الانقلابات العسكرية والقومية
جاء الإسلام منذ اليوم الأول للبشرية بمبادئ جديدة يتجمعون عليها. ويلتقون في ظلها، وجاء لينقل الإنسان نقلة بعيدة فيرتفع به من التراب والطين إلى العقيدة والدين، وجاء ليقر الحق ويبطل الباطل. ويعطي كل ذي حق حقه وعلم الناس أن يكونوا قوامين بالقسط شهداء لله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135).
جاء الإسلام ليقيم العدل في الأرض. فقد قال عبد الله بن رواحة لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم: (والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم، على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض) (75).
وعندما سرق بنو أبيرق (طمعة أوبشير) درعا وسلاحا وطحينا من بيت (رفاعة بن زيد) ثم كادت السرقة تظهر عند طعمة فألقى طعمة السلاح في بيت آخر -جاء في بعض الروايات أنه يهودي، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم يصدق أن السارق هو اليهودي واسمه -زيد بن السمين- نزلت عشر آيات من السماء تبرئ زيد بن السمين اليهودي، وتثبت السرقة عند المنافق الذي يظهر الإسلام وهو طعمة بن أبيرق الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءته الشكوى: (عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير ثبت ولا بينة) (76).
وجاء الإسلام ليخرج الناس من حياة الحيوان التي يكون تجمع القطيع فيها على الكلأ والحظيرة إلى التجمع على أساس العقيدة والمبادئ، ونزل القرآن يلعن أبا لهب -عبد العزى بن عبد المطلب- عم الرسول صلى الله عليه وسلم الهاشمي القرشي، ويرفع بلالا وعمار وصهيبا، ويأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه معهم (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(الكهف:28). (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ....)(الأنعام:54).
جاء الأقرع بن حابس وعيينه بن حصن الغزاري للرسول صلى الله عليه وسلم، وعندما رأوا صهيبا وبلالا وعمارا وخبابا حوله قالوا: يا محمد (إن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد)(79)، فكاد صلى الله عليه وسلم يوافق أن يقرر لزعماء العرب مجلسا، فنزل جبريل عليه السلام بالقرآن ينهاه ويقول له: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)(الأنعام:52).
وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل -عمر بن هشام- فرعون هذه الأمة وإن كان مخزوميا قرشيا. وقتل أبو عبيدة أباه في بدر، وكان رأي عمر أن يقتل الأسرى في بدر وإن كانوا قرشيين ومن أقاربهم الأدنين (جمع أدنى) وانتصر الإسلام بأمثال هؤلاء الأعبد، وطوت عجلة التاريخ القرشيين المعاندين ليبقوا لعنة وعارا في صفحات تاريخ هذه الأمة. واختفت من بين الناس تلك النعرات الجاهلية والأصوات المنكرة التي كانت تؤجج نار حرب البسوس وحرب داحس والغبراء.
واختفى صوت الشاعر دريد بن الصمت: (وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد)، اختفى هذا الصوت ليرتفع الصوت الجديد بنشيده: (أبي الإسلام لا أب لي سواه، إذا افتخروا بقيس أو تميم).
واختنقت الأصوات التي تنادي بالانتصار لبكر أو تغلب أو لخزاعة، عندما دوى صوت الوحي في جنبات الأرض. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13). وأصبحت أنشودة كل مسلم: (الهند لنا والصين لنــا والعرب لنا والكل لنــا، أضحى الإسلام لنا دينا وجميع الكون لنا وطنا، دستور الله لنا نور أعددنا القلب له سكنـا).
والآن نأتي إلى القومية العربية الحديثة لنرى حكم الإسلام فيها: هنالك عدة قضايا نبني عليها حكمنا:
1- القومية العربية: تقيم التجمع واللقاء على أساس الجنس والأرض بدل العقيدة. وهذا يصطدم مع الإسلام.
