كيف فسَّـر أصحاب الرأي في الكيان الصهيوني ما جرى في غزة؟
أبدت وسائل الإعلام، وكبار الكُتاب والنُخب الحاكمة والمثقفة في الكيان الصهيوني، اهتماماً واسعاً جداً بالتعليق على التطورات الأخيرة التي وقعت في الأراضي الفلسطينية وانتهت بسيطرة حركة "حماس" على قطاع غزة وقرار الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" بحل حكومة الوحدة الوطنية وتشكيل حكومة طوارئ محلها، إلى جانب إصداره مرسوماً يعتبر بموجبه "القوة التنفيذية" التابعة لوزارة الداخلية و"كتائب عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة "حماس" "أجساماً غير شرعية".
حاول كُتاب الكيان الصهيوني تفسير ما جاء، إلى جانب اختلافهم حول الطريقة التي يتوجب على الكيان الصهيوني التعامل بها مع الواقع الجديد.
(داني روبنشتاين)، المعلق للشؤون الفلسطينية في صحيفة "هآرتس" يُحاول الإجابة على السؤال الذي حيَّر أهل الكيان الصهيوني، ومعهم الكثيرين في العالم، إلا وهو: كيف سقطت غزة بكل هذه السهولة في أيدي حركة "حماس"!!؟؟
ويقول في مقال نشره الاثنين الماضي: "الشـيء الأكثر غموضاً في الأحداث الداميـة في غزة هو سـرعـة نجاح قوات "حماس" المسـلحـة في التغلب على جميع أجهزة الأمن الرسـميـة للسـلطـة الفلسـطينيـة، التي كانت خاضعـة لسـلطـة الرئيـس "محمود عباس"! كانت الأجهزة الرسـميـة تضم عشـرات الآلاف من الجنود. وقد ملكوا السـلاح، والتجهيزات والمنشـأت، لكن كل هذا لم يُسـاعدهم. إن مقاومـة الأجهزة وقادتها من حركة "فتح" لهجمات "الوحدات التنفيذيـة" و"كتائب القسـام" لحماس اسـتمرت أقل من 48 سـاعـة. كيف حدث هذا؟"
ويُضيف أن تفسير ذلك: "يكمن في أن عناصر حركـة "فتح" وقادتهم في هذه الأجهزة لم يُريدوا القتال أصلاً؛ لقد اسـتسـلموا لأنهم لم يروا في هذه الحرب حربهم"!
ويؤكد (روبنشـتاين) أنـه من جهـة أكثر نشـطاء "فتح" في غزة، كانت الحرب بين "حماس" و"محمد دحلان"! فلماذا يُعرضون حياتهم للخطر من أجل الدفاع عن "دحلان" وعن العشـرات من رجالـه!؟ ـ وينظر إليهم الفلسـطينيون كجماعـة فاسـدة وآثمـة؟"ـ، على حد تعبيره.
ويُحدد (روبنشتاين) سبباً آخر لانفضاض الشعب الفلسطيني عن "أبو مازن" و"دحلان" قائلاً: "مشـكلـة "دحلان" و"أبو مازن" أنهما أوصلا الشـعب إلى حضيض فظيع، وإلى حياة فقر مُدقع، وضيق وحصار! المسـار السـياسـي الذي مشـيا فيـه عشـرات السـنين، منذ الاعتراف بـ (إسـرائيل) في صيف 1988 – أفضى إلى طريق مسـدودة... الشـعب الفلسـطيني المسـحوق في غزة، تهمـه حقيقـة أن قادتـه الذين علقوا آمالاً على (إسـرائيل)، قادوه إلى هذا الوضع".
نافذة فرص
بعض الباحثين والكُتاب في الكيان الصهيوني رأى في ما حدث نافذة فرص يتوجب على الكيان الصهيوني استغلالها حتى النهاية. فالبرفسور (درور زئيفي)، المحاضر في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة (بن غوريون) في النقب، يقول: "إن التطورات الأخيرة قد أسـفرت عن فرصـة تاريخيـة، تمثلت بالفصل بين الضفـة وغزة، وبالتالي يحظر على (إسـرائيل) عدم اسـتغلال هذه الفرصـة". وأضاف في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" في عددها الصادر الاثنين الماضي: "لو كنا علماء نُخطط لتجربـة في المختبر، لما اسـتطعنا أن نُخطط لتجربـة أكثر نجاحاً؛ فلدينا جماعتان "فلسـطينيتان" متمايزتان بوضوح، ومنفصلتان جغرافياً بلا اتصال بينهما تقريباً".
