الموقف اليهودي من الحروب الصليبية(4)
الفصل الثالث(1)
القراءة الصهيونية للحروب الصليبية
اخترنا المؤرخ الإسرائيلي المعاصر (يوشع براور) ليكون نافذتنا التي نطل منها على الموقف الإسرائيلي من الحروب الصليبية وبطبيعة الحال فنحن لا ندعي أن هذا المؤرخ يمثل الإسرائيليين جميعًا في هذا الموضوع، ولكننا نعتقد أنه يمكن أن يجسد رؤية كثيرين من الإسرائيليين المعاصرين في عدة نقاط أساسية كما أن كتاباته تعكس كثيرًا من المفاهيم والأفكار التي يرددها الصهاينة المعاصرون، وكتاباته مليئة بالإسقاطات المعاصرة التي تجعل منه نموذجًا فذًا لدراسة الموقف الإسرائيلي من الحروب الصليبية، كما أن أهميته في مجال دراسة الحركة الصليبية على مستوى العالم تجعلنا نتلمس أبعاد القراءات الصهيونية لتاريخ الحركة الصليبية في أعمال هذا الرجل الذي مات منذ سنوات قليلة.
والأستاذ يوشع هو أستاذ تاريخ العصور الوسطى في الجامعة العبرية بالقدس وهو صاحب اسم مشهور لامع بين المتخصصين في دراسة تاريخ الحركة الصليبية، والحقيقة أنه باحث متمكن من أدوات البحث، كما أن أسلوبه يتميز بالسلاسة والدقة في التعبير، وهو أيضًا على معرفة ودراية واسعة بمصادر تاريخ الحروب الصليبية والدراسات الحديثة التي صدرت عنها، وليوشع براور عدة دراسات وبحوث عن الحركة الصليبية.
هذه الدراسات التي استطعنا حصرها ليوشع تؤكد على اهتمامه بالجوانب الاستيطانية في تاريخ الحركة الصليبية فهو يهتم بموضوع حيازة الأرض التي يعالجها في أكثر من خمس دراسات، كما يهتم في دراساته عمومًا بالنشاط الاستعماري للصليبين ومشاكل الاستيطان والموارد البشرية للمملكة اللاتينية، فضلاً عن اهتمامه الواضح بالمقومات الاقتصادية والاجتماعية للوجود الصليبي في المنطقة العربية.
أما كتاباه اللذان أشرنا إليهما فأولهما (مملكة بيت المقدس اللاتينية) عبارة عن استعراض شامل في مجلدين لتاريخ مملكة بيت المقدس منذ بداية الحركة الصليبية في أخريات القرن الحادي عشر وحتى نهاية الوجود الصليبي على الأرض العربية في نهاية القرن الثالث عشر، والكتاب عبارة عن استعراض ودراسة وافية لكافة الجوانب العسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمملكة الصليبية وهو يمتاز باعتماده على طائفة كبيرة ومتنوعة من المصادر الأصلية والدراسات الحديثة عن الحركة الصليبية، وقد صدر في طبعة انجليزية وأخرى فرنسية وثالثة عبرية كما تمت ترجمته إلى العربية كما أشرنا من قبل، أما كتابه الثاني (عالم الصليبين) فهو الذي اخترناه محورًا لهذه الدراسة وذلك لسببن رئيسيين:
أولهما أنه كتب في اللغة الإنجليزية ونشر في نيويورك والقدس في وقت واحد بقصد مخاطبة عامة المثقفين من قراء الإنجليزية وهم كثرة مثيرة وقد وضع الكتاب في لغة سهلة سلسلة وأسلوب جذاب بحيث يكن توجيه الدعاية المطلوبة من خلال موضوع ما يزال يحظى بإقبال الناس في الغرب بسبب التراكمات الأسطورية التي نسجت حول الحروب الصليبية.
والسبب الثاني هو أن هذا الكتاب دراسة متكاملة للكيان الصليبي على أرض فلسطين وهو متحرر من القيود الأكاديمية بشكل أتاح للمؤلف أن يزرع بين طياته بعض المزاعم التي لا تجد لنفسها سندًا من حقائق التاريخ ولكنها تخدم الحركة الدعائية للصهيونية.
