلا فقط بقدر التخفيف من أعراض الانسحاب وهذا ما يجعل التفريق صعبا.... فنجد أن مدمن الجنس أو المريض بأحد الشذوذات الجنسية مثلا يجد نفسه مجبرا على الممارسة دون اختيار ويشعر أنه مقهور على ما يفعل وكثيرا ما يفعله ليس بغرض المتعة وإنما لأنه يشعر برغبة عاتية في الفعل ورغم ذلك فإن المسئولية عن السلوك تبقى في نظر الشرع والقانون.
والحقيقة أنه رغم اضمحلال الفروق الأساسية بين الأفعال القهرية القسرية وتلك الاندفاعية في أدبيات الطب النفسي إلا أن الأمر مختلف في رأي القانون فكل مرضى الإدمان والتعاطي ومرضى اضطرابات العادات والنزوات أو اضطرابات التحكم في الاندفاعة وكذلك اضطرابات التفضيل الجنسي (أو الشذوذات الجنسية) والاضطرابات المتعلقة بها ومنها إدمان المواقع الإباحية والتشات الجنسي كل هؤلاء مسئولون في نظر القانون عن أفعالهم ولا ينقص التشخيص النفساني من مسئوليتهم شيئا.
وهنا أصل إلى التساؤل الثاني: من "نحن" الذين تشير إليهم في تساؤلك "هل يمكن أن نسمي"؟ فأنا أظن الحكم الشرعي لن يختلف عن الرؤية القانونية فمثل هذه السلوكيات يبقى صاحبها مسئولا عن انفلاته مهما أسميناها قهرية لأن مفهوم القهرية مختلف عن مفهوم المسئولية.... فإذا كانت "نحن" عائدة على المسلمين فإن هذه الأفعال ليست قهرية إذا قصد بالقهرية تخفيف المسئولية لكنها تصبح قهرية في رأي الطب النفساني في حالة فقدانها للمتعة المصاحبة لها وهو ما لا يحدث إلا نادرا وحتى إن حدث لا ينقص من المسئولية شيئا.
واقرأ أيضاً:
وسواس النظر والملامسة: وسواس قهري
التعليق: إنني أضحك من غير سبب