افتتح المعلِّق الأمريكي ريتشارد كوهن مقالَه في صحيفة الواشنطن بوست (18/7/2006م) بعنوان "الصمود في وجه التاريخ" Hunker Down With History بالفقرة التالية: "إن أكبر خطأ يمكن لإسرائيل أن ترتكبه في هذه اللحظة أن تنسى أن إسرائيل نفسها غلطة. وهي غلطة بريئة، إنها غلطة وليدة قصد حسن، وهي غلطة لا يلام عليها أحد، لكن فكرة إنشاء دولة من اليهود الأوروبيين في منطقة عربية مسلمة (وبعض المسيحيين) أنتجت قرنا من الحروب والإرهاب من النوع الذي نشهده الآن. فإسرائيل تحارب الآن حزب الله في الشمال وحماس في الجنوب، لكن عدوها الأكبر هو التاريخ نفسه".
وبغض النظر عما تلا هذه الفقرة في مقال هذا الكاتب الأمريكي، وما قاله في مقاله الآخر الذي نشرته الواشنطن بوست في 25/7/2006م، إلا أنها تشير إلى جوهر المشكلة التي نشأت عن إنشاء "إسرائيل"؛ تلك هي أن وجودها مضاد للتاريخ.
ويأمل العرب والمسلمون جميعا أن تختفي "إسرائيل" من الوجود؛ كأن ترمى في البحر، أو يٌقضى عليها بأية طريقة أخرى. بل يتنبأ بعضهم بزوالها اعتمادا على بعض الغيبيات والتنبؤات. ويصور ذلك كله غرابة وجود هذه الدولة وعدم قبولها في هذا الوسط المتجانس إلى حد كبير.
بل إن "إسرائيل" نفسَها تحس علنا أو بطريقة غير واعية بأن وجودها في هذا الوسط يمثل حدثا غريبا. لذلك تحاول جهدها غرسَ نفسها في تراث هذه المنطقة التي انتهى فيها وجود اليهود بصفتهم شعبا مستقلا قبل ألفي عام. فهي تعمل جاهدة على تأصيل وجودها عن طريق الحفريات الآثارية التي تبحث عن ذلك الحبل السري الذي يصلها بهذه المنطقة، وتتشبث بأية قشة يمكن أن تكون شاهدا على وجود يهودي قديم فيها. كما تسعى، لهذه الغاية، إلى الاستحواذ على التراث الفلسطيني نفسه وادعائه تراثا لها. ومن ذلك ادعاؤها بأن ألوان الطعام الفلسطيني إنما هي من مظاهر الثقافة الإسرائيلية، وادعاء الملابس الفلسطينية كأنها ملابس تراثية إسرائيلية.
إن هذا الإحساس العميق بالاغتراب هو ما يقلق إسرائيل ويجعلها تسعى بطرق مجنونة للهيمنة على المنطقة، إما بالقوة العارية الفجة أو بتوقيع اتفاقيات هزيلة مع من حولها أو العمل، بوسائل شتى، على جعل الكيانات المحيطة بها أضعف منها لكي تبقى القوة الوحيدة التي يمكن أن تحدد مصير المنطقة. لكن هذه السياسة الخرقاء تغفل عن دروس التاريخ وعمل نواميسه التي تتحقق في كل حين ومكان.
وإذا ما استعرضنا التاريخ فإن ما يحدث المرة تلو المرة أنه لا يمكن أن تعيش دولة في غير محيطها الحيوي. والأمثلة التاريخية التي تبرهن على صدق هذا القانون التاريخي أكثر من أن تحصى.
فمن الأمثلة المعروفة محاولة الإمبراطوريات الانتشار خارج المحيط الحيوي لمراكزها، لكن تلك المحاولات كان مآلها الانكماش والخروج من المناطق التي بسطت وجودها عليها بقوة السلاح. ومن ذلك الإمبراطورية الرومانية التي سادت مناطق عديدة في العالم لكنها ارتدت وانحسرت إلى موطنها الأصلي.