ونصح (زئيفي) دائرة صنع القرار في تل أبيب بالشروع في مفاوضات مع الرئيس الفلسطيني "محمود عباس"، والفلسطينيين في ذروة تفرقهم. لكن (زئيفي) يستدرك قائلاً: "إن هذا يتوجب أولاً من "عباس" إثبات جدارتـه عبر شـن حرب ضد جماعات حركة "فتح" المسـلحـة المنتشـرة في الضفـة الغربيـة، بعد أن يُخيرهم بين الانصياع لتعليماتـه، أو مواجهـة ضربات أجهزتـه الأمنيـة".
ويعتبر (زئيفي) أن هذا يستوجب في المقابل خطوات إسرائيلية أكثر مرونة تتمثل في قرار (إسرائيلي) بإخلاء مستوطنات كثيرة من أجل السماح بإقامة "كيان فلسطيني" يستطيع أن يحكمه "أبو مازن"، ويكون مثال للاستقرار بالنسبة للفلسطينيين.
من ناحيته يرى (عوديد غرانوت) معلق الشؤون العربية في القناة الأولى لتلفزيون الكيان الصهيوني قرار "أبو مازن" بحل حكومة الوحدة، بأنه يُمثل مصلحـة (إسـرائيليـة) لأنـه يعني إسـدال السـتار على "إتفاق مكـة"، ويُطالب (غرانوت) حكومة الكيان بـ "عناق أبو مازن وتشـجيعـه على عدم التصالح مع حركة "حماس"، معتبراً "أن تصالح الفلسـطينيين يأتي دائماً ضد المصلحـة (الإسـرائيليـة)".
من ناحيتها أشادت صحيفة "هارتس" في افتتاحية عددها الصادر الاثنين الماضي بالقرارات "الشجاعة" التي أتخذها الرئيس "عباس" مثل الإعلان عن حكومة الوحدة والإعلان عن حظر "القوة التنفيذية" التابعة لوزارة الداخلية الفلسطينية، وتشكيل حكومة طوارئ، معتبرة أن هذه القرارات "تُمثل بدايـة عهد جديد، يتوجب على (إسـرائيل) استغلاله."
وتُضيف الصحيفة: "أنه من الأفضل لـ (إسـرائيل) أن يكون في مناطق السـلطـة الفلسـطينيـة حكم مركزي وإن كان ضعيفاً وهشـاً على أن يكون فيها حكماً للإسـلام المتعصب"، مطالبة (أولمرت) أن يُنسق خطواته بشكل جيد مع الرئيس (بوش). ونوَّهت الصحيفة إلى أنه من أجل دق إسـفين بين الشـعب الفلسـطيني وحركة "حماس" لا يكفي فقط التخفيف على حياة الناس وتحسـين شـروط معيشـتهم، بل يتوجب العمل على الشـروع في التفاوض على تطبيق خطة "خارطـة الطريق" التي بلورتها اللجنة الرباعية التي تضم إلى جانب الولايات المتحدة الإتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية والأمم المتحدة، معتبرة أنه بدون أُفق سياسي يؤدي إلى إنهاء الاحتلال، فإن كل الخطوات الهادفة إلى عزل "حماس" ستبوء بالفشل.
وتُحذر الصحيفـة من إقدام الكيان الصهيوني على خنق القطاع في ظل وجود حركـة "حماس"، مطالبـة بعدم التردد بالتنسـيق مع ممثلي "حماس" والعمل على إعادة فتح المعابر الحدوديـة، في حال نجحت "حماس" في تقليص عمليات إطلاق الصواريخ على الكيان من قطاع غزة.
ويرسم (عكيفا إلدار)، كبير معلقي صحيفة النخبة "هآرتس"، سيناريوهين مفزعين للكيان الصهيوني، في حال لم تتحرك حكومته بخطوات حثيثة نحو التسوية. ويُحذر من الاعتقاد السائد لدى بعض القادة والنُخب الصهيونية: أن ما حدث في قطاع غزة والضفة الغربية يعفي (إسرائيل) من التحرك لدفع عجلة التسوية السياسية.
وفي مقال نشره في الصحيفة الاثنين الماضي، قال: "إذا لم نُسـارع إلى الاسـتيقاظ من هذا الحلم، ولم نسـتنقذ مما بقي من رؤيا الدولتين ـالتي طرحها الرئيـس (بوش)ـ ، فسـنبقى في الحقيقـة مع الاختيار بين الطاعون ـنظام التمييز العنصريـ وبين الكوليرا؛ جعل الدولـة اليهوديـة دولـة ثنائيـة القوميـة بين الأردن والبحر". على حد تعبيره.
