بعيداً عن تعقيدات ما يعرف بالأمن القومي، والإجراءات الأمنية، واللوائح والقوانين التي تنظم عبور الحدود السياسية بين الدول، كان مشهد اقتحام الفلسطينيين معبر رفح الحدودي ـ بعد تحطيم أسواره ـ أشبه بحلم يتحقق، ليس للمحاصرين في غزة وحدهم بل ولكل عربي ومسلم تطارده يومياً مشاهد العدوان الإسرائيلي بحق أخوة له يقطنون على بعد رمية حجر من الحدود مع مصر والأردن والسعودية وسوريا.
كان المشهد رائعاً والجنود المصريون يتابعون ما يجري ولم تصدر عنهم أية بادرة سوء تجاه أشقائهم، الذين لجئوا إليهم فراراً من القصف، والجوع، والبرد، والظلام. ولم نصدق أنفسنا ونحن نسمع كلمات الرئيس مبارك: "أن مصر لن تسمح بتجويع الفلسطينيين في غزة، أو أن يتحول الوضع في القطاع إلى كارثة إنسانية".
ولم يكد المشهد يمر على هذا الصفاء وذلك الانسجام ـ الذي نادراً ما يتحقق بين الشعور القومي والإنساني العام وبين معطيات السلطة والحكم ـ حتى لاحت في الأفق بوادر النكوص أو "العودة إلى الأصل" ـ إن صح هذا المسمى ـ أو قل الانهزامية التي أقنعونا بأنها الأصل الذي ينبغي أن يجري على كافة قضايانا المصيرية.
حيث سلكت التوجهات الرسمية للدولة سياسياً وإعلامياً وأمنياً في منحى تحريضي وعدائي واضح وغير مبرر، خاصة حينما شرعت في تحميل الضحايا السبب الذي دفع الجناة إلى الاعتداء عليهم.
فقد عملت الأجهزة المصرية على منع وصول السلع المختلفة (التموينية والزراعية والمحروقات.. ألخ) إلى مدينة رفح، لأنها السبب الرئيس الذي يتدفق الغزاويون من أجله نحو الحدود، ثم شرعت في مطاردة الفلسطينيين داخل مدن شمال سيناء تحت ذرائع شتى لترحيلهم إلى قطاع غزة، وتم تعزيز الإجراءات الأمنية من خلال زيادة نقاط المراقبة والدوريات، ثم أعلنت مصر اتخاذها إجراءات صارمة لإغلاق الحدود تماماً، وأنها لن تسمح أبداً باجتيازها، ودفعت بقوات مسلحة إضافية، ونشرت أفراد من الشرطة فوق أسطح المنازل العالية المتاخمة للحدود، بهدف مراقبة التحركات على الجانب الفلسطيني.
كما شرعت المخابرات المصرية في التحقيق مع مئات المصريين، العائدين من قطاع غزة، بحجة ورود معلومات عن محاولتهم الانضمام إلى حركة حماس للجهاد ضد إسرائيل، إلا أن الحركة نفسها طلبت منهم العودة إلى مصر بعد تقديم الشكر لهم.
وتزامن مع ذلك حملة إعلامية وصحفية مفضوحة مرسومة ومخطط لها، لتأليب الرأي العام المصري والعربي على سكان غزة وحركة حماس، حيث تم توظيف أقلام مأجورة أخذت تردد إيحاءات التحريض والكراهية بحق المستضعفين، في محاولة يائسة لتزكية نار الفتنة وزرع الحقد في النفوس تجاههم.
وفي ظل هذه الأجواء تفجرت الأوضاع على الحدود، حين حاول فلسطينيون عبورها مجدداً بعدما أغلقتها السلطات المصرية، مما أدى إلى وقوع اشتباكات بين قوات الأمن المصرية ومجموعة فلسطينيين قرب بوابة صلاح الدين، أسفرت عن سقوط قتيل فلسطيني وجرح 16 آخرين، إضافة إلى جرح عدد من الجنود المصريين. وهو ما أوجد المادة الدسمة لحملات التحريض الإعلامية، حتى ادعت "وكالة أنباء الشرق الأوسط" المصرية الرسمية أن الفلسطينيين: "يتربصون بقواتنا في محاولات لاختراق الحدود ودخول الأراضي المصرية من خلال ثغرات جديدة".
وتناقلت وسائل إعلام أخرى تقارير تزعم أن حركة حماس تخطط لاختطاف جنود مصريين، لمبادلتهم بعناصر من الحركة محتجزين في مصر. ومن ثم صدرت التعليمات إلى أفراد الشرطة بتوخي الحذر خلال نوبات الحراسة. كما تقرر عدم سير رجال الشرطة المصرية فرادى خلال نوبات حراستهم على الحدود، وأن يكون تواجدهم في شكل جماعي لا يقل عن ثلاثة أفراد لكل مجموعة.
