لمشهد الفلسطيني يزداد عبثية وتعقيداً يوماً بعد يوم، إذ لم تعد مشكلته محصورة في الاشتباك الراهن بين حركتي فتح وحماس. وإنما بات واضحاً أن أبو مازن وفريقه في رام الله يبتعدون شيئاً فشيئاً عن الموقف العربي. ويقتربون بخطى حثيثة من الموقف الأمريكي والإسرائيلي. وهو تطور يضعنا في مواجهة موقف غير مألوف وغير قابل للتصديق، بمقتضاه نصبح إزاء اصطفاف فلسطيني أمريكي إسرائيلي في مواجهة فصيل فلسطيني آخر في غزة. وهو ما يتوازى مع اصطفاف آخر للتكتل الثلاثي سابق الذكر في مواجهة موقف عربي يدعو إلى حوار فلسطيني فلسطيني، ويحث الجميع على العودة إلى اتفاق مكة الذي أكد على أمور ثلاثة هي: تشكيل حكومة وحدة وطنية وإقامة الشراكة بين فتح وحماس، وإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية.
في الأسبوع الماضي دعت دول الخليج ممثلة في مجلسها الوزاري إلى تفعيل اتفاق مكة كشرط لوضع مبادرة السلام العربية موضع التطبيق. وفي الأسبوع الذي سبقه دعت مصر إلى ضرورة إجراء حوار بين فتح وحماس، وترددت هذه الدعوة على لسان الرئيس حسني مبارك. ثم أصبحت محور التحرك السياسي المصري الذي أيدته سورية واليمن والجزائر، الأمر الذي يبلور موقفاً عربياً لم يتجاوب معه أبو مازن حتى الآن، بل يتحرك في اتجاه معاكس له. إذ في حين يدعو الموقف العربي إلى الحوار بين فتح وحماس، فإن أبو مازن يسعى إلى إقصاء حماس واستئصالها من الساحة السياسية الفلسطينية. ليس حماس وحدها وإنما أيضا كل قوى المقاومة في فلسطين ـ كيف؟
دعك من التصريحات التي يصدرها الرجل عن إمارة الظلام والخروج على الشرعية، وعن الإجراءات التي ينفذها لخنق غزة والضغط لتفجيرها ضد حماس من الداخل، من خلال منع رواتب الموظفين والعمل على إغلاق معبر رفح وغير ذلك من الإجراءات، لأن الأخطر من ذلك كله في السياق الذي نحن بصدده هو دعوته إلى إرسال قوات دولية إلى غزة. وهي الدعوة التي أطلقها في العلن عقب التقائه في باريس الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي، واعتبرها خطوة ضرورية لتوفير الظروف المناسبة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة. وفي تبريره لهذه الدعوة قال أبو مازن إن استدعاء القوة الدولية مطلب فلسطيني مبكر.
هذا صحيح، ولكنه كان في سياق مغاير تماماً. ذلك أن الأصوات التي اقترحت في السابق استدعاء قوة دولية تصورت أن تلك القوات يمكن أن تقوم بدور في إيقاف الاجتياح والتوغلات والاغتيالات الإسرائيلية في الضفة والقطاع. لكن أبو مازن يريدها الآن أن تأتي إلى غزة فقط دون الضفة لسبب غير الذي أعلنه، هو إسقاط حكومة حماس وإنهاء الدور الذي تقوم به عناصر المقاومة في القطاع ضد إسرائيل. وليس ذلك استنتاجاً لأن الكلام الإسرائيلي صريح، ولا يحتمل اللبس في هذا الشأن. ذلك أنه من مفارقات الأقدار وسخرياتها، أنه في حين كان أبو مازن يتحدث مع الرئيس الفرنسي في مسألة استحضار القوات الدولية إلى غزة، فإن افيغدور ليبرمان نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس حزب «إسرائيل بيتنا»، كان يواصل لقاءاته في أوروبا مع ممثلي حلف «الناتو» لإقناعهم بإرسال جزء من قوات الحلف إلى غزة. والهدف النهائي من هذه العملية كشفت عنه صحيفة معاريف في عددها الصادر في 26/6، التي أكدت أن جولة ليبرمان تمت بالتنسيق الكامل مع أولمرت، وقالت إن القضاء على حماس هو جوهر المسألة «لأنها تمثل تهديداً استراتيجياً ليس فقط لإسرائيل، وإنما أيضا للمصالح الغربية في المنطقة، الأمر الذي يبرر تدخل حلف الناتو لإسقاط حكومتها».
