كلما ادلهمت الخطوب ووهنت العزائم وضعُفت الهمم؛ وكلما ازداد المستكبرون في الأرض غروراً وعجرفةً وأمعنوا في جرائمهم وعدوانهم، وازداد المتخاذلون والمنهزمون نهلاً من مستنقعات أوصافهم، واستمروا في عرض «الستربتيز السياسي» وأمعنوا في تصوير الحق على أنه الباطل، والصدق على أنه الكذب، والنصر على أنه هزيمة رغم اعتراف المنهزم، وكلما ارتمى هؤلاء في أحضان سادتهم، بل جثوا على ركبهم ولعقوا الأحذية، ثم تفاخروا أمام أمتهم التي لم يرعوا الله فيها ولا في أنفسهم، وانطبق عليهم قول الشاعر العراقي أحمد مطر: ـ
كدنا نخاف إذا طلبنا أنجماً **** أن يُرشدونا للحصى في الوادي
كلما أظلم حقدهم أجواءنا، كلما سمم خطابهم أُفقنا، كلما قالوا: نحن أهل الواقعية، ونحن سادة المنطق أما أنتم فخطابكم خشبي ولغتكم عفا عليها الزمن ولم يعد لها مكان، كلما شعرنا بالرغبة في التقيؤ عند رؤيتهم يتفيهقون عبر الشاشات، وبعض منا أخذته الحماسة فرمى الشاشة بحذائه... جاء أمر من الله، بعد أن ظننا أن قد كذبنا؛ رسالة من الله وتذكير مبين، شمس تُطفئ كل فوانيس الكذب والخداع، وقمر يُضيء ظلمة ليلنا البهيم، وشدو جميل مع رقرقة جدول تُطرب الآذان بعد فترة طويلة من إجبارها على سماع أنكر الأصوات!
قدرنا أن تأتي الرسالة حمراء قانية، طاهرة صادقة؛ إنها الشهادة التي ينالها أحد أو بعض الذين رهنوا أنفسهم لله وعاشوا سنين حياتهم وسخروها للذود عن الأمة وعن كرامة المستضعفين، وأقسموا ألا راحة إلا بتحرير الأرض المغتصبة، أو ممات يغيظ المغتصبين واللصوص ومن خلفهم.
وحين يكون الراحل الشهيد قائدا أو شخصية معروفة لها وزنها ومحبتها في قلوب الفقراء والطامحين إلى المعالي، وفي نفس الوقت كابوساً للصوص أرباب العلمنة وقادة الاحتلال وأصحاب المشاريع الطفيلية ومن يتبعهم من أذناب يتكلمون بلساننا ولهم أسماء كأسمائنا، عندئذ فإن للشهادة والدم رائحة مختلفة وأثراً يُشبه الوقود، وقود يُضيء الليالي المظلمة ويُحرك النفوس المستكينة، ويشعر الفقراء الذين يرتعشون من البرد في مخيمات الشتات بدفء واطمئنان.
الأخير في هؤلاء، لا الآخر، هو عماد مغنية... آن أوان الرحيل يا عماد، لله درُك فقد أدركت أنها ميتة واحدة فجعلتها في سبيل الله، وعلمت أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، ولأن كل إنسان سيرحل عن الدنيا الفانية، فقد اخترت أشرف رحيل وأعظم نهاية لحياة قصيرة، وضمَّك سجل الخلود بحب لا يناله إلا الشهداء العظماء... قد علمت أن طعم الموت في أمر عظيم كطعم الموت في أمر حقير...!
ما أروع أن يُدرك الإنسان اللغز الذي فككت رموزه يا حاج عماد، فيغدو العدو رغم قوته أوهن من بيت العنكبوت، ويتوارى العملاء الصغار، ومن رضوا الدنية من صُناع التخاذل كمن انكشفت سوءته.
العظماء لا يحتاجون لكثير من الفهم في الخفايا والتفاصيل، لأنهم يدخلون القلوب بلا استئذان أو غش أو خداع... كنت ما أزال طفلاً صغيراً حينما قمت بقص صورتك وما كُتب عنك في إحدى الصحف لأعلقها في خزانتي الصغيرة، كم حلمت بك وبأمثالك يتجولون في شوارعنا ويقهرون عدونا، يمنحون للفقراء اللاجئين الأمل... وتحقق الحلم ولو بعد حين.
تُغادرنا يا عماد بجسدك أما الروح فحية تُرزق بمشيئة الله، في حواصل طير خضر حول عرش الرحمن؛ ولقد منَّ الله عليك بأن رأيت ثمار جهادك وجهاد من سبقوك ومن عاصروك بتحرير الجنوب، وبنصر الله في تموز، وتخبط المحتلين في العراق وأفغانستان وقرب نهاية مشروعهم في فلسطين حيث يفرح المؤمنون بنصر الله... أما أنت فنسأل الله لك جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
انضم لمن سبقوك، وافرح بما آتاك الله من فضله، وما أعظم فضل الشهيد، واستبشر بالذين لم يلحقوا بك، فهم كما سرت على درب السابقين، فسيسير الأحرار على دربك، فقدر الحرّ هو ما نلت، وقدر الأذلاء عيشة ذل وميتة هوان، والذاكرة اليوم برحيلك يمر بها شريط لصور كثيرة وأسماء عزيزة غالية أُضيف لها اسمك بجدارة المجاهد الحر، يمر شريط صور للأحرار الشهداء: نواب صفوي وعطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي وعز الدين القسام وفرحان السعدي وعمر المختار وراغب حرب وعباس موسوي وسعد صايل وخليل الوزير وهادي نصر الله وفتحي الشقاقي وعماد عقل ويحيى عياش وجهاد العمارين وحسين وعاطف عبيات وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وزياد العامر ومحمود طوالبة وماجد الحرازين وحسام الزهار وقافلة طويلة عطرت الأرض المباركة وما حولها ومن انتهج نهج الأحرار مما بعد عنها... فرحمة من الله ورضوان وسلام عليك يا عماد مغنية وجزاك الله عن المسلمين وعن لبنان وفلسطين خير الجزاء، وجمعنا الله بك في عليين... اللهم آمين
قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) ـ سورة النساء69 ـ
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)ـ سورة النساء74 ـ
اقرأ أيضاً:
وهل الضفة الغربية "كيان صديق"؟! / بلفور... كم أكرهك وكم أعشق القوة!