بدايات الاستيطان اليهودي في أرض فلسطين من خلال الوثائق العثمانية.
وسط هذه الأحداث المتلاحقة في فلسطين وخاصة استمرار إسرائيل في بناء جدار الفصل العنصري على الأراضي الفلسطينية مخالفة بذلك كل الأعراف والمواثيق الدولية رغم المعارضة العربية والدولية الواسعة واللجوء إلى محكمة العدل الدولية للحصول على حكم بعدم شرعية بناء ذلك الجدار العنصري مازال يتردد بين ملفات القضية الفلسطينية ادعاء شهير، مفاده أن الفلسطينيين قد باعوا أرضهم بإرادتهم؛ وبناء عليه فالقضية الفلسطينية في رأي البعض تنقض من أساسها وهذا الادعاء أقرب إلى التعميم منه إلى العلمية.
ذلك أنه من الثابت تاريخيا أن كثيرا من الفلسطينيين قد رفضوا بيع أرضهم والعبث بمقدرات وطنهم، بل وعملوا على مقاومة تلك الأنشطة الاستيطانية المتمثلة في شراء أرض فلسطين وهجرة اليهود إليها "فقد سجل عرب فلسطين أول تذمر رسمي من الهجرة اليهودية في 24يونية 1891م حينما أبرق زعماء المسلمين في القدس إلى الصدر الأعظم يعربون عن تخوفهم من وصول أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود، ويطالبون بمنع اليهود من دخول فلسطين، نظرا لعدم قدرة المسلمين من السكان على الصمود أمام منافسة المهاجرين اليهود لهم في النواحي الاقتصادية مما ينجم عنه سوء أحوال السكان"(1).
وقد تتابعت شكاوى السكان إلى الدولة العثمانية تطلب من الدولة التدخل لوقف تلك الأنشطة الاستيطانية المختلفة، وتمثل ذلك في الخطابات والرسائل التي كانت ترسل إلى كبار المسئولين في الدولة، وعلى رأسهم السلطان والصدر الأعظم وهو منصب يعادل منصب رئيس الوزراء الآن.
وتبرز تلك الرسالة الوثيقة التي سنعرضها في هذا المقال مدى الفهم والوعي الذي كان يتمتع به عرب فلسطين في ذلك الوقت المبكر، إذ أن تلك الوثيقة -وهي موجودة في الأرشيف العثماني في استانبول تحت رقم HR.MTV.716\10 ومؤرخة بتاريخ 22محرم 1313هـ الموافق 15يوليو 1895م- كانت عبارة عن خطاب مرسل باللغة العربية إلى مقام الصدارة العظمى في الدولة العثمانية من بعض أفراد الشعب الفلسطيني، يتضمن رجاءا واسترحاما إلى الصدر الأعظم والمسئولين في الدولة، يطلبون فيه التدخل لإيقاف شراء الأراضي في فلسطين والذي كان يتولاه رجل يهودي يسمى سوفسيكه وكيلا عن البارون روتشيلد اليهودي، موضحين في تلك الرسالة مدى المعاناة والضيق الذي كان يتعرض له الفلاحون البسطاء في فلسطين في تلك الأثناء.
كما أن الرسالة الوثيقة توضح أيضا أن هؤلاء السكان كانوا على إدراك تام أن شراء الأراضي على هذا المنوال المتسارع ستكون له عواقب وخيمة على الوطن الفلسطيني بكامله، ويلفتون النظر إلى أن اليهود يدققون الاختيار ويهتمون بشراء الأراضي التي تشكل نقطا إستراتيجية حصينة، مما سيكون له أبلغ الأثر بعد سنوات قليلة عند نشوب الصراع المسلح بين العرب واليهود.
