وهذا مفهوم من نفس نوعية المفهوم السابق حيث يريدُ المريض فيه بعدما لجأ للطبيب النفسي وَوصَمَ نفسه بوصمة الطب النفسي يريدُ ألا يتعبَ أكثر من ذلك وكأن لسان حاله يقول ألا يكفي أنني خاطرتُ كل هذه المخاطرة! وعرضت نفسي للاتهام بالجنون؟ إذن صف لي الدواء الذي ينهي معاناتي كلها وبأسرع وقت إن أمكنْ!
وَهنا لا بد من توضيح الفرق بين ما يستطيع العلاج الدوائيُّ القيامَ به وما لا يستطيع فهنالك فرق كبير بين ما يعتبر اضطرابا نفسيا "عارضا"طرأ على المريض في سلوكه وأفكاره ومشاعرِهِ بعد فترة من الحياة النفسية السويَّـةِ مثل اضطراب الاكتئاب الجسيم أو الوسواس القهري أو الفصام أو الرهاب الاجتماعي أو الذهان المؤقت على سبيل التمثيل لا الحصر؛ وبين ما يعتبر اضطرابا في شخصية المريض نفسه بدأ معه منذ مراهقته وربما بدأت إرهاصاته منذ طفولته وأصبحت مشاكله في حياته ومشاكل المحيطين به ومعاناتهم جميعا انعكاسًا لذلك النمط الغير سوي في سلوكياته عمومًا وهذا النوع من الاضطرابات النفسية نوع مزمن بطبيعته.
فأما ما يستطيع الدواء النفسي فعلَـهُ فهو القضاء بفضل الله على أعراض الاضطراب النفسي العارض أي أنه يزيلُ أعراض الاكتئاب أو الوسواس القهري أو الرهاب أو الفصام أو غيرها ما دامت ناتجة عن خلل كيميائي في وظيفة المخ بحيث يعيد المريض إلى حالته قبل حدوث الاضطراب النفسي، لكنه لا يستطيع في حالة اضطراب الشخصية إلا أن يقلل إلى حد ما من معاناة المريض، ومن بعض الأعراض الناتجة عن خلل كيميائي في وظيفة المخ أيضًا. لكنه لا يستطيع أن يغير بالطبع من طريقة تفهمه للواقع وطريقة تعامله مع الآخرين فهذه كلها أمور تحتاج إلى نوع مناسب من أنواع العلاج النفسي المختلفة.
وهناك أيضا مشكلة لابد من توضيحها لأن لها وقع كبير على حياة المريض النفسي في مجتمعنا ألا وهي ما تتركه مدة استمرار الاضطراب النفسي دون علاج وقبل العرض على الطبيب النفسي من أثر على حياة المريض وتظهر أكثر ما تظهر حسب خبرتي الشخصية في حالات الاكتئاب فتكرار النوبة دون علاج إنما يؤدي إلى تغييرات معرفية تحتاج إلى علاج نفسي بجانب العلاج الدوائي بالطبع.
ولكي أوضح ما المقصود بالتغيرات المعرفية أجدني مضطرا إلى سرد المثال التالي: فحينما يأتيك المريض في ثالث نوبة من نوبات اكتئابه التي عاودته على مدرا السنوات الأربعة الماضية فلم ينتبه في النوبة الأولى إلى أن ما يعانيه هو مرض نفسي ولم ينتبه طبيب الباطنة الذي زاره المريض أيامها لكي يعالجه من فقدان الشهية للطعام ونقص الوزن فوصف له الأخير ببساطة فاتحا للشهية ومقويا!، وانقشع عنه الاكتئاب بعد ذلك بفضل الله ولكن بعد ثلاثة شهور من المعاناة إلا أنه تخلى عن الكثير من عاداته الاجتماعية القديمة وقرر التوقف عن إتمام دراسة عليا كان يقوم بها في مجال تخصصه ولكنه لم يعد مكتئبا على أي حال!