وقال مصدر أمني مصري: إن صاروخاً فلسطينياً، سقط داخل الأراضي المصرية من دون أن يوقع إصابات أو ضحايا. وأوضح المصدر أن الصاروخ محلي الصنع وسقط على بعد عشرة أمتار من خط الحدود المصرية.
ومساهمة منها في إشعال الحريق، زعمت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن حماس تستعد لمواجهة مسلحة مع مصر في حالة استمر الحصار ولم يفتح المعبر. وقال موقع "ديبكا" الاستخباري نقلاً عن مصادر عسكرية إسرائيلية: إن المصريين يخشون من عملية عسكرية تخطط لها حماس، من الممكن أن تأتي من خلايا الحركة المتواجدة في سيناء. وزعم الموقع أن معلومات استخباراتية هي التي دفعت المصريين لتحذير حماس من فتح المعبر عنوة، لأن خطوة كهذه ستؤدي إلى فتح النار المصرية على عناصر حماس، وسيكون هذه المرة إطلاق نار بقتل مباشر وليس فقط إصابات.
وقد توجت كل هذه الإجراءات بالتصريح الفج الذي ردده وزير الخارجية أحمد أبو الغيط ، متوعداً فيه بكسر أرجل الفلسطينيين إذا ما عبروا الأراضي المصرية. حيث سخر أبو الغيط من المقاومة منتقداً إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل، زاعماً أنها "تعود مرة أخرى لتقتل الفلسطينيين، أو تفقد في الرمال داخل إسرائيل" فتعطي الفرصة للدولة العبرية بأن تقوم بضرب الفلسطينيين.
وزعم أبو الغيط ـفيما زعمـ أن رفض حماس إعادة تشغيل معبر رفح، وفق اتفاق عام 2005 "يعني أنها تعاقب الشعب الفلسطيني، لأنه هو المتضرر من إغلاق المعبر". وكان يشير بذلك إلى الاتفاق الذي تريد كل من (مصر وإسرائيل والولايات المتحدة والأوروبيين والجامعة العربية والسلطة الفلسطينية) العمل به لدعم تولي أجهزة عباس السيطرة على المعابر، وجميع هؤلاء لا يريدون وجود أي علاقة لحماس بترتيبات المعابر.
وكان مصدر مصري رفيع صرح لصحيفة "الحياة": بأن "معبر رفح لن يُفتح في وجود سلطة غير سلطة الرئيس محمود عباس". وشدد على أن "هذه المسألة غير قابلة للنقاش"، رافضاً أي "وجود ولو رمزي لحركة حماس.. لأنها تنظيم وليست سلطة".
واستكمالاً للمهزلة الرسمية، قال وزير الدفاع المصري المشير حسين طنطاوي، إنه لن يسمح لأحد بالمساس بالأمن القومي المصري أو محاولة اختراقه. مؤكداً "أن مصر تمتلك منظومة دفاعية وقتالية متكاملة"!. وهي تصريحات لم يعتقد أحد أنها ربما تكون موجهة إلى إسرائيل ـ العدو الحقيقي الذي يقف على الحدود ويهدد الأمن القومي المصري والعربي على حد سواء ـ بل هي موجهة مباشرة لسكان غزة ولحركة حماس.!! وعقبت المصادر الصحفية بأن: الجيش المصري لديه الاستعداد التام للدخول إلى مدينة رفح الفلسطينية، في حال تم الاعتداء على قواته.
وهذا التصعيد الرسمي المصري تجاه حركة حماس ـ المنتخبة من الشعب الفلسطيني والحاكمة في غزة ـ لم يكن هو العربي الوحيد الذي نحى هذا المنحى، فلم تكن مصر وحدها التي صعدت المواجهة مع سكان غزة بل آزرتها دول عربية أخرى، على رأسها الأردن والسعودية والكويت والسلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن.
إذ أشارت التقارير الصحفية إلى أن القاهرة تلقت ضوءاً أخضراً، من المملكة العربية السعودية لمواجهة حركة حماس، ووقف تدفق الفلسطينيين عبر حدودها، مشيرة إلى أن السعوديين يعتقدون أن استمرار عدم ضبط الحدود يشكل خطراً وجوديا على مصر والسعودية معاً. وأشارت المصادر إلى أن تصريحات كل من وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط التي هدد فيها "بكسر رجل كل من يحاول اجتياز الحدود" ووزير الدفاع المصري المشير طنطاوي حول قدرات الجيش المصري وتسليحه، ما كانت لتتم لولا ضوء أخضر سعودي.
