الأعراض النفسية هي رد فعل طبيعي لظروف الحياة ولا فائدة من علاجها دون حل للمشكلات الحياتية!
يحتاجُ الأمُر هنا إلى مزيدٍ من الشرح والتوضيح لكيفية حدوث المرض النفسي والذي هو نتيجة تفاعل عوامل خارجية مع عوامل داخلية "في الشخص ذاته" فمثلاً ليس كل من يفقدُ شخصا عزيزاً عليه وداعما له في الحياةِ "عامل خارجي" يصل رد فعله على ذلك إلى الاكتئاب والقلق وفقدان الشهية وعدم القدرة على النوم وعدم القدرة على الخروج للعمل وربما التفكير في الانتحار! فعلى سبيل المثال يموت الأب تاركا ولدا وثلاثة بنات ويمر الكل برد الفعل المعروف "رد فعل الأسى Greif Reaction" من حزن وبكاء وتذكُرٍّ مؤلم... إلخ.... مدة أسبوع أو أسبوعين وربما أكثر وبعدها تعود كل واحدة من بناته إلى بيتها وأولادها لكن البنت الوسطى تستمر في الحزن والبكاء وعدم القدرة على النوم ولا تريدُ العودة إلى بيت زوجها ولا تحسُّ باشتياقٍ إلى أولادها ولا بطعم للأكل ولا ترى فائدةً من الحياة بعد وفاة أبيها! لابد هنا من سبب في البنت ذاتها "عامل داخلي" لأنَّ العامل الخارجيَّ واحد في ذلك المثال لكنَّ كثيرين لا يفطنون إلى ذلك.
وكذلك الأمرُ مثلا في أستاذين كبيرين في واحدة من كليات الطبِّ على سبيل المثال عرف كل منهما أنه مصاب بسرطانٍ في القولون "عامل خارجي" أما أحدهما فحزن ما حزن لكنه احتسب البلاءَ عند الله وواصل عمله بين طلابه ومرضاه وواصل ما أتيح لحالته من علاج وأما الآخرُ فكانت إصابته بمثل ذلك الداء نهاية لكلِّ شيء في حياته فلا هو يخرج ليدرس لطلابه ولا هو يستقبل مرضاه في عيادته ولا هو حتى متعاون مع معالجيه وقد أخبرتني زوجته سرًّا أنه لم يعد يهتم بالصلاة ولا يقرأُ القرآنْ!!
ونرى في هذا المثال أيضا أنَّهُ بالرغم من ثبوت الحدث الحياتيِّ "العامل الخارجي" فإنَّ النتيجة مختلفة تماما فأحد الأستاذين واصل حياته متقبلاً لقدَرِه مؤمنًـا برحمة ربه وأحدهما اكتئبَ فعجز عن أيِّ شيءٍ من ذلك! ولم يكن من تفسيرٍ للفرق بين الحالتين إلا ما عرفته بعد ذلك من أن الأستاذ الذي اكتئب كانت له أخت وكانت له عمة أصيبت كلتاهما بالاكتئاب أيَّ أن في الأمر شيئاٌ من الاستعدادِ الوراثي "عامل داخلي".
وتكملةً للمثال الأخير أقول أنَّ أستاذ الأورام الذي كان يتابع كلا من الحالتين قد وجد معاناة كبيرة في معالجة الأستاذ المكتئب ووجد استجابته أقل للعلاج الإشعاعيِّ Radiotherapy والكيميائي Chemotherapy بالرغم من أن حالته المرضية كانت أقل تطورا من الأستاذِ الآخر! وكان قد قرأ أن حدوث الاكتئاب يؤدى إلى تدهور الحالة وتقليل الاستجابة للعلاج وأنه تجب الاستعانة بطبيب نفسي ولكنه لم يكن مستعدًا لمفاتحة الأسرة في ذلك وعليه فقد أضاف واحدًا من عقَّـاقير علاج الاكتئاب إلى الأدوية في جرعة صغيرة في المساء ولكن مرور شهر بلا نتيجة كان مقلقا بالنسبة له! أما ما أجبر الجميع على عرض الأستاذ على الطبيب النفسي فهو أنه في الفترة الأخيرة بدأ يرفض العلاج كله لأنه لا يحس له نتيجة تذكر اللهم إلا الكثير من الآثار الجانبية المزعجة!
وكان على أستاذ الأورام عبءٌ كبيرٌ ألا وهو إقناع زوجة المريض وأولاده بضرورة عرض الحالة على الطبيب النفسي فلم يكن اكتئاب أبيهم غريبا من وجهة نظرهم وكان لسان حالهم يقول يعنى "عنده سرطان وسيموت ولا تريدونه أن يحزن!" المهم أنهم قبلوا على مضضٍ وكان واضحًـا تحفُّـزُهم في ردود أفعالهم عندما جلس الطبيب النفسي معهم ليناقشهم في خيارات العلاج المتاحة والمفاضلة بينها وكان ردهم الذي اتفقوا عليه جميعا هو "لا لا كهرباء إيه يا دكتور!! هو ناقص!! بابا عنده حق يكتئب".