وتوضح الرسالة الوثيقة أيضا إلى أي مدي كيف أن الوضع الآن يشبه ما كان يجري قبل ما يزيد عن مائة عام وإن اختلفت أدوات التنفيذ، فاليهود كما توضح الرسالة كانوا يحصلون على الأرض عن طريق المكر والضغط على الفلاحين، وذلك بإغلاق الطرق، وتبوير الأراضي، وتملك مصادر المياه؛ وهذه الأساليب هي نفسها المتبعة حتى وقتنا الحاضر، إذ أن السياسة الإسرائيلية المشاهدة يوميا تقوم على هدم المنازل، وقطع الأشجار، وتجريف الأرض وبناء جدران الفصل العنصرية العازلة وفرض الحصار على المدن الفلسطينية الآمنة، وتضييق سبل العيش على أهلها، حتى يمل الفلسطينيون من المقاومة ويتركوا أرضهم وديارهم.
وتوضح هذه الوثيقة أيضا مدى الارتباط العضوي بين الولايات العربية والدولة العثمانية -دولة الخلافة الإسلامية آنذاك- حتى أن الدولة العثمانية قد خصصت قسما في نظارة الخارجية لاستقبال الخطابات من شتى أنحاء الولايات المختلفة وترجمت تلك الرسائل إلى اللغة العثمانية وعرضها على ولاة الأمر والمسئولين للنظر فيها واتخاذ اللازم.
ولعل هذه الرسالة وغيرها من الشكاوى هي "ما دفعت السلطان عبد الحميد الثاني إلى إصدار قانون يجعل أراضي فلسطين بكاملها أراضي سلطانية، ووظف جيشا في فلسطين يرتبط به شخصيا، وأسس خطا للسكك الحديدية في فلسطين، بل إنه أصدر فرمانا بمنع بيع الأراضي لليهود في فلسطين، كما أنه نقل قسما من مسلمي القوقاز والبلقان ووطنهم في فلسطين"(2)، وفي نهاية هذا العرض نقدم تلك الرسالة الوثيقة، ونضعها بنصها أمام المتخصصين في الشأن الفلسطيني، آملين أن تساهم في إضاءة جديدة لتلك الفترة التاريخية الهامة من تاريخنا المعاصر.
[نص الرسالة]
إلى مقام الصدارة العظمى الجليل.
المعروض بعد الدعاء الواجب المفروض من عموم أهالي قضاء صفد، التابعين للواء عكا،الخاضعين للعلم العثماني، المستظلين بالعرش الملوكاني؛ أن الدولة العلية أبدية الدوام ترغب دائما رفاهية الأهالي، وترقي أسباب معاشهم، وذلك جل المقاصد الملوكانية، وحيث أن عبيدكم آهلي هذا القضاء واقعين في ارتباكات عظيمة، وأخطار جسيمة، وتكلفات من المشقات مالا يطاق، مست الحاجة والضرورة لطرق أبواب الحكومة السنية بما هو حاصل من الضيق والتعدي من سوفيسكه الموسوي وكيل البارون روشيلد؛ فالمذكور منذ حضر إلى هذا القضاء من مضي ثمانية سنين، استوطن بقرية الجاعونة من حين حضوره إلى حد الآن، وهو يتملك أراضي الأهالي رويدا رويدا ويخدعهم بأخذ أراضيهم شيئا فشيئا بطريق الطابو [عقد التملك] والآخر بطريق الدخية، حتى أنه تملك بهذا القضاء وخلافه مقدار ثلاثمائة ألف دونم، وهو أنه كلما أخذ دونما من الأرض يضم إليه عشرة، ويخدعهم ويعدهم بإبقائها تحت أيديهم، وبالحال يباشر بغرس الأشجار المتنوعة ضمن الأراضي الأميرية.