2- القومية العربية: تفضل النصراني العربي على المسلم الباكستاني أو التركي وهذا يناقض القرآن (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...).
3- القومية العربية: تنصر اليهودي العربي أو النصراني العربي على المسلم الباكستاني أو الأفغاني وإن كان الحق للباكستاني أو الأفغاني أو الإيراني. وهذا يناقض (فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً....)(آل عمران:103)، (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه).
4- القومية العربية: توالي الكفار وتتبع القادة الكفار، فهي تقدم كلام ميشيل عفلق أو جورج حبش أو أساتذتهم أمثال نيتشة وروسو على أي كلام آخر ولو كان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. والله يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.....)(المائدة : 51 ).
5- القومية العربية: لا تقبل أن تجعل قانونها من الإسلام خوفا من إثارة النعرات الدينية والطائفية كما يدعون فهي تريد أن تبعد 90% من أبناء الدول العربية عن إسلامهم وتخرجهم عن دينهم مراعاة لشعور فئة قليلة من النصارى العرب.(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً*فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ....) (النساء:61، 62).
6- القومية العربية: لا ترى أن الإسلام صالح لهذا الزمان، ولذلك كثيرا ما تصف الإسلام بالرجعية والجمود والتأخر، وتصف العلمانية والتحلل من الدين بالتقدمية والتحرر.
7- القوميون العرب: يرون أن الإسلام وثبة من وثبات الأمة العربية أدت دورها ومضت، وأما اليوم فهناك مبادئ أخرى تؤدي دورها دون الإسلام الذي لا يستطيع أن يواكب العصر.
8- القوميون يرون أن القومية العربية دين جديد له سدنته وحواريوه وأتباعه وقديسوه، يقول محمود تيمور(84): (وان كتاب العرب في أعناقهم أمانة هي أن يكونوا حواريين لتلك النبوة الصادقة -القومية- يزكونها بأقلامهم)، ويقول علي ناصر الدين(84) في مقدمة كتابه (قضية العرب ط3): (العروبة نفسها دين عندنا -نحن القوميين العرب- المؤمنين العريقين من مسلمين ومسيحيين، ولئن كان لكل عصر نبوته المقدسة، إن القومية العربية لهي نبوة هذا العصر)، جاء في مجلة العربي(85) عدد 2 ص 9 يناير 59: (الوحدة العربية يجب أن تنزل من قلوب العرب أينما كانوا منزل وحدة الله من قلوب قوم مؤمنين)، ويقول عمر فاخوري (كيف ينهض العرب): (لا ينهض العرب إلا إذا أصبحت العربية -أو المبدأ العربي- ديان يغارون عليها كما يغار المسلم على قرآن النبي الكريم وغرضي من هذا الكتاب تشكيل ديانة جديدة هي الجنسية أو العنصرية العربية).
9- القومية العربية: تقديم للجاهلية على الإسلام (أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)، والجاهلية: هي كل حكم غير حكم الله. ولقد رأينا أن زكي الأرسوزي(43) يرى أن الجاهلية العربية هي الفترة الذهبية في حياة العرب ويراها مثله الأعلى.
10– القومية العربية: طاغوت جديد (صنم جديد) والطاغوت: كل حكم غير حكم الله، وكل ما أطيع من دون الله، وكل من تحاكم إليه الناس دون الله، سواء كان صنما أو كاهنا أو شيطانا أو قانونا أو وطنا أوقوما أو زعيم قبيلة أو عشيرة أو بلدا. وهذا كفر بنص القرآن (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً*فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً)(النساء60: 62)، صدق الله العظيم.
