عندما يحقق الإيمان بأي عقيدة دينية تطهيرا لذات الإنسان، ويرفع درجة الأمل في خلاص أخروي، يشعر الكثيرون من الناس بأنهم قد فازوا برحيق تلك العقيدة. لكنهم في الحقيقة إذا توقفوا عند ذلك الحد ولم يجاوزوه، فإن تلك العقيدة تكون -على كثرة ما علمتهم- لم تنجح في أن تنتزع من نفوسهم السلبية والأنانية. أما إذا استطاعت تلك العقيدة أن تدفع بالمرء إلى التحرك الإيجابي من أجل تحرير الناس -كل الناس- من كل أشكال القهر، وأن تزودهم بالشجاعة لمواجهة الظلم والظالمين.. فإن تلك العقيدة تكون قد فعلت في دنيا الناس وحياتهم ما ينبغي أن تفعله كل عقيدة.
لاهوت التحرير من الأرجنتين إلى فلسطين
هذا ما اكتشفه مؤسسو حركة لاهوت التحرير في ستينيات القرن الماضي في أمريكا اللاتينية؛ حيث كانت شعوب القارة تواجه واقعا مليئا بأشكال كثيرة من الظلم والقهر الاجتماعي والسياسي. وفي فكر الحركة امتزجت "يوتوبيا" الفكر اليساري الطامحة إلى مجتمع خالٍ من الفقر والقهر الاجتماعي والطبقي، مع "يوتوبيا" الفكر المسيحي الطامحة إلى خلاص الأرواح في مجتمع تسوده المحبة بين البشر. وقد اتخذ هذا المزيج العجيب أشكالا فكرية عدة، وانتقل إلى العديد من بلدان العالم حيث الأشكال المتنوعة من المظالم.
وفي فلسطين، وتحديدا في عام 1989 اجتمعت لجنة من رجال الدين المسيحي هناك في ظل اشتعال الانتفاضة الأولى لاكتشاف طريقة يمكن من خلالها نشر فكر لاهوت التحرير بين المسيحيين الفلسطينيين. وفي مارس من عام 1990 استطاعت تلك اللجنة أن تقيم مؤتمرا عالميا يجمع المؤمنين بفكر لاهوت التحرير في العالم، وذلك لوضع حركة لاهوت التحرير الفلسطيني في إطارها العالمي الأوسع، وقد أثمر المؤتمر عن تأسيس مركز "السبيل" للاهوت التحرير الفلسطيني؛ وذلك من أجل تعميق إيمان المسيحيين الفلسطينيين بمسيحيتهم، وهو الأمر الذي تأثر واهتز من جراء التأويلات الصهيونية للكتاب المقدس في عهده القديم من أجل تبرير احتلال فلسطين؛ بدعوى أنهم شعب الله المختار؛ وهو ما جعل نفوس المسيحيين الفلسطينيين تتعذب، سائلة -حسب تعبيرهم-: أين الله من كل ذلك؟ ولماذا يسمح الله باغتصاب أرضنا؟ ولماذا يسمح بالاحتلال وقهر الناس؟ كل تلك الأسئلة المعذبة كانت تؤرق المسيحيين في فلسطين وهم يعايشون يوميا ممارسات الاحتلال.
العدالة والسلام أسمى أهداف "السبيل"
أول الأهداف التي وضعها مركز "السبيل" على المستوى الفلسطيني كان هو إعادة قراءة الإنجيل في ضوء الفكر التحريري بما يحقق التوافق النفسي لهم، وبما يربط الإيمان المسيحي بواقع الممارسات اليومية للاحتلال، وما يعيشونه من أجواء عنف وتمييز وانتهاكات لحقوق الإنسان. وكذلك ركز مركز "السبيل" على تحفيز المسيحيين الفلسطينيين للعمل من أجل تحقيق العدالة والمحبة على أرض فلسطين، وكذلك العمل من أجل وحدة وتجديد الكنيسة. وقد ألزم المركز نفسه بالتضامن مع المقهورين، وبالعمل على التحرير الكلي لكل الناس، كما يسعى جاهدا لنشر مبادئ روحانية مبنية على العدالة والسلام واللاعنف، وعلى التحرير والمصالحة داخل الإطار الوطني.