والذي يبعث المرارة أن النخب المثقفة في الكيان الصهيوني تُدرك أن "أبو مازن" وحكومته وقيادات "فتح" التي تواطأت ضد حكومة الوحدة أصبحت مدينة للكيان الصهيوني ببقائها في الضفة الغربية، الأمر الذي يُمكن تل أبيب من ابتزاز تلك الحكومة. وقد عبَّر عن ذلك المستشرق الصهيوني (جاي باخور) الذي يقول في مقال نشرته الأحد الماضي صحيفة "يديعوت أحرنوت": "إن مجرد وجودنا في الضفـة يُبقي حركـة "فتح" على قيد الحياة، فإذا خرجنا منها، لانتهت نهايـة تامـة، ولكان التيار الإسـلامي سـيجرف الضفـة أيضاً."
ويُضيف في عبارة لا تخلو من التشفي: "هذه هي الحالـة الوحيدة الفريدة من نوعها في التاريخ البشـري التي يُسـاعد فيها الاحتلال أحد تيارات الشـعب المحتل"! داعياً إلى عدم إطلاق كلمة الاحتلال على الوجود العسكري في الضفة الغربية، معتبراً أن هذا الاحتلال يخدم بقاء حركة "فتح".
بؤس الرهان على "أبو مازن"
لكن هناك من المعلقين في الكيان الصهيوني من يرى أنه من غير الطائل الرهان على "أبو مازن" وحكومته الجديدة، ويختلف رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الصهيونية الأسبق الجنرال (شلومو غازيت)، مع الرؤى السابقة التي عبَّر عنها البرفسور (زئيفي)، معتبراً: أن حركـة "فتح" والرئيـس الفلسـطيني "أبو مازن" أصبحا من مخلفات التاريخ. ويُضيف في مقال نشره في صحيفة "معاريف" الاثنين الماضي: "لا ينبغي أن نعتمد على قيادة وعلى حركـة فلسـطينيـة خلَّفها المسـتقبل وراءه."
ويُضيف: "أن (إسـرائيل) ارتكبت خطأً كارثياً عندما اعتقدت أنها بممارسـتها الضغط على الشـعب الفلسـطيني، فإن هذا سـيؤدي إلى انفضاض الشـعب الفلسـطيني عن حركة "حماس""، مشدداً على أن التجربة دلَّلت على أن العكس هو الذي حدث تماماً، منوهاً إلى أن السياسات (الإسرائيلية) كان لها دور كبير في تحقيق "حماس" للنصر الكاسح في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
ويستخف (غازيت) بالدعوات التي تصدر عن بعض القادة في الكيان الصهيوني الذين يُطالبون بإعادة الحكم المصري إلى غزة، والأردني إلى الضفة من أجل محاصرة حركة "حماس" والتيار الإسلامي فيهما، قائلاً: "لا نوهمّن أنفسـنا أنه يُمكن إرجاع عقارب السـاعـة أربعين سـنـة إلى الوراء! لن تعود الضفـة الغربيـة إلى سـيطرة الأردن، ولن يعود المصريون للسـيطرة على قطاع غزة، سـنضطر إلى إخراج حبات الكسـتناء من النار بأيدينا".
وشن (سيفير بلوتسكر) كبير معلقي صحيفة "يديعوت أحرنوت" هجوماً عنيفاً على القيادات في الكيان الصهيوني التي تُطالب بتقديم الدعم "لأبي مازن"، متهماً إياها بالعيش في "الوهم الذاتي". وأضاف (بلوتسكر): "أن (إسـرائيل) ترتكب خطأً كبيراً عندما تُراهن على تقديمها الدعم لـ "فتح" في الضفـة على اعتبار ذلك مصلحـة لها، معتبراً أن حركـة "فتح" حركـة متعفنـة، ولا أمل في دعمها، واصفاً "أبو مازن" بزعيم "من ورق".
ويتفق الكاتب الشهير (يارون لندن) في مقال نشرته له اليوم صيحفة "يديعوت أحرنوت"، مع ما ورد في مقال (غازيت)، قائلاً: "إن (إسرائيل) ليس بوسعها التأثير على ما يجري في الساحة الفلسطينية". ويعتبر أن الجدل (الإسرائيلي) المحتدم اليوم حول سُبل التأثير على الواقع الفلسطيني الداخلي: "أنما يأتي للتنفيس عن الضائقة" التي تعيشها (إسرائيل)"، معتبراً "أن هذا الجدل يُخفف عن الضمير الجماعي لأنه يغفر لنا إخفاقاتنا، فلماذا نشعر بمشاعر الذنب، إذا كنا لا نعلم ماذا كان سيحدث لو سلكنا سلوكاً مغايراً"، على حد تعبيره.