إنهم يقولون لا نريد إلا الإحسان والتوفيق بالقومية، لا نريد إلا الوحدة الوطنية، ونريد أن نتلافى الخلافات المذهبية والطائفية والدينية. يقول ابن كثير(87): (من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة فقد كفر. فكيف بمن تحاكم إلى إلياسا -قانون جنكيرخان- وقدمها عليه -على الإسلام- لا شك أن هذا يكفر بإجماع المسلمين)، ويقول سيد قطب (إن الذي يحكم على عابد الوثن بالشرك ولا يحكم على الذي يتحاكم إلى الطاغوت بالشرك. ويتحرج من هذه -الحكم بالكفر على من يتحاكم إلى الطاغوت- ولا يتحرج من تلك، إن هؤلاء لا يقرؤون القرآن، فليقرؤوا القرآن كما أنزل، وليأخذوا قول الله بجد (........... وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(الأنعام:121).
وبعد: فهذه نقاط عشرة كل واحدة منها تخرج القومي من الإسلام وتكفره كفرا ينقله عن الملة الإسلامية. ولزيادة الطمأنينة أنقل إليك بعض النصوص الكريمة من فم النبوة الشريف:
1- عن جندب بن عبد الله مرفوعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (من قتل تحت راية عمية، يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية، فقتله جاهلية)(88) وفي رواية (من قتل تحت راية عمية، ينصر العصبية، ويغضب للعصبية، فقتلته جاهلية)(89).
2- عن جبير بن مطعم مرفوعا (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)(90).
3- عن ابن مسعود مرفوعا (من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي في مهواة فهو ينزع بذنبه)(91).
4- عن أبي مرفوعا (إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)(92). أعضوه بهن أبيه: أي قولوا له: عض أيرى أبيك - هكذا في النهاية لابن الأثير.
5- عن أبي هريرة مرفوعا (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكون أهون على الله من الجعل الذي يدهده الحزء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبي ة الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من التراب)(93).
هذه النصوص فيمن يعتز بآبائه الجاهليين، فكيف بمن يقدم الجاهلية على الإسلام؟ وكيف بمن يقول: (إن العروبة مصدر إلهامنا، ومصدر مقدساتنا، عنه تنبثق المثل العليا، وبالنسبة إليه تقدر قيمة الأشياء، والعربي هو سيد القدر). وكيف تحكم على البعث الذي كتب في جريدته عن مشيل عفلق "الإله العائد"، وقال شاعرهم:
يا سيــدي ومعبودي حسبي ألم فتاتكم حسبي
وكيف تحكم على البعث السوريين الذين يقولون: (إن الطريق الوحي لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي: هي خلق الإنسان الاشتراكي العربي الجديد الذي يؤمن أن الله والأديان والإقطاع ورأس المال والاستعمار والمتخمين وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ)، وقد أشرت قبل قليل إلى بعض النصوص التي تعتبر العروبة دينا لها نبوتها والإيمان بالعروبة يجب أن يكون كالإيمان بالوحدانية لله.
إن القوميين يصرحون على لسان قادتهم (ألحدنا بكل الطقوس والعلاقات والأديان، اتهمنا بالإلحاد وكان ذلك صحيحا -رغم كل ما زعم البعثيون فيما يعد من مزاعم التبرير- لقد كنا خوارج على كل الشرائع التي تعارف عليها الناس فنسفناها).
وللحديث بقية.........
الهـوامـش
(75) [أنظر مختصر ابن كثير للصابوني 1/447 ومعنى يخرص التمر: يقدر كميته].
(76) [أنظر مختصر ابن كثير للصابوني 1/434-437، والآيات من سورة النساء من آية (105-115].
(79) [مختصر ابن كثير 1/581].
(84) [أنظر مقدمة كتاب الأستاذ الندوي العرب والإسلام، وكتاب الحلول المستوردة ص170].
(85) [أنظر مقدمة كتاب الأستاذ الندوي العرب والإسلام، وكتاب الحلول المستوردة ص 170].
(87) [البداية والنهاية ج13/118-119].
ويتبع >>>>>: القومية بعد الحرب الأولى
اقرأ أيضاً:
القومية العربية / القومية العربية: الجمعيات القومية / الدعوة القومية في بداية القرن العشرين / القومية بعد الحرب الأولى