هناك طرفة متداولة في التراث الشعبي اليهودي تقول أن رجلا يهوديا فقيرا ضاقت في وجهه السبل، فهو يعيش في غرفة صغيرة مع زوجة وثمانية من الأولاد والبنات، فطرق أبواب رئيس البلدية، وقائد الشرطة، ونائب المنطقة في البرلمان على أمل أن تتحسن ظروفه ويجد منزلا أكبر ولكن دون جدوى، فقرر الذهاب إلى الحاخام كملاذ أخير.
الحاخام استعد أن يساعده ويجد له حلا شريطة أن ينفذ كل توصياته دون جدال أو مساءلة، فوافق اليهودي الفقير مكرها ومتفائلا، فقال له الحاخام إن أول شيء يجب أن يفعله هو الذهاب إلى السوق وشراء معزة، فصاح مستنكرا ولكن أين أضعها، فليس هناك إلا الغرفة إياها. فذكره الحاخام بالاتفاق، وطلب منه العودة بعد أسبوع، فرضخ صاغرا.
بعد أسبوع عاد والغضب واليأس واضحين على وجهه، وبدأ في الشكوى من أوضاعه التي ازدادت سوءا، فالمعزة بدأت تتبول على الأرض، وترفس الأطفال، وتدوس في بطونهم، وتحرمهم من النوم بصوتها. فأوصاه الحاخام بشراء أخرى، وطلب منه أن لا يسأل أو يتذمر مذكرا إياه في الوقت نفسه بالاتفاق.
في الأسبوع الثالث سأله كيف الحال، فقال له زفت وطين، كنا بمعزة وأصبحنا باثنتين، ورائحة البيت أصبحت نتنة والنوم طار من عيون الجميع، فطلب منه الحاخام شراء الثالثة. في الأسبوع الرابع عاد الرجل والشرر يتطاير من عينيه، فلم يسأله الحاخام عن أحواله، بل بادر بالقول أنه يتفهم معاناته ولذلك يريد أن يساعده وطلب منه بيع واحدة من المعيز، والعودة إليه بعد أسبوع، فتنفس الرجل الصعداء.
في الأسبوع الخامس طلب منه بيع المعزة الثانية، وفي السادس الثالثة، ثم سأله كيف الأحوال الآن، فقال إنها نعمة كبيرة أصبحنا ننام قريري العين، لا معيز ولا رفس، ولا بول ولا بعر، الحمد لله الأوضاع أفضل كثيرا من السابق. هذه هي الحياة ولا بلاش.
الحاخام الإسرائيلي أيهود أولمرت، مدعوما بالرئيس الأمريكي جورج بوش، وموفده الخاص لشؤون الشرق الأوسط توني بلير، يريدون أن يحلوا مشكلة الإنسان الفلسطيني بالطريقة نفسها التي جرى من خلالها حل مشكلة هذا اليهودي الفقير المعدم.
فالمشكلة الفلسطينية أصبحت الآن هي خمسمائة حاجز تضيق الخناق على الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية، والحصار الاقتصادي الخانق، والمطاردين من أبناء كتائب شهداء الأقصى.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيلتقي اليوم أيهود أولمرت في القدس المحتلة، حيث سيعمل الأخير على مساعدته، وتخفيف معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية.
المطالب التي يحملها السيد عباس تتلخص في الإفراج عن الأموال الفلسطينية المجمدة لدى الحكومة الإسرائيلية، وتخفيف معاناة الفلسطينيين أمام المعابر، والإفراج عن 250 أسيرا فلسطينيا قضوا معظم فترات عقوبتهم، والإيعاز لأمريكا وأوروبا باستئناف المساعدات المالية للسلطة.
ما يجمع بين أولمرت وعباس الآن هو عدو مشترك اسمه حماس في قطاع غزة، ولذلك يجب حشد كل الجهود وتوحيدها من أجل مواجهته، من خلال تحسين الظروف المعيشية لأهل الضفة الغربية، وتشديد الحصار على مليون ونصف المليون فلسطيني في القطاع، أي تحويل هؤلاء إلى رهينة، وفرض عقوبات جماعية فلسطينية ـ إسرائيلية مشتركة عليهم، لأن الأقدار وضعتهم تحت سلطة حماس وليس تحت سلطة الرئيس عباس.