وفضلا عن ذلك أنشأ أبنية مهمة، مثل كنائس ومعابد ومدارس لتعليم اللغة الأجنبية فقط بلا رخصة من الحكومة السنية، وسحب يد الأهالي عنها بالكلية، ومنعهم عن فلاحتها فأصبحوا غالبهم في سوء الأحوال، هذا فضلا عن الشتم والإهانة والتعدي على ناموس الأهالي واحتقاره إياهم بواسطة أعوانه المستخدمين بمعيته، ومنع الأهالي من المرور بالطرقات العمومية كونه ادخلها بأراضيه، ومنع سائر الحيوانات عن المرعى بالأراضي المشاعة وضمها جميعا لأملاكه، وكذلك أخذ جميع المياه الجارية، التي هي معدة للشاردين والواردين وحصرها بمجاري مخصوصة، وأدخلها على البساتين والمحلات التي أنشأها، ومنع السقيا منها بالكلية.
وعلاوة على ذلك تجاسر على تعطيل مقابر المسلمين ونبشها، وبنا في موضعها بيوت، ورمى عظام الموتى بالطرقات والفلوات كما هو مشاهد، ولم يزل باذلا جهده بإدخال المهاجرين الروس الممنوع دخولهم لفلسطين، ومع ذلك لم يألوا جهدا عن إلقاء المفاسد فيما بين الأهالي وشتمهم، وطالما أعرضوا عن سوء أحواله وسلطاته، ومازال سوفيسكه الوكيل المرقوم يزداد تماديا، حتى أنه بهذه الأثناء أخذ جبل كنعان وضمه لأملاكه، والحال أن جبل كنعان هو محل مشهور لسكن الأنبياء، ومدفن الأولياء والصالحين والشهداء، وهو مشهور مقصود للزيارة، وهو من أهم الجبال المرتفعة فوق القضاء، ومحيط بصفد من سائر الجهات، فهو عبارة عن نقطة حربية مهمة، ومع كونه بعض أراضيه من قديم الزمان مشاعة، وغالبها لا تصلح للفلاحة والزراعة، بل هي مرعى لدواب القصبة ومواشيها، لا يمكنهم التخلي عنه بالكلية.
ولما كان الجبل المرقوم متصلا بقرية بيرية التي هي معدودة كأنه من نفس القصبة من جهة الماء والمرعى، فبواسطة أعوانه المساعدين له على غاياته استجلابا لمنافعهم الذاتية، مد يده الآن لأخذ أراضي القرية، بحيث إذا تم هذا الأمر تصبح صفد المشتملة على جملة نفوس، بلا ماء وبلا مرعى ويؤول أمرها إلى للخراب والاضمحلال، ويخشى من وقوع محاذير ولما كان الوكيل المرقوم هذا دأبه وديدنه من حيث حضوره لحد الآن، يخشى أنه ببرهة وجيزة يستولي على تمام القضاء، ويضيق بنا المعاش بالحال والمآل.
لذلك اقتضى تجاسرنا عبيدكم بتقديم عريضة الاسترحام، مستغيثين بالمراحم الشاهانية إخراج هذا الظالم المستبد من قضانا، ومنع الطائفة الأجنبية عن التمليك لكنعان وبيرية وخلافه، وإجراء التحقيق عن الأرض التي أخذها، حتى أصبحت أغلب الأهالي بدون فلاحة وزراعة، نظرا لأخذ أراضيهم وغرسها أشجار، فنسأله الملك المنان أن يؤيد ويديم حضرة سلطاننا سلطان السلاطين مولانا أمير المؤمنين أدام الله دولته بالعز والإقبال مدى الأيام والليالي. [انتهى متن الرسالة والرسالة مذيلة بأختام وتوقيعات متعددة مع طابع دمغة فئة قرش واحد خاص بالدولة العلية العثمانية عليه تاريخ 15تموز 1313هـ].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عبد العزيز عوض: الحركة العربية في متصرفية القدس، مجلة الشرق الأوسط، القاهرة، العدد 1، يناير 1974،ص 145
(2) Omer Faruk Yilmaz;Belgelerle Sultan ikinci Abdulhamid Han , Osmanli yayinevi, ist;2000,s,137