وهذا واحدٌ من أكثر المفاهيم المغلوطةِ شيوعًا ومن أكثرها تأثيرًا مع الأسف حيث يشتركُ فيه العامةُ والخاصَةُ بما فيهم بعضُ الأطباءِ والصيادلة فتراهم يحَذِّرون المريض من تناول الدواءِ النفسي أصلا أو ينصحونهُ بعدمِ الاستمرارِ عليه حِرْصًا منهم على المريض لكي لا يتحول إلى مدمن!
وأظن أن أهم أسباب هذا المفهوم:
(1) بعض الأدوية النفسية التي كانت تستخدم في الخمسينات من القرنِ الماضي لأنه لم يكن هناك غيرها كانت بالفعل تؤدي إلى الـتعود خاصة عندما يهمل المريض المتابعة مع طبيبه النفسي ولكن كل هذه العقَّـاقير اختفت من وصفات الأطباء النفسيين منذ عشرات السنين ولم تعد هنالك حاجة لها ومن أمثلتها الفينوباربيتون Phenobarbitone والذي لم يعد يستخدم إلا في بعض حالات الصرع التي لا تستجيب لكل الأدوية الأخرى وكذلك عقَّار البروميد Bromide إلى آخره.
(2) وجود بعض الأمراض النفسية المزمنة التي تستدعي العلاج المستديم فيظن البعض أن عدم قدرة المريض على التكيف مع الحياة والعيش بطمأنينة بدون تلك الأدوية هو بسبب إدمانه عليها لا بسبب طبيعة تلك الأمراض التي تحتاج إلى علاج ربما يمتد مدى الحياة.
(3) كوْنُ النعاس والخمول أثر جانبي لتلك الأدوية، مما يربطها في نظر الناس بالمخدرات.
(4) تعميق بعض المعالجين التقليدين "الشيوخ" لهذه النظرة الخاطئة في نفوس الناس، حيث يشترط بعضهم أنْ يتوقف المريض أولاً عن تناول أدويته النفسية لأنها –كما يزعمون– مخدرات تحبس الجن في العروق!! وتنشف الدماغ!! وتمنع بلوغ أثر القرآن!!.
(5) كذلك كثيرا ما يتوقف بعض المرضى النفسيين عن تناول أدويتهم عند حدوث بعض التحسن الجزئي في حالاتهم النفسية، مما يؤدي إلى الانتكاسة، فيظنون أن تلك الانتكاسة إنما حدثت بسبب إدمانهم على تلك الأدوية.
(6) انتشار الاضطرابات النفسية بين المدمنين وأسباب ذلك متعددة فكثيرون من الشباب ممن يقعون فريسة للإدمان يبدؤون تعاطيهم للمخدرات لأنهم يعانون من اضطرابات نفسية تكون بسيطة في بدايتها مثل الاكتئاب أو القلق لكنهم لا يعرفون أو لا يجدون الفهم الكافي من أولياء أمورهم للجوء إلى الطبيب النفسي؛ فهذه شريحة من المدمنين توجد لديهم أمراض نفسية لا تعالج لأن المخدرات بالطبع لا تعالج هذه الحالات ولا غيرها بالطبع وهناك حالات أخرى يكون فيها الاضطراب النفسي ثانويا لتأثير الحلقة المفرغة التي يدور فيها المدمن ويدمر فيها حياته تدريجيا وكذلك نظرا لتأثير المخدرات نفسها على ناقلات المخ العصبية، ولعل بعض الناس يتخوف من الأدوية النفسية، لأن المريض النفسي قد يقـدم على الانتحار في أية لحظة مستخدماً جرعات كبيرة من تلك العقاقير (الخطيرة في ظن أولئك البعض)، ولذلك فإنه يجب تجنبُها في نظره!
وكما يقول أخي د. طارق الحبيب في مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي (أما النعاس والخمول فإنه لا يحدث كأثر جانبي للأدوية النفسية فقط، بل يحدث كذلك عند استخدام بعض الأدوية الأخرى كأدوية السعال التي يحتوي بعضها على بعض مشتقات الأفيون!! ونظراً لجهل الناس بذلك ونظرتهم السلبية للأمراض النفسية أكثر من تلك التي تحدث عند استخدام أدوية أخرى، وكما توجد أمراض نفسية مزمنة تستدعي علاجاً مستديماً فإنه يوجد أيضاً أمراض عضوية تستدعي علاجاً مستديماً، مثل السكر والضغط وغيرها كثير. وفي حين أن إيقاف مرضى السكر والضغط وغيرها من الأمراض العضوية لأدويتهم قد يؤدي إلى أضرار خطيرة قد تصل إلى الموت أحيانا، فإن إيقاف المريض النفسي للأدوية النفسية لا يؤدي عادةً إلى ذلك، واعتماد بعض المعالجين التقليدين وللأسف بعض العاملين في المجالات الطبية المختلفة –وفقهم الله– على عواطفهم في نقد مثل هذا الأمر دون أنْ يكون لديهم خلفية علمية ضرره أكثر من نفعه. ولعل اجتهاد أولئك الأخوة ربما كان بسبب إخلاصهم وكذلك بسبب تقصير أهل الاختصاص في تثقيف الناس ونشر الوعي الصحي بينهم.