وكان العبءُ هذه المرة على الطبيب النفسي الذي أصرَّ على أن يكون العلاج بالصدمات الكهربية نظرا لخطورة الموقف والحاجة إلى التحسن السريع وكذلك لتعدد الأدوية التي يتناولها المريض! وفي نهاية الأمر رضخ الجميع بعدما شاهد أحدهم بالصدفة فيلما أمريكيا عرضت فيه صورة واقعية لما يحدث قبل وأثناء إجراء الصدمة الكهربية! وكانت تعبيراتُ وجوه أبنائه ووجه زوجته ناطقة بالشكر في صبيحة يوم الصدمة الكهربية الثالثة! فقد تحسن في كل شيء وقالت زوجته: "أكل بشهية كنا نسيناها وبدأ يتكلم عن الكلية وعن أحوال العيادة وطلب مصحفا وعاود الصلاة وابتسم وهو يداعبُ أحفاده بارك الله فيك يا دكتور".
الحقيقة أنني اضطُـرِرْتُ إلى حكاية كل هذه الحكايــة لأن في كــل جزءٍ منها ما يحتاج إلى تدبرٍ وتفهم كبيرين:
فأولا: حصل الاكتئاب نتيجة تفاعل عاملين الخبر السيئ وهو الإصابة بالسرطان كعامل خارجي والاستعداد الوراثي للاكتئاب كعامل داخلي! ولذلك حدث لحالة دون الأخرى!
وثانيا: أدَّى إلى بطء تحسن المرض العضويِّ وقلل من استجابته للعلاج مقارنة بحالة الأستاذِ الذي لم يكتئبْ وأوصل في النهاية إلى رفض المريض لعلاج المرض العضوي.
وَثالِثًـا: أدَّى تقبلُ الطبيب والأسرة لحدوث الاكتئاب على أنه شيء عادي أو رد فعل طبيعي إلى تدهور الحالة النفسية وزادت معاناة المريض دون داعٍ لذلك.
ورابعا: ظهر الأثَـرُ السيئ للأفكار المغلوطةِ الموجودة في أوساطِ مثقفينا فضلا عن بسطائنا في تحرجُ أستاذ الأورام بداية من مجرد عرض فكرة الحاجة إلى طبيب نفسي ومعاناته بعد ذلك في إقناعهم بضرورة ذلك ثمّ موقفهم الرافض لما اقترحه الطبيب النفسي من العلاج بالصدمات.
وَخامسا: يظهرُ الفرق واضحا بعد علاج الاكتئاب والذي يبين أنَّ فكرة أن الاكتئاب مبرر بوجود المرض العضوي الخطير ولا يحتاج لعلاج هي فكرة خاطئة لأن الاكتئاب لابد من معالجته أيًّا كانت الأسباب لكي نحسن من قدرة المريض على الحياة والتعاون في العملية العلاجية.
ونخلص من ذلك ومن أمثلة لا حصر لها في حياة كلِّ طبيب نفسي إلى أنَّ وجود مرضٍ عضويٍّ لا يعنى أنَّ الأمراضَ النفسية المصاحبة هي مجرد توابع مُـبرَّرَة ولا تحتاج لعلاج وإنما يلزمُ تقييمُ هذه الأعراضِ بواسطة طبيب متخصصٍ وتحديد العلاج اللازم لها ووسيلة تقديمهِ لأن علاج الأمراض النفسية المصاحبة للمرض العضْوِيِّ يؤدي إلى تحسن استجابة الأخير للعلاج وفي كثيرٍ من الأحيان يؤدى إلى تقليل معدلات المضاعفات والانتكاسات التي تمثل مشكلة في التعاملِ مع الكثيرِ من الأمراض العضوية. والنقطة الأخيرة التي يجب التنبيهُ لها هي أنّ وجود الأعراض النفسية المُشَـكِّـلَـةُ لاضطراب نفسي ما بدرجة تسمح بتشخيص ذلك الاضطراب هو في حد ذاته مدعاة للعلاج النفسي بغض النظر عن وجود أو عدم وجود أسباب حياتية لذلك لأنَّ تحسن الحالة النفسية للمريض سوف يزيد من قدرته على التعامل مع المشاكل والتخلص منها.
واقرأ أيضا:
نفسي متعلق بالكرب Stress Related/ نفسي انشقاقي؟؟ Dissociative?