لا.. لا تقتربوا من حدود بلادنا. فحدودنا صومعـة من نار. حذارِ من التعدي على أطرافِ حدودها المغسـولـة بدم الشـهداء. لا تقتربوا من بياراتها، من مائها، ولا من سـمائها. فلم يعُد هناك متسـعٌ للصبر، وكتمٌ للغيظ، على تماديكم الصارخ، وعنجهيتكم المتعاليـة. لقد امتلأت خوابي انتظارنا ألماً. وضاقت صدورنا من الصراخ. حيث لا أحد يسـمع، ولا أحد يهتم، بكل عذابات الروح والجسـد، على امتداد الوجع العربي. هي شـعلـة البقاء يتوهح وميضها في ذاتنا المتجددة، والحريـة علم على جبين الكرامـة.
على هذه الأرض، عاش أجدادنا الأوائل، واسـتمر فيها آباؤنا، وهي باقيـة من أجل أولادنا، وأحفادنا، إلى أبد الآبدين. من أجلها نُقدم الروح، وترخص الدماء، ولأجلها نعمل بجد باحثين عن الأفضل، في مجالات العلوم، و(التكنولوجيا)، والسـياسـة، والاقتصاد، وبناء المجتمع المتكامل.
لا تقتربوا من حدود الوطن، ارحلوا يا طُغاة الديمقراطية وحكم القوة والاسـتبداد، وشـهوة السـيطرة على ثروات العالم. كل هذا التماهي، ومحاولـة التسـتر وراء مُسـميات مختلفـة، لا يخفي أحلامكم التي بتم تبنونها على الاقتصاد السـياسـي لتحقيق مصالحكم في العالم. لقد عولمتم الثقافـة، والفن، والمال، والعلاقات الدوليـة كالتجارة وتبادل المعلومات التقنيـة، ثم جاءت بدعـة "الإرهاب"، التي وُظِفت جيداً لخدمـة أحلامكم القديمـة.
لا تقتربوا.. بلادنا مشـاتل من عشـق ونار. لا تقتربوا.. على أطرافها زرعنا قمحنا، وأجسـاد شـهدائنا "أكرم من في الدنيا" هنالك لم تزل أسـماؤهم تلوح كالبيارق، ليظل تاريخنا ملاحم عزٍ وبطولـةٍ، على مدارج عشـقها كتبنا أسـماءنا وأغانينا.
لا.. لا تقتربوا.. بلادنا، منارة للحائرين، وللسـائلين، وللعاشـقين، وللمحبين التائهين، وللباحثين عن كنوز المعرفـة والحضارة والأبجديـة. لا تقتربوا.. إذا ما دسـتم ذرة من ترابها، أو قلعتم زينوتـة أو سُـنبلـة قمح، تهتز الدنيا وتميد الأرض تحت أقدامكم.. وتتفجر الأنهار، والحجارة، وتثور الجبال لتُصبح براكين من الغضب. ويصير الياسـمين كرائحـة البارود عطراً لرجال المقاومـة.
لا تقتربوا.. بلادي وعرة عليكم، وعلى قوتكم الغاشـمـة وصناعاتكم الحربيـة مهما تطورت فنون دمارها "الديموقراطي" في مصانع "حقوق الإنسـان"!؟ المصدرة خصيصاً للعرب!؟ وكأن كل هذا الدم المسـفوح من بغداد القتل الجماعي، إلى الجنوب الذي يدفع ضريبـة "المقاومـة" عن كل العرب، إلى الجولان الشـاعل كالبركان بانتظار لهفـة العودة، تظل صناعاتكم أمام عشـقنا للأرض، وصمودنا، وقابليتنا للتضحيـة.. مجرد تجربـة خائبـة.
لا تقتربوا.. فقد تصير زنابق أرضنا بنادق، وجبالنا أكاليل من غارٍ وصواريخ تُدمر تجمعاتكم، ومسـتوطناتكم، ومصانع أسـلحتكم "الغبيـة" التي توزع السـموم على العالم.
لا.. لا تقتربوا.. إن فاض عشـق أرضنا.. أشـعل النار بمن يعتدي على ظهر ترابها المقدس. بلادي ألوانٌ من قوس قزح، وضحكات أطفالنا، ومواسـم الحصاد، وعرق الفلاحين، وجهد العمال، ولغـة الكُتاب والمثقفين، وأناشـيد طلاب المدارس.. وحبر لغتهم للدرس، وهمسـة لقاءات الغروب.
لا تقتربوا.. هي تهب نفسـها لمن تحب من أبنائها. لا تقتربوا.. فكل الذين حاولوا تدنيـس حرمـة ترابها وأسـوارها وبسـاتين عشـقها.. غاصوا في غيّهم.. وصار وحلها مقابر لهم، ولأحلامهم المبطنـة، لينبت فوق قبورهم، كل هذا الشـوك.. وتُصبح جحوراً للوحوش الغادرة، أو رحلوا إلى حيث لا يعودون.
لا تقتربوا.. هنا مرقد الشـمـس، ومسـار القمر، ومركز اسـتقرار دوران الأرض وأمنها. لأجلها تصير الكلمات أغاني للمجد، تطوف على مشـارف الأمل. ومن ثنى نداها يطل جبين الصبح بهياً. في كل صباح يمر هواء بارد على رموش عينيها المكحلتين بآيـة النصر.
بلادي.. غابـة من سـنديان وصنوبر، وطلَّـة عزٍ، وقيامـة الصلاة. بلادي عطر ريحان الجهات والفصول، وزغاريد أمهات الشـهداء اللواتي يسـتغثنَ عبر فضائيات العالم.. حرائر العرب والمسـلمين يسـتغثنَ يا عرب.. ويا مسـلمين. فهل انعقد مجلـس الأمن؟ أو اجتمعت الأمم المتحدة، أو تنادت بعض أبواق الإعلام المأجور والمأمور من أجلهن؟
ويا أيها الذين تُنادون باسم حقوق الإنسـان، ها هم قتلانا وشـهدائنا يطوفون فضاء العالمي أجمع، شـلالاً من عطر ودم، من غزة، وبيت حانون.. وكل حي، وزاويـة ورصيف، وقريـة، ومدينـة في العراق الشـقيق. ومن كل بيت مدمر في لبنان المقاوم، أو رسـالـة شـهيد يصرخ بوجـه هذه العولمـة: هذه ديمقراطية الطغاة، وحُكام "المليشـيات"، الذين يؤجِرون أسـماءهم، وبنادقهم، وتاريخهم، لمن يدفع أكثر "مأمورون".
تأكدوا أنـه مهما ضاق الصمت على أحلامنا، سـيرحل المحتلون، والحاقدون والمتوهمون، ويبقى الوطن.. سـهول من الحب، تُغنيـه العصافير على شُـرفات المطر، وتُردد في مطلع كل شـمـس نهار: بلادنا صومعـة من نور ونار.
المصدر: مجلـة صوت فلسـطين/ العدد 470 / آذار 2007
واقرأ أيضاً:
هالة الفيصل .. طاب الموت يا عرب / الصهيونية بإيجاز(3) / معاً لنتكاتف ضد المحتل / رسالة من غزة / مصير إسرائيل