وكتاب عالم الصليبين مؤلف من تسعة فصول وخاتمة ويقع في مائة وستين صفحة من القطع المتوسط وهو مزود بمجموعة كبيرة من الخرائط والصور التوضيحية التي تجعل من الكتاب متعة حقيقة لعامة المثقفين الذين يقرءون اللغة الإنجليزية.
ومن الأمور ذات الدلالة أن الكتاب يبدأ بفصل يحمل عنوانًا معبرًا عن موقف المؤلف من قضية الأماكن المقدسة وهو: ثلاث إمبراطوريات وأربع دعاوى، ويزداد الموقف وضوحًا عندما نقرأ الآيتين اللتين صدر بهما يوشع براور كتابة من سفر التكوين: إذ تقول كلماتها "وقال الله ليعقوب أنا الله القدير أثمر وأكثر أمه وجماعة أمم تكون ملك وملوك سيخرجون من صلبك والأرض التي أعطيت إبراهيم واسحق لك أعطيها ولنسلك من بعدك على الأرض" أي هذا الكتاب يبدأ منحازًا لفكرة الأرض الموعودة والشعب المختار ولنا أن نتوقع ما سيكون عليه الكتاب في فصوله التالية.
ويرتب يوشع براور الفصل الأول من كتابه على أساس أن أقدار البلاد والأمم والديانات والإمبراطوريات ظلت على مدى ثلاث آلاف عام مرتبطة بالوعد العظيم المدون في الكتاب المقدس وهو ما يعني في رأيه أن الصراع حول الأرض الموعودة قد صار عقيدة أساسية في الديانة الإسرائيلية ومحور لآمالها في الزمن الغابر، ثم يذهب إلى القول بأن هذا المفهوم قد صار جزءًا أساسيًا في جميع الثقافات التي قبلت الكتب المقدسة اليهودية وارتبطت بالديانة اليهودية على نحو ما، وإذا كنا لا نفهم ما يقصده براور بـ "جميع الثقافات التي قبلت الكتب المقدسة اليهودية" فإنه قد أشار إلى أن الديانة المسيحية قد حملت الكتب المقدسة إلى روما عاصمة الإمبراطورية الوثنية وهو يشير إلى أن روايات الكتاب المقدس التاريخية عن بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وجبل الزيتون وغيرها جعلت هذه الأماكن تستقر في وجدان العالم المسيحي عامة لأنها ارتبطت بقصة الإله الذي تجسد على الأرض بشرًا "المسيح".
ثم يشير المؤلف إلى حركة الفتوح الإسلامية في القرن السابع، وما نتج عنها من ضم الأماكن المقدسة لتصبح جزءًا من قلب العالم العربي الإسلامي وكيف أن الإمبراطورية البيزنطية تقلصت بحيث كادت تختفي في طيات موجات الطوفان الإسلامي.
وهنا يؤكد موقفه مرة أخرى حين يقول أن مزاعم الإمبراطورية البيزنطية في الأرض المقدسة كانت قائمة على أساس من قوة التاريخ وحق الدين والحقيقة أننا لا نستطيع أن نوافق براور على هذا الموقف، فلم يكن ثمة حق تاريخي للروم في هذه المنطقة التي شهدت حضارات أقدم وأعرق كثيرًا من الحضارة الرومانية ووريثتها البيزنطية فضلاً عن أن ما يذكره عن بعد ألين مردود بحقيقة أن الخلافات المذهبية بين سكان هذه المناطق والإمبراطورية البيزنطية كانت عنيفة ومستمرة قبل الفتح الإسلامي بحيث اعتبر سكان المنطقة العربية الخاضعين للحكم البيزنطي أن الفتح الإسلامي كان تحريرًا لهم.
