القومية العربية
ومن الأعمال التي قامت بها البعثات التبشيرية إنشاء الجمعيات التي تنادي بالفكر القومي وأهمها:
1- جمعية الآداب والفنون: 1847 أسستها البعثة التبشيرية الأمريكية وعلى رأسها سمث وفانديك والبستاني وناصيف اليازجي. لم يمضي عليها عامان حتى بلغ أعضاؤها خمسين عضوا أكثرهم من النصارى السوريين في بيروت ولم يكن فيهم مسلم واحد ولا درزي. وبقيت الجمعية خمس سنوات.
2- الجمعية الشرقية: 1850 أسسها اليسوعيون وكان يشرف عليها الأب دبرونر.
3- الجمعية العلمية السورية: سنة1857م بلغ أعضاؤها مائة وخمسين عضوا، اشترك فيها بالإضافة إلى مؤسسيها النصارى من أتباع البعث الأمريكية، بعض المسلمين والدروز ونالت اعتراف الحكومة بها 1868م. (كان أول صوت ظهر لحركة العرب القومية هو صوت إبراهيم اليازجي أحد أعضاء الجمعية فألقى قصيدة اتخذت صورة النشيد القومي) (11).
4- جمعية بيروت السورية: 1875م، يقول جورج أنطونيوس: (يرجع أول جهد منظم في حركة العرب القومية 1875 أي قبل ارتقاء عبد الحميد العرش بسنتين - حين ألف خمسة شبان من الذين درسوا في الكلية البروتستنتينية السورية -الجامعة الأمريكية- ببيروت جمعية سرية وكانوا جميعا من النصارى ولكنهم أدركوا قيمة انضمام المسلمين والدروز إليهم، فاستطاعوا أن يضموا إلى الجمعية نحو اثنين وعشرين شخصا ينتمون إلى مختلف الطوائف الدينية ويمثلون الصفوة المختارة المستنيرة في البلاد، وكانت الماسونية قد دخلت قبل ذلك بلاد الشام على صورتها التي عرفتها أوربا، فاستطاع مؤسسو الجمعية السرية، عن طريق أحد زملائهم أن يستميلوا إليهم المحفل الماسوني الذي كان قد أنشئ منذ عهد قريب ويشركوه في أعمالهم)(12).
من هذا ندرك:
1 - أن بداية العمل القومي المنظم كان في بلاد الشام عن طريق النصارى.
2 - أن هؤلاء النصارى من تلاميذ البستاني واليازجي أو من محبيهم وكانوا ثمرة جهود البعثة الأمريكية.
3 - إن من بين المؤسسين إبراهيم اليازجي، صاحب شعار الجمعية: لنطلبن بحد السيف مأربنا فلن يخيب لنا في جنبه إرب، وكذلك كان فارس نمر باشا (نصراني لبناني) وصهره شاهين مكاريوس من مؤسسيها. وهؤلاء الثلاثة من كبار الماسونيين المعروفين.
فالأيادي الماسونية -اليهودية- هي التي تبنت فكرة القومية العربية، وهي نفس الأيادي التي كانت تحرك في الوقت ذاته القومية الطورانية التي يتبناها يهود الدونمة في سالونيك وتعقد اجتماعاتهم في بيوت اليهود الإيطاليين. (وأن الذي أوحى بفكرة تأسيس جمعية بيروت السرية هو رجل يسمى إلياس حبالي من بلدة ذوق مكايل وكان أستاذا للغة الفرنسية يدرسها في الجامعة الأمريكية لطلاب صف فيهم اليازجي ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس وكان الأستاذ معجبا بالثورة الفرنسية) (13).