أما على المستوى الدولي فقد سعى المركز من أجل خلق وعي دولي أكثر دقة بهوية وحاضر وشهادة مسيحيي فلسطين على ما يجري هناك. وتشجيع المسيحيين في العالم أفرادا ومجموعات على العمل من أجل تحقيق العدل والسلام الشامل والناجز، اعتمادا على الحقائق التي يزودهم بها المركز حول ما يجري في فلسطين، ومدعمين بقوة الصلاة والعمل.
الله.. الأرض.. العدل: مفاهيم أساسية
حرصت حركة "السبيل" منذ تأسيسها على التصدي لعدد من المفاهيم الأساسية؛ إيمانا بأهمية إعادة تشكيل العقل من أجل إعادة تشكيل ورسم حركة الإنسان في الحياة:
٠ طبيعة الله: التأكيد على الطبيعة العالمية وغير الحصرية لله، وذلك في معرض الرد على ادعاء البعض باطلا بحصرية أو انحياز الله أو عنصريته -سبحانه- أو تمييزه مع أو ضد مجموعة ما من البشر. وفي وجه تلك الدعاوى حرصت الحركة على جلاء طبيعة الله العالمية -أي كونه إلها للعالمين-، ومحبته للبشر جميعا، كما حرصت على بيان الأسس الكتابية لنبذ كافة أشكال العنصرية والتمييز بلا استثناء.
٠ مفهوم الاختيار: حيث حرصت الحركة على التصدي لادعاء اليهود أنهم شعب الله المختار، وأن ذلك الاختيار يمنحهم حقوقا سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية دون سائر البشرية. وهو ما حرصت الحركة على تأكيد بطلانه.
٠ أهمية الأرض: تدرك الحركة أن الأرض هي بؤرة الصراع في الشرق الأوسط، وأنه قد تم استدعاء بعض المزاعم اللاهوتية لتأكيد أحقية طرف دون آخر في تلك الأرض، ومن ثَمَّ اهتمت الحركة بدراسة أصول تلك الدعاوى، ومن ثم إيجاد فهم لاهوتي للأرض ووضعيتها على أساس من العدل.
٠ مفاهيم: الوطنية، والإنسانية، وتقرير المصير، والعالمية: تعني تلك المفاهيم الكثير للفلسطينيين كشعب مقهور، يتعرض حقه في تقرير مصيره للإنكار، ويتعرض وجوده للتحدي. وعلى الجانب المقابل لا يدرك بعض الفلسطينيين خطورة الوقوع في دائرة وطنية شوفينية ضيقة.
٠ العدالة الاجتماعية: حيث تهتم الحركة بطيف واسع من المسائل المرتبطة بالعدالة الاجتماعية يشمل: العدالة الاقتصادية، حقوق الإنسان، العدالة للمرأة، والتعامل مع البيئة.
٠ الحرب والسلام واللاعنف: تهتم الحركة بوقائع ما يجري في فلسطين يوما بيوم من هدم البيوت ومصادرة الأراضي، وقتل واعتقال الأطفال، وإغلاق المؤسسات؛ حيث يرى القائمون عليها أن هذا دور لاهوت التحرير في عدم انفصال البشارة عن السياق الذي يتم التبشير بها فيه: زمانا أو مكانا أو بشرا؛ إذ إن البشارة بلا سياق لا تعد بشارة حقا.
المقاومة باللاعنف
يعمل مركز "السبيل" من خلال عدد من البرامج، بعضها ذو طبيعة محلية يهدف من خلالها إلى نشر فكر لاهوت التحرير بين المسيحيين الفلسطينيين لدفعهم للانخراط في سبل المقاومة اللاعنفية لممارسات الاحتلال الصهيوني ضد عامة الشعب الفلسطيني.
وتشمل البرامج المحلية:
٠ البرنامج النسائي: وهو أحد أساسيات رسالة المركز، ويشمل البرنامج عددا من الأنشطة؛ كاللقاءات الدينية والمناقشات الجماعية؛ حيث تدعى النساء من داخل المجتمع ومن أعضاء الوفود الدولية التي تزور البلاد للحديث والمناقشة؛ بهدف تمكين المرأة من خلال التعليم والمشاركة والتنسيق. كما يتضمن البرنامج تنظيم رحلات للحج لزيارة الأماكن التي ورد ذكرها في الإنجيل بما يحقق امتزاج حاضر الزائرين الذي يعيشونه بجذورهم وتقاليدهم وتاريخهم، ويتيح البرنامج فرصة تدريب للمتميزات من الأعضاء على مهارات القيادة.