قبل أن نستطرد في عرض كلام ليبرمان وأصدائه، نذكر بأن الرجل من غلاة المتطرفين والفاشيين في إسرائيل. وهو من دعا مراراً إلى قصف أسواق غزة ومساجدها بطائرات «إف 16» ونادى بطرد الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة وتوطينهم في سيناء، كما أنه ضمن برنامجه الاجتماعي بند يدعو إلى فرض السيادة اليهودية على المسجد الأقصى، ومنع المسلمين من الصلاة فيه. وهو الذي لم يتورع عن المطالبة بقصف السد العالي لإغراق المدن المصرية، وتدمير قصر الرئاسة السوري.
هذا الرجل الذي ذهب إلى أوروبا مسانداً لأبو مازن ومؤيداً دعوته لإرسال القوات الدولية إلى غزة. حين فصّل في مهمة القوات الدولية المذكورة قال إن كتاب تكليفها يشمل ما يلي: منع حركات المقاومة من استهداف العمق الإسرائيلي انطلاقا من قطاع غزة ـوقف عمليات تهريب السلاح والوسائل القتالية عبر الحدود بين القطاع ومصرـ تفكيك الأجنحة العسكرية لحركات المقاومة الفلسطينية. ولم يتردد ليبرمان وهو يعدد المهام التي يجب أن توكل لتلك القوات في أن يشير إلى أنه في حال نجحت في أداء مهمتها، فإنها ستحقق «هدف إسرائيل وأبو مازن المشترك في إسقاط حكم حركة حماس».
جدير بالذكر في هذا الصدد أن هذا التوافق المدهش مع أبو مازن الذي لم يكن يخطر على قلب البشر، ليس مقصوراً على ليبرمان وحده، ولكننا نلمس نظيراً له مع وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر، الذي رفعت ضده في الغرب عشرات الدعاوي بسبب الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب الفلسطيني حين كان رئيساً للشاباك. وذلك أن الرجل انضم إلى المعجبين بأبو مازن والمادحين له، إذ وصفوه بأنه «شريك لإسرائيل في حربها العادلة ضد حماس». بل إن زعيم المستوطنين في الضفة الغربية بنماس فلنشتاين خرج عن طوره ومضى يكيل المديح «لشجاعة» أبو مازن، لأنه أمر قواته بمطاردة قادة وعناصر حماس، في الوقت الذي كان جيش الاحتلال يطارد فيه نشطاء فتح في نابلس (الإذاعة الإسرائيلية 29/6).
لكي يزداد المشهد عبثية، فإنه حين التقى أبو مازن مع أولمرت وليبرمان على فكرة دعوة القوات الدولية إلى غزة، فإن بعض المعلقين الإسرائيليين تحفظوا عليها، ليس غيرة على الفلسطينيين بطبيعة الحال، ولكن لشكهم في إمكانية مساهمة تلك القوات في خدمة الأهداف الإسرائيلية. فالجنرال روني دانئيل المعلق العسكري للقناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي رأى أنه في حال وافقت إسرائيل على إرسال قوات دولية إلى غزة، فإن ذلك سيكون بمثابة خطأ إستراتيجي. لأنها لن تكون قادرة على لجم حركات المقاومة ومنعها من مواصلة عملياتها ضد الأهداف الإسرائيلية، بوجه أخص إطلاق القذائف الصاروخية محلية الصنع على المستوطنات المحيطة بقطاع غزة.