وقد كان يشك أن مدحت باشا -زعيم الماسونية وكان يكنى بأبي الأحرار- وراء تشكيل الجمعية، فقد جاء في برقية أرسلها القنصل البريطاني في حزيران 1880 (ظهرت في بيروت منشورات تحض على الثورة يشك في أن مدحت هو منشئها)(14). وكان مدحت آنذاك واليا على الشام. ولكن حزم السلطان عبد الحميد ومتابعته للجمعية ومنشوراتها جمد نشاطها وكان أهم منشورات الجمعية هو المنشور الثالث الذي صدر في 31 ديسمبر 1880 وحدد مطالبهم بأربع نقاط(15):
1 - منح سوريا مع لبنان الاستقلال.
2 - الاعتراف بالعربية لغة رسمية.
3- رفع الرقابة عن حرية التعليم.
4 - عدم إرسال أبناء العرب للحرب مع الأتراك خارج بلادهم.
الهجـرة إلى القاهــرة
كانت شخصية السلطان عبد الحميد فذة وفريدة وقد ملأ مكانه وفرض حبه على القلوب إذ أنه كان يعيش عيشة زاهدة دون ترف ولا ترهل مع إقصاء كل مظاهر الترف والتحلل التي وجدها في القصر، ولذا لم يستطع المتنصرون وتلاميذهم أن ينشطوا في أيامه، وجاءت فكرة الرحيل إلى القاهرة حتى تعيش الفكرة القومية في محضن الرعاية البريطانية حيث يجثم كرومر المعتمد البريطاني، فهاجرت العائلات النصرانية والكتاب النصارى إلى القاهرة لتكون القاهرة منطلقا لمحاربة تركيا ولنشر الأفكار العلمانية والقومية لتحل تدريجيا محل الإسلام ولتكون رابطة عربية بدل الرابطة الإسلامية ومن بين هذه الأسماء التي هاجرت:
إبراهيم اليازجي بن ناصيف اليازجي: ماسونيان، وإبراهيم هذا نعته المحافل الماسونية في القاهرة. وأسس جريدة (الضياء).
فارس نمر وصهره شاهين مكاريوس: صاحب جريدة (المقطم) اليومية، ومجلة (المقتطف الشهرية) وهما نصرانيان ماسونيان.
سليم تقلا: الذي أسس الأهرام (جريدة يومية) تصدر حتى يومنا هذا.
جورجي زيدان: صاحب دار الهلال وله مؤلفات كثيرة.
أديب إسحق: (مدير صحيفة (مصر) وسليم نقاش (مدير إدارة صحيفة التجارة) وهذان النصرانيان من الشام كانا يعملان بإرشاد جمال الدين الأفغاني وهو الذي أسس هاتين الصحيفتين (16).
روزاليوسف: جاءت من الشام نصرانية ثم تظاهرت بالإسلام وسمت نفسها فاطمة اليوسف، ولكنها أصدرت المجلة باسمها القديم (روز اليوسف).
أحمد فارس الشدياق: ماروني اعتنق البروتستانتية على يد البعثة الأمريكية، ثم جاء مصر وأصدر صحيفة (الجوائب)، ثم أسلم على يد باي تونس.
الأفغاني وعبده والكواكبي
ولا بد هنا أن نشير إلى ثلاثة من الدعاة ممن كانوا يتزيون بزي العلماء وهم مشهورون في العالم كله كدعاة إلى الوحدة الإسلامية مع أنهم في الوقت نفسه يهاجمون تركيا ويسعون إلى هدم صرح الخلافة. وهم:
الأفغاني: وكان يحتضن كثيرا من النصارى واليهود وكان طبيبه الخاص اسمه هارون يهوديا، وقد حضر موته هو ونصراني آخر اسمه (جورجي كونجي) وكان ينزل في لندن ضيفا على مستر (بلنت) البريطاني صاحب كتاب (مستقبل الإسلام)، وعندما حاول الخليفة منع الأفغاني من الخروج من تركيا توسط له السفير البريطاني وخرج. وكان الأفغاني رئيسا لمحفل الشرق الماسوني (17).