وعندما أخبره واحد من جيرانه في الشهر الثالث من النوبة الثانية أن ما لديه هو اكتئاب زار صاحبنا الشيخ الذي حاول إخراج الجني الكافر من جسمه فلم يفلح رغم ضربه وجلده عدة مرات فطلب منه اللجوء إلى أحد السحرة السفليين ولكن المريض رفض لكي لا يصبح في حكم الكافر وما كان منه إلا أن صبر حتى انقشعت نوبة الاكتئاب وحدها في الشهر الخامس لكنه كان قد ترك زوجته عند أهلها منذ شهرين ولم يعد يرى فائدة من مشروع تجاري كان يستعين به على تكاليف العيش إلى جانب وظيفته المهم أنه والحمد لله لم يعد مكتئبا!.
وقرأ بعد ذلك بشهور مقالا في إحدى الصحف عن الاكتئاب وفوجئَ أن الطبيب كاتب المقال إنما يتكلم عما كان يعاني منه هو شخصيا!! وعرف بعدها أن النوبة ستعاوده وبالفعل لجأ للطبيب النفسي في بدايتها، ولم يكن صعبا على الطبيب النفسي هنا لا كتابة الدواء ولا شرح نوعية المرض لمريضه وإنما كانت المشكلة هي أن المريض لم يعد مستعدا لاسترجاع قيامه بواجباته الاجتماعية كما كان فهو يشعر في داخله أن الناس لا يحبونه ولا يستريحون لوجوده ولم يعد مستعدًّا أيضا لإنعاش العمل في مشروعه التجاري فهو يرى أنه تاجر غير ناجح كما أنه يشعر أن زوجته لم تعد تحبه! إلى آخر ذلك من مفاهيم خاطئة تراكمت وترسخت في ذهن صاحبنا خلال نوبتيِّ اكتئاب واستمرت بينهما وبعدهما ولم ينتبه أحد إلى هذه التغيرات المعرفية التي تتراكم تدريجيا وتؤثر في النهاية على الكيفية التي يحكم بها على أحداث حياته وعلى علاقاته بالآخرين.
وأعود إلى المفهوم المغلوط الذي أناقشه أنا هنا مستكملا هذا المثال نفسه فحينما يطلب مني مثل هذا المريض أن يكون الدواء الذي أكتبه له هو الحل السحري الذي يعيد حياته إلى ما كانت عليه قبل أن يكتئب بشرط أن يكتفي بزيارتي كل شهر أو شهرين حسبما أرى وأن يكون ذلك في وقت متأخر قدر الإمكان لكي لا يراه أحد! فأنا لا أستطيع أن أعدَهُ بذلك ولا أستطيع أن أتركه منتظرا من العقَّـار ما لا يستطيع تقديمه ففي مثل حالته هذه يستطيع العقَّـار بمشيئة الله إذا استمر المريض عليه بجرعته المناسبة أن يزيل أعراض النوبة الحالية وأن يمنع تكرارها لكنه لا يستطيع أن يعيد علاقاته بالناس إلى سابق عهدها ولا يستطيع أن يغير مفهومه هو عن نفسه بينما يستطيع العلاج النفسي المعرفي ذلك فلابد من تغيير لأفكاره الخاطئة التي ترسبت لديه بسبب الاكتئاب ولابد أن يتعب من أجل تغيير سلوكه الاجتماعي لأن الدواء له ما يفعله وهو بالتأكيد لا يفعلُ كل شيء.
وأما في حالات اضطراب الشخصية التي ذكرتها فإن دور الأدوية كافة حتى لحظة كتابة هذه السطور ما يزال ضئيلاً مقتصراً على حل الأزمات الحياتية التي تمتلئُ بها حياة هذا النوع من المرضى ويفضل أن يكون استعماله خلال رحلة العلاج النفسي التي تمثل الرجاء الوحيد لتغيير هذا الاضطراب المزمن.
واقرأ أيضا:
جلسات العلاج النفسي ليست خلوة / حدود العلاقة بين المريض والطبيب النفساني مشاركة / حدود العلاقة بين المريض والطبيب النفسي مشاركة3