والانتكاسة التي تحدث عند الانقطاع عن العلاج ليست دليلاً على الإدمان، بل لأن العلاج لم يأخذ مجراه بعد القضاء على العلة النفسية التي استخدم من أجلها. ولذلك لو عاد المريض ثانية لاستخدام العلاج لشعر بالتحسن، كما أنه لو استمر فيه ولم يوقفه إلا بمشورة الطبيب فلا تحدث له عادة تلك الانتكاسة التي تحدث عند الإيقاف المبكر للعلاج، وإن اختلف ذلك بحسب نوعية الاضطراب وعدد مرات حدوثه بالنسبة للمريض) (طارق الحبيب، 2001)، فمثلا يفضل الاستمرار بعد أول نوبة من المرض النفسي على العقار العلاجي مدة سنتين من بعد التحسن التام، وربما تصل احتمالات عدم حدوث ارتداد للأعراض بعد ذلك أي عدم حدوث نوبة أخرى إلى80% من الحالات بينما ترتد الأعراض في معظم حالات المرضى الذين يتركون العقاقير بمجرد التحسن.
(وهناك مشكلة أخرى تشوه صورة أقراص العقاقير النفسية في الأذهان، ذلك أن بعض الناس يلجئون خطأً إلى استخدام المواد المخدرة كوسيلة للهروب من واقعهم ومعاناتهم، وكثيرون في أيامنا هذه أصبحوا يستخدمون الأقراص نفسانية التأثير، وفي المقابل فإن أغلب مدمني المخدرات تصيبهم الأمراض النفسية فيصف لهم الأطباء النفسيون بعض الأدوية النفسية، ولذلك فإنه يخطئ من يربط الأدوية النفسية بالمخدرات لا لشيء إلا لأنها تصرف للمرضى النفسيين من متعاطي المخدرات، أو لأنها يمكن أنْ تستخدم في علاج فترات انسحاب المواد المخدرة من الجسد) (طارق الحبيب، 2001).
وأودُّ الإشارَةَ بعدَ ذلك إلى عدَّةِ حقائق:
أولا: أن الآثار الجانبية البسيطة التي تحدث عند استخدام بعض الأدوية النفسية لا تعادل بأي شكل من الأشكال تلك الفائدة المرجوة منها .
ثانيا: أن الأدوية النفسية لا تؤدي إلى الإدمان مطلقاً باستثناء مجموعة صغيرة منها كبعض أدوية القلق من مجموعة البنزوديازيبين Benzodiazepines مثل الديازيبام Diazepam والبرومازيبام Bromazepam واللورازيبام Lorazepam والألبرازولام Alprazolam إلى آخرهِ، وذلك فقط إذا استخدمت فترة طويلة وبدون إشراف طبي مباشر.
ثالثا: أن بعض الأدوية النفسية ذات فعالية في علاج بعض الحالات غير النفسية كالصداع النصفي مثلاً.
رابعا: أن بعض الناس يتردد من استخدام بعض الأدوية النفسية ومن الذهاب إلى الطبيب النفسِيِّ لأنهُ مُتَدَيِّنٌ وَتَقِيٌّ، بينما يقبل دون نقاش تلك الممارسات غير الشرعية –بل التي توقعه في الشرك أحياناً– عند بعض من يتسمون بالشيوخ أو المعالجين التقليدين بالقرآن!، فكثيرون منهم يدعون العلم بالغيب ولو ضمنيا، ومن يدعي العلم بالغيب يسمونه كاهنا، ولا يجوز الذَّهاب إلى الكهَّان: فقد روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرَّافًا، فسأله عن شيء، فصدَّقه بما يقولُ؛ لم تُقبل صلاته أربعين يومًا) [رواه مسلم في "صحيحه"، وفي رواية أخرى وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: (مَن أتى كاهنًا، فصدَّقه بما يقولُ؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) [عند أبي داود بلفظ: "فقد برئ"؛ بدل: "كفر"، وأحمد في "مسنده" بلفظ: "فقد برئ"، ورواه الترمذي أيضا.
خامسا: أن أهم مضامين الربط بين سحب مادة ما وبين كونها أدت إلى إدمان من كان يستخدمها هو أن تسبب أعراض انسحاب تدفع الشخص إلى البحث عن المادة واستخدامها مرة أخرى ليتخلص من آثار الانسحاب تلك وهذا ما لا يحدث مع العقاقير النفسية فيما عدا بعض أدوية القلق من مجموعة البنزوديازيبين كما أشرنا.
المراجع:
د. طارق الحبيب (2001): مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي... عن موقع bafree.net بتاريخ 24 كانون الأول (ديسمبر) 2001
واقرأ أيضا:
إدمان الأدوية النفسية / هل الأدوية النفسية تؤدي إلى الإدمان ؟!! / أفكار مغلوطة عن الطب النفسي.. لماذا؟