وتوقع دانئيل أن تصبح الأوضاع «أكثر كارثية» في أعقاب وصول القوات الدولية للقطاع، مشيرا إلى أن الذي سيزيد الأمور تعقيداً حقيقة أن الجيش الإسرائيلي لن يكون بوسعه العمل ضد حركات المقاومة الفلسطينية في ظل وجود تلك القوات، أما الجنرال عاموس جلبوع، رئيس قسم الأبحاث الشعبية في شعبة الاستخبارات العسكرية سابقاً، فمن رأيه أن ما يحدث في العراق سيكون «مجرد نكتة مقارنة مع ما سيحدث في غزة» محذراً من أنه في حال سقوط قتلى فلسطينيين في عمليات للقوات الدولية، فإن هذا لن يؤدي إلى توحد الفلسطينيين خلف حركة حماس، بل إنه «سيبرز أبو مازن كمن يعمل وفق الأجندة الإسرائيلية».
أما الجنرال أهارون زئيفي، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، فقد أشار إلى أن الدافعية القتالية لجنود القوات الدولية ستكون منخفضة جداً مقارنة مع دافعية عناصر المقاومة الفلسطينية وحذر من أن الدول التي سترسل هذه القوات سرعان ما ستسحب قواتها بفعل الخسائر الكبيرة التي ستتكبدها، منوهاً إلى أن إرسال القوات الدولية سيعفي حماس من المسؤولية عن تبعات الحصار الاقتصادي أمام الجمهور الفلسطيني، حيث أن الحصار على القطاع من المفترض أن ينتهي بوصول هذه القوات.
لا أتصور ولا أريد أن أصدق أن أبو مازن توقع يوماً ما أن ينتهي به المطاف بأن يصطف في مربع واحد مع ليبرمان وديختر وفانشتاين، لكنه العناد والكبر ورفقاء السوء الذين ظلوا يدفعون الرجل ويحرضونه حتى أوصلوه إلى ما وصل إليه، الأمر الذي يمكن أن يوصف بأنه انتحار سياسي لأي قيادي فلسطيني، تفاجأ به جماهيره معانقا أولمرت ومتفقاً مع ليبرمان ومحتفى به من جانب ديختر وفانشتاين. ونهاية من هذا القبيل تستدعي العديد من الأسئلة حول رصيد الشرعية الذي تبقى لأبو مازن وهو يندفع باندفاع الضفة الأخرى، مديراً ظهره لشعبه وقضيته وأمته. وهو بذلك يقدم للرأي العام الفلسطيني والعربي دليلاً دامغاً على أن ما فعلته حماس في غزة كان ضرورياً، لإنقاذ القطاع من ذلك المصير الذي دفع إليه أبو مازن.
إن الرجل أحوج ما يكون إلى العون بأكثر من حاجته إلى الاتهام أو التنديد والإدانة، كما إنه أشد ما يكون حاجة إلى ناصحين مخلصين، للرجل وللقضية وللأمة، لأن مختلف القرائن والنتائج التي لمسناها حتى الآن دلت على أن معاونيه أساؤوا إلى الثلاثة ودون أن يقصدوا أو يتمنوا فإنهم رفعوا من أسهم حماس وحسنوا كثيرا من صورتها أمام الرأي العام. في حين أنهم أرادوا بها مكراً ولها كيداً ولست أشك في أن بين الفلسطينيين المستقلين من يستطيع أن يقدم العون المطلوب لأبو مازن، كما إنني على يقين في أن أكثر من عاصمة عربية على استعداد لأداء واجبها في هذا الصدد.
بقي فقط أن نحرر أبو مازن من الذين اختطفوه، بعدما اختطفوا فتح ومن بعدها السلطة الوطنية.
المقال منشور في صحيفة "الشرق الأوسط"
الأربعاء 11 يوليو 2007
واقرأ أيضاً:
مطلوب تحرير أبو مازن من مختطفيه/ «جريمة» حماس التي لن تغتفر/ فصل في إرهاب الدولة/ إلى عمرو خالد: عد إلى أهلك وأمتك