أما محمد عبده: فكان صديقا حميما لكرومر، وصرح كرومر بأن الشيخ عبده سيبقى مفتيا لمصر مادامت بريطانيا فيها، وكان ماسونيا ومن رواد صالون الأميرة نازلي فاضل، ومن تلاميذه: أحمد لطفي السيد العلماني الذي أعلن كفره البواح في صحيفته (الجريدة) وسعد زغلول. وقاسم أمين (صاحب كتاب تحرير المرأة) وهؤلاء كان لهم أثر عميق في مجرى الأحداث في مصر (17).
وعبد الرحمن الكواكبي: 0184- 1903 وأصدقاؤه وتلاميذه من المسلمين واليهود والنصارى. كانت دروسه في مقهى (سبلنددبار)، نادى بمبايعة خليفة عربي في كتابه (أم القرى) وله كتاب آخر اسمه (طبائع الاستبداد)، دعا إلى المساواة بين الأديان لتحقيق التماسك القومي. ويقول: ( دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم الأخرى فقط، دعونا نجتمع على كلمة سواء، ألا وهي فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء)، (هذه أمم اوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري) (18).
هؤلاء الثلاثة كانت أفكارهم تمهيدا للعلمانية، فقد كانت آراؤهم قنطرة عبرت عليها العلمانية إلى العالم الإسلامي كما يقول ألبرت حوراني(20). وحطم الحاجز النفسي بين الكافرين والمسلمين، وأصبحت نفوس المسلمين قابلة لتقبل الأفكار الواردة وعلى رأسها القومية، يقول ألبرت حوراني: (ومن الحق أن الذي يقرأ لمحمد عبده في مناظراته مع رينان ومع فرح أنطوان يحس أنه كان يريد أن يقيم سدا في وجه الاتجاه العلماني يحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه ولكن الذي حدث هو أن هذا السد قد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإسلامي لتحتل المواقع الواحد تلو الآخر)(21). ثم جاء تلاميذ محمد عبده ليعمقوا هذا التيار وليقودوا المجتمع بعلمانيتهم. فمثلا لطفي السيد: عمق الوطنية الإقليمية وتزعم الدعوة إلى التاريخ الفرعوني.
وجاء سعد زغلول: وسلمه كرومر وزارة المعارف لينادي بالاتجاه الوطني الإقليمي الفرعوني على الصعيدين السياسي والاجتماعي، ويقول كرومر: (بأني سلمته وزارة المعارف لأنه من تلاميذ الشيخ عبده).(22).
وجاء قاسم أمين: ليوضح العموميات ويفصل مجمل ما كان يدعو إليه الشيخ عبده وينادي بخلع الحجاب ونزع الحياء من حياة المرأة حتى أن كتاب (تحرير المرأة) نال إعجاب الشيخ عبده وقد اطلع على مسودته هو وتلميذه لطفي السيد في جنيف سنة 1897 كما ذكر ذلك لطفي السيد وقاسم أمين (23)، ولذا تعزا الفصول الفقهية في الكتاب إلى الشيخ محمد عبده -كما يظن- لأن قاسم أمين لا علم له بهذه القضايا. ويذكر في هذا المجال إسماعيل مظهر صاحب (مجلة العصور) وهو صهر لطفي السيد.
وكذلك لا بد من الإشارة إلى إصبع من أصابع التخريب وهو عبد العزيز فهمي، صديق لطفي السيد الحميم، وصديقهم الثالث طه حسين الذي فصل من الجامعة بسبب كفره الصريح في (الشعر الجاهلي) فاستقال لطفي السيد من الوزارة (وكان وزيرا للمعارف) احتجاجا على فصل طه حسين من الجامعة المصرية (24).