ومتوافقاً مع توجهات محور الاعتدال العربي، اتهم الأردن حركة حماس بمصادرة قافلة مساعدات أرسلتها إلي غزة، وقال وزير الدولة لشؤون الإعلام ناصر جودة: إن 16شاحنة أرسلوا إلى مخزن تابع لحماس. معتقداً أن الضحية بطبيعة الحال هم "المحتاجون المستحقون لهذه المساعدات".
وعلى الفور انتهزت سلطة محمود عباس التصريحات الأردنية لتتشفى من حماس، منددة بما أسمته "سرقة" الحركة للقافلة الأردنية. واتهم نمر حماد ـمستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون السياسيةـ الحركة بمحاولة الاستيلاء على كل ما يقدمه الأشقاء العرب وخاصة الأردن. معتبراً أن ما حصل يندرج في إطار تشجيع حماس لمظاهر تحدي الأشقاء في جمهورية مصر العربية، والمملكة الأردنية الهاشمية مستغلين معاناة الناس.
ومن جهته استغرب صائب عريقات ـرئيس دائرة شؤون المفاوضاتـ كيف تتنكر حماس للتضحيات العظيمة لمصر ومواقفها. بينما وصف أحمد عبد الرحمن الناطق الرسمي باسم فتح حماس بالعصابات وقطاع الطرق.
وفي رده على هذه الاتهامات أوضح المهندس (زياد الظاظا) ـ وزير الاقتصاد في حكومة حماس ـ أن وزارته ضبطت المساعدات التي حاول الهلال الأحمر ــ وهو جمعية تهيمن عليها حركة فتحـ أن يرسلها إلى سلطة رام الله وتنظيم سياسي معين، في إشارة إلى فتح، وإن الوزارة قامت بتسليمها إلى وكالة الغوث، مشيراً إلى أن وزارته قامت بتصوير وتسجيل وحصر هذه المساعدات بالصوت والصورة وإرسالها إلى الهيئة الخيرية الأردنية.
وبالنظر إلى هذه الحملة الرسمية العربية للتحريض على حماس يتبين أنها مواقف في مجملها جاءت على عكس ما كان مرجواً من الأنظمة التي وقفت خلفها، إذ كان الشعب الفلسطيني في ظل هذه الأزمات والاعتداءات التي يتعرض لها في أمس الحاجة لموقف مصري وعربي وإسلامي داعم. إلا أن الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية التي تدعمها الأنظمة العربية تقوم أساساً على خنق الفلسطينيين سواء في غزة أو في رام الله، وليس هناك أدنى شك في أن هذه الاستراتيجية لم تكن لتحقق أدنى نتيجة لولا التواطؤ العربي الكامل مع بنودها.
ومن ثم فإن الحديث عن تهديد الفلسطينيين للأمن القومي المصري أكذوبة لا ينبغي أن تنطلي على أحد، لأن جياع غزة لم يتدفقوا إلي الحدود من أجل النهب، والسلب، وتهديد الأمن القومي، وانتهاك السيادة، وإنما لشراء الخبز وعلب الحليب لأطفالهم، وقد كانت الفصائل الفلسطينية دوماً محترمة للأمن القومي ومقدرة للدور المصري رغم انه لم يكن بقدر الأزمة. وليس أدل على السلوك المتحضر للفلسطينيين من أنهم أعادوا 2000 مصرياً كانوا يريدون الانضمام للمقاومة. والأمن المصري لا يهدده الفلسطينيون بل يهدده الإسرائيليون الذين يدخلون الحدود من دون تأشيرة ويعيثون عليها فساداً.
في تعليق له على المواقف الرسمية وتصريحات أبو الغيط، قال أنور رجا ـ عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة" ـ :من "المفارقة أن يتوعد أبو الغيط أطفالنا ونساءنا ومرضانا، وهم يهرعون نحو أشقائهم لتأمين لقمة عيش، أو حبة دواء، أو نقطة حليب، أو لترات وقود تقي شر البرد القارص في هذه الفترة من السنة، في حين أن معالي الوزير أبو الغيط يستقبل بالابتسامات العريضة ودون أذون مسبقة الوافدين الصهاينة إلى طابا وشرم الشيخ تحت عناوين ملتبسة وشعارات بعضها السياحة والاستجمام". وأعرب رجا الذي يشغل منصب مسئول دائرة الإعلام في "القيادة العامة" عن استنكاره لاستخفاف أبو الغيط بعذابات وآلام الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب إبادة على أيدي قوات الاحتلال.
اقرأ أيضاً:
إمبراطوريات الشر الإعلامية / بلاك ووتر.. تجارة لقتل الأبرياء / زفة للمطبعين (آنا بوليس) يحسبه الظمآن ماء / مجالس العشائر صحوات من سراب / دبلوماسية النهب المنظم.. رايس في أفريقيا