رسائل من الجنة ..(1)
(4) اتخذت قراري
وذهبت إلى مقر من مقرات قيادة حركة حماس لأعلن عن رغبتي في أكون استشهادية، حاولوا أن يثنوني عن عزمي خصوصا بعد أن عرفوا أنني أم لطفلين لا زلت أرضع أصغرهما، لكني تشبثت بقراري، وقلت لهم: لو لم تساعدوني، إذا فسأفعلها وحدي!! وعندها قبلوا طلبي، لقد رأوا أنني جادة فعلا في التخطيط لهذه العملية وتنفيذها وحدي، خصوصا أن سعيد الحوتري قد سبقني في هذا المجال.... وافقوا على تسليحي، وعلى التخطيط للعملية وتوجيهي لها، والحمد لله نجحت العملية نجاحا باهرا.
لا أخفيكم أنني كنت متوترة قليلا عندما خرجت من بيتي متجهة إلى مكان التنفيذ، خفت أن لا تنجح العملية وأن يفتضح أمري، وخفت أن يصاب أحد من أهل بلدي بسوء، ولكن بعد أن تلوت الآيات القرآنية ودعوت الله، تلاشى أي أثر للخوف من نفسي، بل لقد تعجبت من نفسي حيث لم أكن في حياتي كلها أكثر اطمئنانا مني ذلك اليوم!! فعلا: "وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام"!!
لقد ربط الله على قلبي في ذلك اليوم ربطا ما عهدته من قبل، لم أكن في حياتي أكثر ثباتا واستقرارا مني ذلك اليوم، إنه التثبيت الذي ينزله رب العزة جلّ وعلا على من أطاعه وجاهد أعداءه، الحمد لك يا رب أن جعلتني ممن يجاهدون أعداءك.
توجهت إلى الحاجز وأنا أعرج على عكازي، هذه العرجة القاتلة، فلقد ربطت الحزام الناسف حول خصري وحول ساقي أيضا، واصطنعت حالة العرج لأستطيع المرور ولأموّه المتفجرات الموجودة على جسدي، واقترب دوري لأمر من خلال جهاز كشف المتفجرات.... ومررت... وإذا بصفارة الإنذار تنطلق من الجهاز، هذا يعني أن الأمور مع هذه العرجاء ليست على ما يرام!!
فقلت لهم: يبدو أن جهازكم دقيق للغاية، فهو يكشف كل شيء حتى الجهاز الموجود في قدمي ليساعدني على المشي، فأنا كما ترون، لا أستطيع المشي بشكل طبيعي، فجعلوني أمرّ من خلال الجهاز مرة ثانية وثالثة ليتأكدوا من صدق روايتي، وليروا هل أنا فعلا صاحبة جهاز طبي أم صاحبة عبوات ناسفة!! ودوت صفارة الإنذار ثانية وثالثة! وفي النهاية تقرر أن تأتي مجندة إسرائيلية لتفتيشي "ذاتيا".. واقتادوني إلى غرفة بعيدة بعض الشيء عن الحاجز.. في الحقيقة استرحت كثيرا لهذه الفكرة، فأنا لا أريد أن أوقع أي إصابات بين الناس البسطاء العاديين، كل ما أريده هو أن ألقن هؤلاء الأوغاد واحدا من تلك الدروس التي يصعب نسيانها..
وجلست أنتظر حضور تلك المجندة، وإذا بي بخبراء المتفجرات يدخلون علي، وإذا بالجنود يتوافدون ليروا ما المشكلة، واكتظت الغرفة بالجنود الصهاينة، يا لها من فرصة ذهبية، ولمحت تلك المجندة قادمة من بعيد.
فقلت لنفسي: هيا يا ريم، الآن فرصتك، قتل عقولهم المدبرة لجرائمهم هو الهدف هذه المرة، فقمت متثاقلة من مقعدي، وتقدمت نحوهم بخطوات سريعة ومفاجئة ثم.. بوووم.. كان الانفجار المدوي..
