أما هذا الاعتقاد فيختلف عن كل ما سبق في كونه موجوداً عند جماعة أخرى من الناس بعضهم زار العيادة النفسية بالفعل وبعضهم لم يزرْها لكنه نصح الكثيرين بذلك وهو نفسه على استعداد لزيارة الطبيب النفسي إذا طرأ في حياته ما يستدعي ذلك؛ ولعل البعض يستغربون هنا من كلامي هذا ولعل البعض يسأل نفسه ماذا يريد الكاتب بالضبط؟ لكنني أدعوك عزيزي القارئ إلى التريث فأنا كطبيبٍ مَـعْـنِـيٌّ لا فقط بأن يزورني الناس وإنما مَـعْنيٌّ أيضًا بماذا تكون نتيجة الزيارة أو الزيارات التي يقوم بها المريض لي وأظن كل طبيبٍ نفسي كذلك مثلي!!
ذلك أن خبرة عِـقْدٍ من الزمان أو ما يزيد قليلاً في مجال الطبِّ النفسي في بلدٍ تطحنه التيارات الفكريةُ والثقافية؛ قد أطلعتني على نماذج من زائري العيادات النفسية يفرح بها الكثيرون من الأطباء لأنها ربما أشبعت رغبَتَهُم في أن يعرف الناس قيمَةَ ما لديهم من العلم الطبي الذي ينفرد وسط العلوم الطبية بأنه أصعبها دراسةً وأقلُـها حظًّا "وألذها طعمًا في رأي كاتب السطور على الأقل"، لكن سرْعان ما يصحو الواحد منهم من حلمه "بأن أناسا قد فهموه وفهموا من هو وما هي قدراته وما مفهوم عمله وما أسلوبه؟" على حقيقة أنهم لم يفهموه كغيرهم! أي على حقيقة أن المريض ينتظر منه ما ليس لديه وما لم يدَّعي يومًـا أنه لديه! وأن مريضه معرض للإحباط إن عاجلاً أو آجلاً ولا أظن شيئًا يؤلم الطبيب أكثر من ذلك!
أصحاب هذا المفهوم من المرْضى كثيرون للأسف! ويتميزون بتوقعات تفوق الحقيقة عن طبيبهم النفسي وعن قدراته على معرفة أشياء لا يعرفونها هم أنفسهم خارج ميدان الطب النفسي بالطبع "لأن طبيعة الموقف الطبي عامة تفرضُ كون الطبيب أكثر علما من مريضه في حدود تخصصه" لكن الأطباء النفسيين مساكين!!! فمجال عملهم في رأي كثير من المرْضى هو الحياة بأسْرِها على ما يبدو وقدراته على حل المشاكل وتقديم العون هي بالتأكيد فوق الشك! بعضهم يجلس معك ويطلب منك بعد الجلسة الأولى أن تقدم له الحل لمشكلة عمرها مثلا خمس سنين وتقع في الغالب خارج مجال الطب النفسي وتكون مشكلة اجتماعية في أغلب الأحيان!
وبعضهم يأتيك مرَّة واثنتين وثلاثة وتبدَأُ العمل معه ثم يفاجئـُك بعد ذلك بأنه لا يستعمل الدواء الذي اتفقت معه عليه ثمَّ يفاجئك بأنه لم يكن يتوقع منك دواءًا كيميائياً! أو تجد أنه لا يطبق خطوات العلاج السلوكي التي حددتها معه أي أنه لم يغير شيئًـا من سلوكه!! فمثلا لم ينقطع عن مقابلة شلتِّـه التي يشرب معها ثم غالبا بعد ما تمضي في تحليل خلفيته الفكرية تجد أنه يريد منك أن تفعل كلَّ شيء وكأن لسان حاله يقول إنه إنسان مثقف يعرف قيمة وأهمية الطب النفسي في فعل ما لا يقدر عليه أحد وبالذات هو نفسه بالطبع! ولذلك لجأ لك فافعل ما تراه لازما دون أن تتعبه!
الحقيقة أن هؤلاء علموني أن أشرح بمجرد التقاطي لوجود هذه الفكرة في وعي أو لا وعيِّ مريضي مدى ما أستطيعه ومدى ما ألزم به مريضي لأن العلاج النفسي لا يغير مريضا دون ما تعب خصوصا في مجال السلوك الاجتماعي أو الفردي الواعي أي في مجال العلاج السلوكي الذي يتطلب من المريض عملاً مع الطبيب وفي حياته لكي يتحقق التغيير! وأستشهدُ بالآية الكريمة "إن الله لا يغيِّرُ ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم" صدق الله العظيم، وأتبعها بقولي أن الله عزَّ وجلَّ وهو القادرُ على كلِّ شيءٍ يطلبُ من الناس تغيير ما في سلوكهم حتى يستحقوا أن يُـغَـيِّر ما بهم بقدرته التي ليس كمثلها قدرة! كيف تريدُ منيَّ أنا القدرة على التغيير وحيدًا؟ أنا ببساطة أشرح له دوري كطبيب نفسيٍّ ودورَهُ كمريض في العلاج حينما يتعلقُ الأمر بمشاكل السلوك الاجتماعي أو الفردي الواعي فأنا أستطيع المساعدَة إذا كان يستطيع هو التعاون معي!
أما في مجال المشكلات الاجتماعية المزمنة التي ربما يحتاج المريض فيها إلى مساعدة علاجية دوائيَّـةٍ أو نفسيةٍ تدعيمية أو مساندة كما بينت عند شرحي لأنواع العلاج النفسي! حيث يتوقع المريض حلا سحريا من طبيبه النفسي في حين أن الطبيب إذا وفقه الله يستطيع فقط أن يحسن من حالة المريض النفسية ومن ردود أفعاله بحيث يستطيع المريض أن يفكر ويقرر بشكل سليم ويستطيع هو وطبيبه بالعمل معا أن يقللا من حجم الصعوبات والمشكلات التي قد تتفاقم لوترك المريض دون علاج نفسي!!
فأنا هنا أوضح لهذا المريض ما أستطيعه وما يمكن لوسائل الطب النفسي أن تقدمه من مساعدة وأبين قدراتي كطبيب نفسي وقدرة الطب النفسي ذاته لكي أجنب المريض الإحساس بالإحباط وأجنب نفسي الألم الناتج عن ذلك!
واقرأ أيضا
هو يقول، ونحن نقول ... أين البحث العلمي/ أصول الخلاف بين النفسانيين وثقافة مجتمعاتنا (3)/ أفكار مغلوطة عن الطب النفسي.. لماذا؟/ كيف نعالج مرضانا؟؟