وخلص (لندن) إلى أن العبرة الوحيدة التي يتوجب على الكيان الصهيوني استيعابها مما حدث هو أنه يتوجب عليه الأخذ "بنظرية الضرورات؛ التي تقترح مواجهة الأسئلة المُلحة لا الأسئلة الكبيرة."
ومثل من سبقه ينتقد (تسفي بارئيل)، معلق الشؤون العربية في "هآرتس" الحماسة التي أبدتها كل من (إسرائيل) والإدارة الأمريكية في تأييد حكومة الطوارئ التي أمر بتشكيلها "أبو مازن". واعتبر (بارئيل) أن التوجه (الإسرائيلي) ـ الأمريكي يهدف إلى اللعب على وتر تقسيم المناطق الفلسطينية إلى ضفة وغزة، وكأن الضفة الغربية بعد وصول المساعدات الاقتصادية لها ستُصبح "جنة عدن"، بينما يتحول قطاع غزة إلى جهنم!!!
ويعتبر (بارئيل): "أن (إسـرائيل) سـتفشـل بالنهايـة في فصل الضفـة عن القطاع، واصفاً رهانها على ذلك بأنـه أشـبـه بالخُطى المتسـرعـة الفزعـة التي ترمي إلى تصويب الخلل الذي حصل أكثر من كونها تعبيراً عن سـياسـة ذات رؤيـة واضحـة".
ويُشير (بارئيل) إلى أن حكومة "سـلام فياض" ليـس بإمكانها تبني سـياسـة الإجحاف أو التمييز ضد منطقـة قطاع غزة فقط لأنها خاضعـة لـ "حماس"، لأن الفلسـطينيين سـيَرون في خطوة "أبو مازن"، الذي يعتمد على الدعم (الإسـرائيلي) والأمريكي، بأنها "عمل خياني".
وفي نفس الوقت يُنوه (بارئيل) إلى أن حكومة الطوارئ الجديدة لا تستطيع أداء دورها على المدى الزمني البعيد من دون مصادقة البرلمان الفلسطيني الذي تعتبر أغلبيته من أفراد "حماس" المسجونين لدى الكيان الصهيوني.
الدور العربي الحاسم
لكن القضية التي ليست مثار جدل في الكيان الصهيوني هي حقيقة أن الكيان بحاجة إلى الدول العربية من أجل إطباق الخناق على حركة "حماس".
فالجنرال (عاموس جلعاد) مدير الدائرة السياسية الأمنية في وزارة الحرب الصهيونية، والذي كان مسؤولاً عن تحديد قوائم المرشحين للتصفية من بين قادة وعناصر حركات المقاومة الفلسطينية؛ يقول: "إن (إسـرائيل) تحتاج أكثر من أي وقت مضى لمسـاعدة الدول العربيـة، وتحديداً مصر في مواصلـة خنق حركـة "حماس"".
ويعتبر (جلعاد): "أن (إسرائيل) والدول العربية "المعتدلة" تمضي في نفس السفينة في مواجهة الحركة الإسلامية".
من ناحيته يكشف (بن كاسبيت) كبير المعلقين السياسيين في صحيفة "معاريف" عن أن عدداً من الدول العربيـة أرسـلت مبعوثين سـريين إلى تل أبيب للتباحث مع الحكومـة (الإسـرائيليـة) حول سُـبل تنسـيق المواقف في أعقاب سـيطرة "حماس" على قطاع غزة. وأضاف (كاسبيت) في تقرير نشره اليوم الاثنين في الصحيفة أن أحداث غزة مهدت الطريق أمام إرسـاءِ علاقات اسـتراتيجيـة بين (إسـرائيل) وبعض الدول العربيـة والإسـلاميـة "المتعدلـة"، مشيراً إلى أن هذه العلاقات تجد تعبيراً لها في الاتصالات التي يُجريها قادة الدول العربية سراً مع قادة (إسرائيل) منذ سيطرة حماس على غزة.
ويوجه (كاسبيت) انتقادا حاداً إلى الرئيس الأمريكي (جورج بوش)، معتبراً أن سياساته الحمقاء هي التي أدت إلى وجود حركة "حماس" في دائرة العمل السياسي. واعتبر أن إصرار بوش على عملية "الدمقرطة" هي التي قادت إلى فوز حركة "حماس" وتجذير مكانتها في المنطقة.
نشرت على موقع (إسرائيل من الداخل) بتاريخ 22-6-2007
واقرأ أيضا:
«جريمة» حماس التي لن تغتفر/ حماس الآن أولى بالدعم نعم حماس/ كيف نفهم الخلاف بين فتح وحماس؟/ أبو مازن وأمريكا وخطة لإسقاط حماس/ شهادات العدو