ومنها الإمبراطورية العربية الإسلامية التي وصلت من "غانة إلى فرغانة"، كما يقال، لكنها انكمشت في نهاية الأمر إلى المناطق التي كانت محيطا حيويا للجزيرة العربية. لذلك لم تتعرب إيران ولا المناطق الشاسعة التي تقع شرقها ولا شمال الهند ولا تركيا، ولم يستطع العرب البقاء فيها.
ومن أوضح الأمثلة في الإمبراطورية العربية الإسلامية حال الأندلس. فقد بقي العرب فيها ثمانية قرون كانوا القوة المهيمنة في شبه الجزيرة الإيبيرية، وأسسوا حضارة بلغت حدودا عليا من التفوق، لكنهم ظلوا، طوال تلك القرون، في حروب لا تنقطع مع المحيط الإسباني المعادي للوجود العربي. وقد عملوا على تكوين تحالفات مع جيرانهم في شبه الجزيرة الإيبيرية طمعا في ضمان أمنهم وبقائهم في الأندلس.
لكن الحضارة العظيمة التي أسسوها لم تشفع لهم في نهاية الأمر، ولم تشفع لهم التحالفات التي وثَّقوها فخرجوا من الأندلس لعدم تجانسهم مع محيطهم المعادي لهم خلال تلك المئات من السنين.
ونعرف جميعا الحروب الصليبية التي كان من نتائجها تأسيس إمارات ومستعمرات أوروبية قوية في بلاد الشام باستخدام القوة العسكرية المتفوقة على القوى العربية المحيطة بها. وقد بنى الصليبيون قلاعا ومدنا محصنة لا تقل في تحصينها عن التحصينات الإسرائيلية المعاصرة لمنع العرب من اقتحامها. كما أنشأوا تحالفات وثيقة مع بعض الإمارات العربية المجاورة لضمان عدم اعتدائها على تلك المدن والقلاع. بل كانت تلك التحالفات توظف في كثير من الأحيان في الحروب الداخلية بين تلك الإمارات العربية، إذ يستنجد بعض الأمراء العرب بالإمارات الصليبية في مواجهة بعض الإمارات العربية المناوئة.
لكن تلك التحالفات والتحصينات لم تقف في وجه صلاح الدين حين تهيأت له الظروف فقضى على تلك الإمارات الصليبية وحرر فلسطين منها وكان العامل الأكبر الذي سهل ذلك عدمَ تجانس الكيانات الأوروبية الصليبية مع محيطها.
ومن الحالات المعاصرة الإمبراطوريات التي أسسها الأوروبيون وانتشروا من خلالها إلى أنحاء العالم. فقد انحسرت تلك الإمبراطوريات، بعد ازدهارها، لسبب واحد هو وجودهم في محيط غير متجانس معهم.
وقد عملت بعض تلك الإمبراطوريات بجهد جاد على إلحاق بعض الأقطار التي استعمرتها بها. ومن ذلك ما حاولته فرنسا من فرنسة الجزائر طوال مئة وثلاثين عاما بغية إلحاقها جزءا من فرنسا، وهو ما كان مآله الفشل في نهاية الأمر للسبب نفسه.
ومن الأمثلة التي لا يمكن إغفالها ما حاولت تأسيسه الأقليات الأوروبية في روديسيا وجنوب إفريقيا؛ فقد عملت تلك الأقليات طوال أكثر من ثلاثمئة سنة على سن القوانين التي تشرع لهيمنة الأقلية المتحدرة من أصول أوروبية على الأكثرية من السكان الأصليين. وقد ضُمنت تلك الهيمنة ، بالإضافة إلى القوانين، بالاتفاقيات التي حيَّدت بعض الفئات والمناطق وبالقوة العسكرية والاقتصادية التي تضمن إخضاع الأكثرية من السكان الأصليين وضمان بقائهم تابعين مسلوبي القوة.
