بما أن لفظ السعادة موجود فلابد أن يكون الإحساس بها موجودا أيضا، لكن أين نحن من ذلك؟ هل نبحث عن حقيقة أم وهم؟ هل الزمان والمكان مناسبين؟ هل نحن مهيئين لها؟ أم أن تناوشات العقل والشد والجذب وتناقضات الحلم والواقع تمنعنا من رؤية السعادة والإحساس بها.
فلو تتبعنا الماضي لوجدتنا كنا مبحرين وسط أمواج بحر عاتية لا أمل لنا بالوصول إلى الشاطئ بل إن رؤيته أصبحت أضغاث أحلام أو سراب... في كل يوم أتساءل ما الذي دفعنا للإبحار؟ أما كان أجدى أن نبقى ساكنين ولو أن السكون أمر غير محمود إلا إذا تعلق الأمر بالاستقرار فذاك غاية المنى وقمة السعادة... إلا أني أستدرك وأقول كيف لنا الاستكانة في جبروت رجل نرجسي أدمى قلوبنا وأبكى مآقينا، في زمنه تناثرت الأجساد فكانت أشلاء ممزقة، وعلت فيها صرخات أطفال تبحث وتسال بل وتشتاق إلى أناس لم تكد تراهم ولم تعرفهم بعد كل صلتهم بهم أنهم ولدوا ولهم أباء قد ذهبوا إلى جوار ربهم -بأيدي قتلة كفرة فجرة– قبل أن تحضن عيون هذا الصغير عيونهم وتلمس أنامله أيادٍ طالما تعبت وحملت السلاح كي تبلغ هذا الحلم الجميل وتحمل صغيرا طالما طال انتظاره، ويصرخ ذلك الطفل وكأنه يسال أين الطرف الثاني الذي منه تكونت لا أرى إلا شخصا واحدا وبعيدٌ أنا من أن أكون "عيسى ابن مريم" إذن إن لم أكن أنا هو أين طرف المعادلة الثاني؟.
ولا يستطيع من يحنو على رعايته أن يوقف صرخاته اللحوحة المتسائلة كأنه يجد فيها متنفسا علها تصل إلى رب السماء فيوقظ الله بها قلوبا غلفا وأعينا عميا وأذانا صما لكن لا حياة لمن تنادي.
تلاشت بعض السحب وهدأت أمواج البحر شيئا بسيطا –لكن ما لم يكن في الحسبان أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة– وسكتت الصرخات وبدأ كل واحد يرى في نفسه ويقول "اللي راح راح علينا باللي جاي" وتلألأت عيون الصغار قبل الكبار لغد مشرق ينشدونه وسلام وأمن ينشرونه، لكن ما لبث هذا الهدوء حتى تحول إلى عاصفة هوجاء اقتلعت الأخضر مع اليابس وتركت بيوتا مهجورة خاوية على عروشها وأسدلت الستار حول مدن حتى باتت كأنها قفر لا مكان فيها إلا لمخلوقات الله الأخرى الإنسان ليس منها، وصوت غراب اسود فرحا يغني ويردد "يا حوم ابتع لو جيرنا" فمصائب قوم عند قوم فوائد.
بدأت مرحلة جديدة للخوض في غمار معارك ما أنزل الله بها من سلطان، معارك مع الجميع ولكل الجبهات مع العدو والحبيب مع القريب والبعيد حتى خارت القوى وانتهكت كل الحرمات وبات الحصول على رغيف الخبز كالذي يحلم بحبيب طال غيابه، ومات الصغير الذي كان يصرخ بالأمس بل وكثير من الصغار التحقوا بآبائهم كأنه قضاء الله وقدره أن يلتحقوا بهم بأسرع وقت ممكن وانتهت صيحاتهم إلى الأبد وظل غيرهم يكابدون الألم.