ثم ينتقل المؤلف إلى الحديث عن التطورات التي أدت إلى قيام الحركة الصليبية في أوروبا وقيام الحملة الأولى ويعلق على ذلك بقوله أن المزاعم المسيحية في الأرض المقدسة، سواء تلك التي يمثلها البابا أو الإمبراطور في الشرق أو في الغرب كانت تقابلها على الناحية الأخرى المطالب الإسلامية التي يدعمها الحكم الإسلامي والأمر الواقع وهو هنا يدعي أن الإسلام قد أخذ عن المسيحية واليهودية ويخلص إلى أن هذا هو السبب في إنقاذ الأماكن المقدسة في فلسطين من الدمار الشامل على أيدي المسلمين وهو يتناسى عن عمد أن الدمار بأي قدر لم يلحق بالمناطق الأخرى التي فتحها المسلمون حتى في أسبانيا فلماذا يكون الدافع الديني وحده هو الذي أنقذ الأماكن المقدسة من الدمار الشامل؟
وعلى الرغم من أن القول بأن الإسلام قد أخذ عن اليهودية والمسيحية ينطوي على كثير من المغالطات الفادحة فإن هدف المؤلف أن يؤكد على أن اليهودية هي الأساس الثقافي في المنطقة وهو أمر يتسق مع مسار الدعاية الصهيونية والقراءة الصهيونية للتاريخ التي تحاول سرقة تاريخ المنطقة وانتحاله للإسرائيليين بحيث تبدو الشعوب العربية عالة حضارية عليهم وعلى منجزاتهم وقد ذكر براور هذا صراحة في صدر هذا الفصل كما ذكرنا، ومن ناحية أخرى فإن القول بأن السبب في عدم تدمير المسلمين للأماكن المقدسة راجع إلى الأصول اليهودية والمسيحية يرجع إلى أن الإسلام يحمل تهمة غير مباشرة (وغير صحيحة أيضًا) ضد المسلمين ويصفهم بأنهم غزاة مخربون، ولكن حقائق التاريخ تقف بالمرصاد لمثل هذا القول الذي ردده المؤرخون الديريون في الغرب الكاثوليكي طويلاً، فقد تم منذ زمن بعيد دحض الأسطورة التي تزعم أن العرب اندفعوا بالسيف في يد والأقران في اليد الأخرى يخيرون شعوب البحر المتوسط بين اعتناق الإسلام أو الموت فالواقع أن المسلمين لم يدمروا أي بلد فتحوه سواء كانت به أماكن مقدسة أم لا وشيدوا حضارة عالمية عاش العالم في ظلها قرونًا طويلة.
ولكن يوشع براور لا يلبث أن يتحدث عن أن للقدس أهمية وقداسة خاصة لدى المسلمين بسبب ارتباطها بقصة الإسراء والمعراج وكيف أنها صارت مزار يحج إليه بعض المسلمين بسبب الظروف السياسية التي سادت العالم الإسلامي في القرن الهجري الثاني (الثامن الميلادي).
وهكذا يصل براور إلى أن المدينة المقدسة قد احتلت مكانة هامة لدى أصحاب الديانات الثلاث وإن كان يحاول أن يربط أصل هذه القداسة بأصول يهودية، كما أنه من ناحية أخرى يركز على أن القوة المسلحة هي التي فرضت حكم الأمر الواقع لكل من المسيحيين والمسلمين ثم يصل إلى النقطة الأساسية في هذا الفصل حين يقول "ولم يزل هناك مطالب أخرى بالأرض المقدسة" وهو مطالب بألا يملك قوات عسكرية ولا موارد إمبراطورية ومع ذلك فهو أشد إصرارًا وثباتًا في دعواه ألا وهو اليهودي الذي يعبر ثلاث مرات يوميًا عن حنينه إلى الأرض المقدسة وعاصمتها وعن أمله في العودة والخلاص ولم تكن دعواه حقًا مكتسبًا بالتقادم كما لم تكن دعوى قابلة للتحويل أو النقل فقد ربط الدين الذي صان الأمة المشتتة على مدى أكثر من ألف سنة تحقيق نبوءة نهاية العالم بالنبوءة القائلة بجمع الشتات والعودة إلى الوطن؟.
ويتبع >>>>: القراءة الصهيونية للتاريخ(1)