هذه المجموعة قد فرغت الشعب المصري من الإسلام لتحل محله أفكارا جديدة من الفرعونية والعلمانية والوطنية اللادينية. وقد تكون الصداقة الحميمة بين هؤلاء وبين الشيخ محمد عبده إن هي إلا محاولة لتقريب هذه الفئة من الإسلام، ولكنه لم يستطع بعد أن تساهل من أجل جذبهم في كثير من القواعد الشرعية التي تحدد الولاية والعداوة والصداقة والمقاطعة وأفتى بكثير من الفتاوى من أجل رفع الحواجز بينه وبين كرومر من جهة وبينه وبين هذه الفئة من جهة أخرى، مثل الفتوى الترنسفالية وفتواه في المرأة والطلاق والتعدد بالإضافة إلى تفسيره كثيرا من الآيات الغيبية في القرآن تفسيرا يكاد يخرجها عن اللسان العربي ويلغي مضمونها بالكلية.
جاء في تقرير كرومر سنة 1906 المقدم إلى الحكومة البريطانية - عن حزب محمد عبده (... وهؤلاء راغبون في ترقية مصالح مواطنيهم وإخوانهم في الدين. ولكنهم غير متأثرين بدعوى الجامعة الإسلامية ويتضمن برنامجهم -إن كنت فهمته حق الفهم- التعاون مع الأوروبيين لا معارضتهم في إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم)(25). ويقول كرومر: (إني أشك كثيرا أن صديقي محمد عبده كان إلا إداريا)(25). ويقول صديقه بلنت الإنجليزي:
(أخشى أن أقول أن محمد عبده -بالرغم من أنه المفتي الأعظم- ليس له من الثقة بالإسلام أكثر مما لي من الثقة في الكاثوليكية)(26).
وأصدق كلمة في محمد عبده وشيخه كلمة الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام: (فلعل الشيخ محمد عبده وصديقه أو شيخه جمال الدين أرادا أن يلعبا في الإسلام دور لوثر وكلفن -زعيمي البروتستانت- في المسيحية فلم يتسن لهما الأمر بتأسيس دين حديث للمسلمين، وإنما اقتصر سعيهما على مساعدة الإلحاد المقنع بالنهوض والتجديد)(27). ويقول شيخ الإسلام مصطفى صبري - كذلك (أما النهضة الإصلاحية المنسوبة إلى محمد عبده فخلاصتها أنه زعزع الأزهر من جموده على الدين فقرب كثيرا من الأزهريين إلى اللادينيين خطوات ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة، وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني. كما أنه هو الذي شجع قاسم أمين على ترويج السفور في مصر) (28).
وللحديث بقية.........
الهـوامـش
(11) [يقظة العرب 120].
(12) [يقظة العرب149].
(13) [الشعوبية الجديدة لمحمد مصطفى رمضان ص156 نقلا عن كتاب المجتمع العربي كلية الآداب جامعة بيروت].
(14) [مكتب السجلات العامة وزارة الخارجية (F.O) رقم 195: 1306 يقظة العرب ص153].
(15) [يقظة العرب ص155].
(16) [تاريخ الأستاذ الإمام 1/45 أنظر كتاب الإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين ص66].
(17) [كتاب الإسلام والحضارة الغربية فصل الأفغاني ومحمد عبده وكتاب الفكر الإسلامي المعاصر للتوبة].
(18) [طبائع الاستبداد ص 112-113 أنظر العلمانية لسفر الحوالي ص 580 وأنظر يقظة العرب ص 172].
(20) [الفكر العربي المعاصر/ ألبرت حوراني ص 144 وأنظر كتاب الإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين ص83].
(21) [الإسلام والحضارة الغربية ص 70-83 نقلا عن تاريخ الأستاذ الإمام ص 144-145].
(22) [العلمانية ص605].
(23) [العلمانية ص628].
(24) [أنظر العلمانية ص278].
(25) [الإسلام والحضارة الغربية ص79].
(26) [مذكرات بلنت My Dairises ج1/346 (يناير سنة 1900)].
(27) [كتاب شيخ الإسلام -مصطفى صبري - موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين -4- أجزاء ج1/144 وأنظر كتاب الإسلام والحضارة الغربية ص107].
(28) [الاتجاهات الوطنية لمحمد حسين ج2/75-85].
ويتبع >>>>>: الدعوة القومية في بداية القرن العشرين