صحيح أنني تحولت إلى بقايا كائن بشري.. ولكن هذا لا يهم.. بل هذا سيشفع لي لدى ربي يوم القيامة حين يقول لي: لماذا أنت ممزقة بهذا الشكل يا ريم؟؟ فأقول له: مزّقت جسدي يا رب لألملم مِزَق أمتي المبعثرة، ولأجمّع من جديد كرامتنا المهدرة، ولأعلي من جديد راية لا إله إلا الله، مُزقت بهذه الطريقة من أجلك يا رب.
جاءت عربات الإسعاف بسرعة كبيرة، ولكن سبقتها ملائكة ربي، بعد أن دوّى الانفجار لم أشعر بنفسي إلا وأنا أطير مع ملائكة جميلين جدا. كانوا يبتسمون لي، ولكن. والعياذ بالله.. كانت هناك مخلوقات بشعة جدا جدا، فسألت الملائكة المرافقة لي: من هؤلاء؟؟
قالوا: هذه ملائكة العذاب التي تقبض روح الكافرين.. وقد جاءت الآن لتنفيذ مهمتها بقبض روح هؤلاء المجرمين الذين فجّرتهم معك.
حمدت الله مليون مرة لأنني لم أكن مع الفريق الثاني: فريق ملائكة العذاب... يا لحماقة هؤلاء الصهاينة، لقد خسروا دنياهم وآخرتهم، خسروا الدنيا لأنهم ارتكبوا الفظائع في البشر، فكان أن جاءهم من يفجرهم وهم في عقر دارهم، ثم خسروا الآخرة لأنهم حادّوا الله عز وجل فغضب عليهم.. فعلا: حمقى!! مساكين!! وقد قيل قديما:
لكل داءٍ دواء يُستَطبّ به *********إلا الحماقة أعيت من يداويها!
ثم كان ما تعرفونه جميعا من نتائج تلك العملية، أربعة قتلى، وأكثر من عشرة جرحى حالة أحدهم حرجة جدا، أما كيف كان شعوري وأنا أتناثر قطعا صغيرة، فقد كان شعورا عظيم، لا تحسبوا أنني تألمت، لم يستغرق الأمر إلا أجزاء من الثانية الواحدة، وبعدها طرت في السماء مع ملائكة ربي، أخذوني إلى الجنة، تمنيت أن أعود إلى الدنيا لأتمزق في سبيل الله من جديد ولكن هذا ما لا يُسمح في لائحة قوانين أهل الآخرة.
كم كان استقبالي هناك رائعا: لقد رأيت كل من تمنيت أن أراهم في حياتي.
تخيلوا: حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في استقبالي!!
عندما كنت في الدنيا كنت أسأل الله دائما: لماذا يا ربي لم تخلقني في زمان رسول الله، أنا مشتاقة له كثير، ومشتاقة لكل الصحابة الرائعين، وخصوصا عمر بن الخطاب، كنت أعشق قوته وعدله، والآن التقيت بهم جميع، رحبوا بي وأثنوا على قراري وعلى استشهادي، لقد كانوا متعجبين فعلا كيف استطعت أن أتخذ مثل هذا القرار وأنا أم الطفلين الصغيرين، ولكن عجبهم زال حين تذكروا الأعاجيب التي يصنعها الإيمان.
لم ألبث أن جلست معهم حتى جاءنا وافد جديد، هل تدرون من هو: إنه الشيخ أحمد ياسين!!
طرت إليه وقبلت يديه، وقص علينا كيف استشهد، سألته عن أخبار أهلي وزوجي وأطفالي فطمأنني عليهم، ولكنه أخبرني عن ما تناقله الناس عني بعد استشهادي، وكيف أنني ضقت ذرعا بهذه الحياة، فقررت الانتحار وألبست انتحاري ثوب الشهادة ومن هذا الكلام. أزعجني هذا الكلام كثير، فقررت أن أطل برأسي على الدنيا مرة ثانية لأوضح الأمور وخصوصا لأطفالي، الذين سيستهدفهم الأعداء بهذه الأقاويل والشائعات فيقتلوا في نفوسهم الحقيقة، ويعكروا فطرتهم بأباطيلهم، فاستأذنت ربي وها أنذا.
(5) والآن..