الرئيس عباس لم يعد يضع مسألة الجدار العنصري، وتوسيع المستوطنات، وخنق القدس والتوغلات الإسرائيلية وما يرافقها من مجازر في قطاع غزة على قمة أولوياته وجدول أعمال لقاءاته مع أولمرت، وإنما كيفية الإطاحة بدولة حماس في قطاع غزة، وإنهاء المقاومة الفلسطينية المسلحة، وكأن الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة باتت علا مرما حجر، والعقبة الوحيدة أمامها هي هذه الدويلة الحمساوية.
فكتائب شهداء الأقصى التي أعادت لحركة فتح كرامتها، ووضعتها على الطريق الصحيح بعد انحراف أوسلو، بتخطيط استراتيجي بعيد النظر من قبل مؤسسها الشهيد المرحوم ياسر عرفات، هذه الكتائب التي قدمت عشرات بل مئات الشهداء في عمليات فدائية متميزة تحل الآن وتفكك، وتباع بسعر بخس للغاية، ولا يزيد المقابل عن تأمين سلامة مائتين من عناصرها المطاردين.
أبناء فتح الذين كانوا طليعة هذه الكتائب، لم ينخرطوا في المقاومة من أجل أن يسلموا أسلحتهم، ويحصلوا على صك بالأمان من أولمرت أو الشاباك وإنما من أجل الشهادة دفاعا عن قضيتهم الوطنية العادلة. ولو كانوا يريدون السلامة الشخصية، والانضمام إلى شرطة عباس وقوات أمنه، لما سلكوا هذا الطريق، وبقوا في منازلهم وسط أهلهم، أو لانضموا إلى مؤسسات السلطة مثل خمسين ألفا مثلهم مسجلين في كشوفاتها حاليا.
إن تصرفات رئيس السلطة والمحيطين به توحي بأنه هو الذي يعمل حاليا على التقسيم وتكريسه، وفصل الضفة الغربية نهائيا عن قطاع غزة، لأن كل اهتمام الرئيس عباس، الذي من المفترض أن يكون رئيسا لكل أبناء الشعب الفلسطيني، بات محصورا في الضفة الغربية فقط، وتصعيب حياة أبناء قطاع غزة بقدر الإمكان لا لذنب ارتكبوه، وإنما لأنهم أفاقوا يوما ووجدوا أنفسهم تحت حكم هذه الحركة الإسلامية، بعد هروب قادة أمن السلطة بأسرهم وأموالهم عبر البحر إلى مصر أو عبر معبر كارني إلى رام الله بتسهيلات إسرائيلية في الحالين.
هناك ستة آلاف فلسطيني يواجهون الجوع والموت على الجانب الآخر من الحدود مع مصر، يعيشون على الصدقات، ولم نسمع أن الرئيس عباس بذل جهودا حقيقية مع حلفائه الأمريكان والإسرائيليين لإعادتهم إلى ذويهم، وكل ما سمعناه أنه وافق على طلب إسرائيلي بعودتهم عبر معبر كرم سالم الإسرائيلي، وبما يلغي حدود القطاع كليا مع مصر، ويجعل الحاخام أولمرت هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في من يغادر القطاع أو يعود إليه، الأمر الذي يعني إلقاء القبض على أي فلسطيني متهم بارتكاب إثم المقاومة.
طريق الرئيس عباس بات في اتجاه واحد فقط، أي نحو أمريكا وإسرائيل، والأردن في أفضل الأحوال. فالرجل لم يعد يريد العمق العربي، ويعمل علي قطع علاقاته به، الأمر الذي يذكرنا بأيام الرئيس السادات الأخيرة، وإن كنا لا نتمنى له النهاية نفسها. ونقولها صادقين.
الشعب الفلسطيني لم يقدم آلاف الشهداء على مدى ستين عاما من أجل تخفيض عدد الحواجز في الضفة الغربية، ودفع رواتب موظفي السلطة بشكل منتظم، وتوفير الأمان لبعض المطاردين، والإفراج عن 250 معتقلا من تنظيمات فتح والشعبية والديمقراطية، من مجموع 12 ألف أسير، وفرض اعتقال جماعي على أكثر من مليون ونصف المليون شخص في قطاع غزة.
الشعب الفلسطيني قدم كل هؤلاء الشهداء، والجرحى والأسرى من أجل استعادة فلسطين، ونأمل أن لا ينسى السيد عباس هذه الحقيقة في غمرة عناقه اليوم لأولمرت في القدس المحتلة.
واقرأ أيضاً:
السلام المحموم في الزمن المأزوم/ كيف فسر الإسرائيليون ما جرى في غزة؟ / أبو مازن وأمريكا وخطة لإسقاط حماس/ دور سلطة أسلو في تكريث كارثة فلسطين / مراحل الخداع: وهكذا خدعنا وما نزال