عادت الشمس وبزغت من جديد وكان ذلك مع نزول أول صاروخ إلى أرض البلاد إلا أن التعقيد كان أكبر فمن حفرة بسيطة إلى مغارة مظلمة والقناعة المطلقة بأن الظلم والظلام دائم وبدون هوية واضحة، لتعدد اللاعبين والمستفيدين سواء كانوا من داخل العراق أو خارجه.
مآتم الظلم تتلوهن أعياد إياكِ أن تجزعي إياكِ بغدادُ
قد استبدّ بأهاليك الطغاة أذى وراح يمتحن الأحرار جلاّدُ
حتى تهدّم صرح الظلم وانكفأت قدر الفساد وأهل الظلم قد بادوا
نهاية الظلم يا بغداد واحدةٌ الله والحق والتاريخ أشهادُ
وصلت المآسي إلى مرحلة خطيرة وانعكاسة أخطر هي احتلال البلاد، وفي ظلّ الرفض الواثق والعميق من شعبنا للمجرمين الساديين الذين يقومون بأفعال الهدم والتخريب, تبلور الموقف باتجاهات متعددة كلها تنعطف انعطافات خطيرة وتجرب علّ هذه الطريقة أو تلك تكن هي المخرج والمنفذ لكن لامناص من ذلك كله ولا سبيل يرشدهم، لان من مسكوا دفة القارب هدفهم يتخطى أجساد الأبرياء ويسيرون فوق قلوب البسطاء.
وبعد أنْ كان هؤلاء من قاصري التحليل السياسي (أو من قاصديه عمدا) يتشدقون بكلّ عملية تخريبية كما هو حال هذيان بعض الفضائيات العربية؟ صاروا يحدِّدون اليوم مستهدفاتهم ليؤكدوا أنَّهم ليسوا مخرّبين بل مواطنين شرفاء حريصين على البلاد ولكن هي مجرد شعارات غنّاء وأصوات تصدح في سماء بات الرصاص يطرزها وارض خضراء تسقى بدم بارد.
فلا غرابة أن نرى بعضهم ممن تربي في أحضان تلك التربة يحاول أو يدعي أنه ينأى بنفسه عنها، أقول أنه مهما زعق ورفع بصوت عالي هذه الشعارات لا يقوى على إخفاء حقيقته اليائسة وعصبيته. لا ولا حتى يريد للآخرين لمس مواجعه هذه. ويريدنا أن نقبل بعوراته الخطرة حتى وإن كانت تمس صميم محنتنا اليوم، ويتصور أن هذه الحذلقة السياسية والعبارات المعسولة تغطي اللعب على الحبال والتيمم نحو قبلتين والعشق بقلبين، فالأحداث اليومية وخطورة المخطط المتشابك لا يقبل الرمادية في المواقف إذا انطلقنا من حسن نية وأن أحقادهم الشخصية هي وازعهم في منهج التعمية على طرف من أطراف اللعبة.
يا زهو تاريخي مراكب أمتي تاهت وأذرعه الفناء تلوّحُ
الحرب تسحب ذيلها وأمامها أسرٌ تفرّ من الرصاص وتنزحُ
تُلقي بيان الموت مُقتضباً له معنى عميق والضحايا تشرحُ
هذه "هرطقات" كتبتها كي يستمد منها الحصيف فائدة والحكيم نظرة ثاقبة والجاهل شمعة مضيئة والغافل لفتة كريمة والناصح رؤية موازية كتبتها من مهجة عقل لم يكتمل.. ومن خلال تجربة لم تنضج بعد لكن هي زفرات خالجت الصدر فخرجت على شكل قطرات فوق الورقات فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. فلقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة فالرجوع غير ممكن والتقدم والخلاص شبه مستحيل وكلا الحالتين نتيجة واحد مسير نحو الهاوية.
واقرأ أيضاً:
حملة: ارفعوا أيديكم عن نفط العراق/ ليس كل ما يلمع ذهبا/ ثروات العراق/ لمحات عراقيّة / قراءة نفسية لإعدام صدام/ علم عراقي أم علم هلاكي/ الموت في بلدي علنا والمقبلات مجانا