أحب أن أوجه كلمات لصغيريّ ضحى وعبيدة:
صغيريّ كم اشتقت لكم، وكم أتمنى أن تأتيا إلى الجنة بأسرع وقت لتنعما به، ولتريا ما أعده الله لأمكما الشهيدة، ولكما أيضا.
صغيرتي ضحى، أخشى أن يأتي يوم تلعنين فيه أنني أمك، ولا ترين فيّ إلا الأم السوء، أعلم أنك لن تصلي إلى ذلك اليوم وحدك لأن فطرتك النقية ستدلك على الصواب، ولكنني أخشى أن يدسوا لك سم الأفكار فترين أمك بصورة أخرى غير صورتها الحقيقية.
صغيرتي.... لو بقيت أقول لك أحبك مئة عام لما اكتفيت، ولو كتبت أحبك بماء البحار لما اكتفيت، أحبك أكثر من نفسي، وما فعلت ما فعلت إلا لأنني: أحبك..... لا تحزني يا صغيرتي أنك أصبحت يتيمة، لا... فأنت لست يتيمة لأن الله بنفسه سيكفلك ويرعاك، فالله عز وجل أمين جدا ولا يضيع الودائع، وأنا قد استودعتك أمانة عنده، فلا تخافي ولا تجزعي.
ارفعي رأسك وقولي لكل الحاقدين الذين يحاولون تشويه صورتي عندك: ماما لم تقتل نفسها هربا من أعباء الحياة، ماما ضحت بحياتها لنعيش نحن حياة كريمة حرة، لو تعلمين يا صغيرتي كم كان اتخاذ قرار الاستشهاد صعب، كانت يتنازعني أمران: حبي لكم وخوفي من فراقكم، وحبي لديني ورغبتي أن أساهم في إحيائه من جديد، ثم حسبتها أكثر، ودققت التفكير أكثر وأكثر، فوجدت أن تضحيتي بنفسي من أجل ديني وبلدي هو في النهاية يصب في مصلحتكم: أنت وأخيك، لأن ماما ستكون ممن يصنعون الحياة الحرة الكريمة لكم يا حبيبتي.
وأنت يا عبيدة، يا من لا يزال صدري يدرّ باللبن من أجلك، ويا من لا تزال رائحتك تملأ أنفي، أنت لا تزال ملء العين والسمع والأنف يا عبيدة.
آه يا صغيري، أتعاني من فراق ماما؟؟
لا بأس.. لا تحزن.. سيعوضك الله من هي خير من ماما.. وستكون لك ألف ماما بدلا من ماما واحدة..
ما هي آخر أخبار شقاواتك؟؟
ألا زلت تفرغ محتويات أدراج غرفتي على الأرض، ثم تتركها لتفرغ محتويات الخزانة؟؟ لكم أعشق عبثك وطفولتك..
كأني بك الآن متمددا على الأريكة مخفيا وجهك الملائكي تحت ذراعك وأنت تبكي وتناديني، لا تحزن يا صغيري.. والله إن منظرك الآن يقطّع كبدي.. ولكن... أردت أن أساهم في صناعة مستقبل مشرق لك.. فلم أجد ما أساهم به إلا أن أحوّل جسدي إلى شظايا تقتل الذين سرقوا أفراح طفولتك وهناءة شبابك وعبق حياتك كلها..
عندما تكبر ستدرك يا صغيري ما أقوله لك الآن، حين ترى أهلك وجيرانك وأصدقاء مدرستك يدهسهم العدو كما لو كانوا صراصير قذرة، عندها فقط ستعرف لماذا فعلت ماما ما فعلت، وعندها أنتظر منك يا حبة قلبي أن تسير على دربي، لا تتنازل عن حقك في الحياة، وفي أرضك ولكن كن رصاصة في حلوق السفاحين والمجرمين، لا تسمح لهم أن يسرقوا أفراح أطفالك وفيك عين تطرف.
هيا يا صغاري.. أنتظر أن أرى منكم ما يسر قلبي وربي.. لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون..