لكن ذلك انتهى حين أخذ المواطنون الأصليون في الكفاح لاسترداد أوطانهم وسرعان ما تلاشت تلك القوى الاستيطانية واختفت من الوجود على الرغم مما كانت تتحصن به من قوانين وتحالفات وأنواع القوة. وصارت تلك الحقبة من تاريخ جنوب إفريقيا وروديسيا مثالا لعدم نفع القوة الفجة في ترسيخ أقدام مجموعات بشرية في غير مجالها الحيوي.
ولم ينجح الوجود الغريب في مجال غير مجاله الحيوي إلا عن طريق إفناء المحيط الأصلي، كما حدث في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وأستراليا؛ وهذا استثناء لا يمكن تكراره. ونعود هنا إلى درس التاريخ الذي يمكن أن تستفيد منه "إسرائيل" إن أرادت. ومحصلة هذا الدرس أنه لا أمل في بقاء هذا الكيان غير المتجانس مع محيطه. ولا شك أنه يستطيع أن يفرض وجوده، لفترة من الزمن، عن طريق استخدام القوة المفرطة كما عمل خلال الستين عاما الماضية. ويمكن أن يدعم وجوده عن طريق الاتفاقات التي يفرضها على بعض الدول المجاورة كما عمل منذ ما يقرب من ثلاثين سنة. ويمكن أن يدعم هذا الوجود عن طريق القضاء على أية قوة يمكن أن توجد في محيطه ليبقى هو الأقوى. أو عن طريق الاعتماد على القوى العالمية الكبرى التي تقدم له الدعم والحماية وتستخدمه في تنفيذ سياساتها في المنطقة.
لكن هذا كله مضاد لمسار التاريخ وضد نواميس الاجتماع والتاريخ التي تعمل دائما من غير تخلف. وقد تنبه كثير من المفكرين، وبعضهم من اليهود، إلى هذه الحقيقة التاريخية، ورأوا أنه لا سبيل إلى بقاء "إسرائيل"، على الصورة التي هي عليها الآن، في المنطقة العربية. والواقع المشاهد أن وتيرة العداء لها وعدم القبول بوجودها يتزايدان بمرور الزمن بدلا من تراجعهما كما كان يتوقع مؤسسوها.
وقد اقترح بعض هؤلاء المفكرين طرقا أخرى لضمان بقاء اليهود الأوروبيين في هذا المحيط. لكن تلك الاقتراحات كلها كانت مشروطة بتغيير طبيعة "إسرائيل" كما هي في الوقت الحاضر. ومن تلك الاقتراحات أن تعترف "إسرائيل" بالوجود الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، وأن تتيح لهذا الوجود التحقق عن طريق تكوين دولة فلسطينية قادرة على البقاء. بل ذهب بعضهم لأبعد من هذه الخطوة المرحلية باقتراح أن تكون فلسطين كلها دولة واحدة يتعايش فيها الشعبان كلاهما حيث يشتركان في الأرض والمصادر الطبيعية.
والسؤال الآن: هل تقبل "إسرائيل" بهذه الاقتراحات؟ وهل يجرؤ أحد من قادتها وفلاسفة وجودها فيسعى إلى لفت نظرها إلى المصير المحتوم الذي ينتظرها، طال الزمن أو قصر، إن لم تغير من طبيعتها الاستيطانية الاستعمارية وتحد من غطرستها المدعومة بالقوة العسكرية العارية وبالدعم الأمريكي غير المحدود في هذه الفترة؟ إنها مسألة وجودية لا سبيل إلى التحايل عليها.
فهل يتغلب وعي قادة "إسرائيل" بهذه المآلات التاريخية على عواطفهم وينتصر النزوع نحو السلام والانسجام مع المجال الحيوي العربي على غريزة حب السيطرة؟
اقرأ أيضًا:
هذه هي إسرائيل الطيبة يا مستر بوش.../ الحرية قبل الديمقراطية وليس بعدها / السياسة الإسرائيلية الأمريكية والموقف المطلوب / هذه هي العنصرية النازية الإسرائيلية الأمريكية..