٠ برنامج الشباب: ويهدف إلى تشجيع الشباب على تعلم مهارات القيادة، واستكشاف معاني هويتهم وجذورهم كمسيحيين فلسطينيين. بينما تتم مناقشة مواضيع وقضايا العدالة والسلام وانتهاكات حقوق الإنسان، وغيرها من القضايا المعاصرة والمتعلقة بالواقع الفلسطيني؛ وذلك من خلال ورش العمل ورحلات الحج والمعسكرات الصيفية. كما يشمل البرنامج تبادل الزيارات واستقبال المتطوعين من دول العالم من الشباب؛ حيث إن المركز مشترك في برنامج "خطة العمل الشبابية من أجل حقوق الإنسان والعدالة والسلام" الذي تنظمه إحدى الكنائس السويدية.
٠ برنامج رجال الدين: وقد تم تدشينه في عام 1995، ويهدف إلى بث روح التضامن والأخوة والفهم المشترك بين رجال الدين، من خلال عقد لقاءات شهرية لمناقشة قضايا الاهتمام المشترك، وبحث كيفية تلبية الاحتياجات الروحية والرعاية الكهنوتية لأتباعهم بشكل أفضل، وعقد المؤتمرات، وتنظيم الرحلات، والاعتكاف، والزيارات الخاصة لرجال الدين والكنائس المختلفة داخل فلسطين.
وقد ساهمت تلك البرامج في اندماج رجال الدين في حركة المجتمع في مواجهة الأوضاع المتفاقمة الناتجة عن الحصار والمداهمات المستمرة، وذلك عن طريق المشاركة في رعاية الأسر المتضررة من تلك الأوضاع، والمشاركة في مسيرات التضامن، وجميع مظاهر الاحتجاج غير العنفية؛ كإصدار البيانات، وتنظيم أيام للصلاة والصيام ودراسة الإنجيل، وتنظيم محاضرات عامة في الأمور التي تهم المجتمع الفلسطيني عامة بمسيحييه ومسلميه، خاصة في أوقات الأزمات.
والدبلوماسية الشعبية
أما الجانب الآخر من الأنشطة فذو طبيعة دولية، ويهدف إلى رفع درجة الوعي بحقوق الشعب الفلسطيني، وإزالة الغشاوة الناتجة عن التشويه اللاهوتي لتأويلات الكتاب المقدس، أو الناتجة عن الدعاية الإعلامية الصهيونية؛ مما يساهم في مزيد من تأييد الرأي العام العالمي لتلك الحقوق، وهو ما يعد لونا من ألوان الدبلوماسية الشعبية.
ويشمل البرنامج الدولي:
٠ برنامج "أهلا وسهلا": وهو برنامج لتنظيم زيارات لمجموعات من 10- 200 فرد؛ حيث تختلط السياحة الثقافية والدينية بالإطار الفكري والسياسي، بهدف زيادة الوعي الدولي بالواقع المعيشي والثقافي الفلسطيني، ويتضمن البرنامج زيارة للأماكن المقدسة، ومعرضا للصور، وحضور مواعظ مع المسيحيين الفلسطينيين، وحفلا للموسيقى أو الرقص الفلكلوري (الدبكة الفلسطينية)، وتذوق الطعام الفلسطيني، إضافة إلى برنامج محاضرات، وبرنامج آخر للزيارات الميدانية لاستجلاء حقيقة معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال أو "طريق الآلام المعاصر".
٠ برنامج المؤتمرات: حيث نظم المركز 4 مؤتمرات دولية حتى عام 2003، أتاحت للمشاركين فيها التعرف أكثر على آثار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، واستجلاء مفهوم العدل والسلام في إطار الإيمان المسيحي من منظور لاهوت التحرير، ويتم الاستفادة من الشباب والنساء الذين شاركوا في البرامج المحلية للمركز في تحمل أعباء تنظيم تلك المؤتمرات.
وسوف يعقد المؤتمر الخامس في إبريل القادم في مدينة القدس -حيث المقر الرئيسي للمركز- في الفترة من 14 إلى 18 إبريل، وذلك تحت عنوان "تحدي المسيحية الصهيونية، الفكر الديني والسياسة والصراع الفلسطيني الإسرائيلي".
طالع:
النشرة الفصلية لمركز "السبيل": "حجر الزاوية" أو "Cornerstone".