(6) أين أنت يا زوجي الحبيب؟
زياد.. يا من اسمك أحلى أغنية غنيتها في عمري كله، أرجوك اعذرني أنني تركتك ورحلت، لم يكن أمامي خيار آخر، ووالله ما فعلت ما فعلت إلا من أجلك ومن أجل أطفالي ومن أجل بلدي وديني، هل أنت راض عني؟؟
لو تعلم يا زياد ما أنا فيه من نعيم، ولكنه نعيم ناقص إلى أن تحضر أنت وأطفالي وكل من أحبهم، وسنعيش في ظل عرش الرحمن في جنته.. هل تعلم ما أحلى شيء وجدته هنا؟؟
رضي الله عني.. وعنك وعن أطفالي
ياااه يا زياد، مهما قلت فلن أستطيع أن أصف لك ما أنا فيه، لن أستطيع أن أبين لك حقيقة الموقف هنا، كل ما سأقوله لك هو كلمة واحدة فقط: سر على دربي، وسترى ما يسرك أحقابا طويلة، أنا هنا منذ أكثر من 3 أشهر من أشهر الدنيا، ولكنني لم أشعر حتى الآن إلا وكأنني هنا منذ دقيقتين فقط!!
تحملوا كل الآلام لأنه لا شيء يذكر أمام ما أعدّه الله للمجاهدين في سبيله!!
يا عزيزي.... إن لم ترد أن تموت استشهاديا فلا بأس فهذا لن يحرمك ثواب المجاهدين في سبيل الله لأنك تستطيع أن تحوّل كل عمل تقوم به من أعمالك العادية إلى جهاد في سبيل الله إذا نويت ذلك: أكلك، شربك، عملك، تربية صغارك. كل شيء، أما لماذا اخترت أنا الاستشهاد مع أنني من الممكن أن أجاهد وأنا في الدنيا، فهذا له شأن آخر. أردت أن أقول للعالم بأسره: مهما كانت ارتباطاتنا في الدنيا قوية، فلا شيء سيثنينا عن التضحية بكل ما نملك وبأغلى ما نملك دفاعا عن حقوقنا، وأظن أن هذه الرسالة وصلت لهم، صحيح أن بعض المتبجحين أخذوا يفلسفون قراري الاستشهادي بأنه هروب من وطأة الحياة التي أعيشه، ولكنهم وفي قرارة أنفسهم يعلمون أنهم كاذبون، فمهما كانت وطأة الحياة قاسية، لن تستطيع أم لديها طفل رضيع أن تتخذ وبملء إرادتها قرار الموت إلا إذا كان هذا الموت في سبيل أنبل غاية في الوجود.
وأردت أن أقول للمتخاذلين من بني قومي، كفاكم تخاذل، لقد استطعت وأنا المرأة الأم التي في مقتبل العمر أن أترك كل شيء ورائي وأضحي بنفسي وأفارق أطفالي وزوجي في سبيل قضيتنا العادلة، أفلا تستطيعون أنتم أن تتنازلوا عن بعض رفاهيتكم ومتعكم في سبيل هذه القضية المصيرية؟؟
إذا بقيتم على ما أنتم عليه فسيأتي يوم تتمنون فيه أن تفعلوا مثلي ولكنكم لن تجدوا أحدا يعينكم ولا يوجهكم، كفاكم تخاذلا أمام شهواتكم قبل كل شيء، إن كنتم عاجزين عن الوقوف في وجه ظلمكم لنفوسكم فأنتم عن الوقوف في وجه طوفان الظلم أعجز.
هيا يا إخوتي... هيا وانبذوا العجز والكسل جانبا، فإنما الدنيا سويعات قليلة، وستنتهي شئتم هذا أم أبيتم، وبعدها سيكون مصيركم أحد أمرين أنتم تعلمونهما جيدا.
والآن أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وأعدكم أن أعود إليكم بكلمات جديدة.
اعذروني فقد أنهكني الحديث عن الدنيا، أريد أن أرتاح قليلا على ضفة نهر الكوثر وألعب قليلا مع الحوريات، وبعدها سنواصل الحديث إن شاء الله.
ويتبع >>>>: رسائل من الجنة ...(3)