رغم ثقل الكارثة -إنسانياً وأمنياً وسياسياً وتاريخياً- والتحديات الجثام التي واجهتها الأمة الإسلامية مع الغزو الغربي بقيادة أمريكا للتراب العراقي، وما مثله ذلك من هزيمة تاريخية وحضارية للأمة، في ظل ما تتمتع به من مقدرات ـكانت ولازالتـ كافية لصد مثل هذا الهجوم وأضعافه. ورغم الإقرار الذي لا سبيل إلى إنكاره بما صاحب ذلك الغزو من جرائم وفظائع عجزت الإنسانية عن تحمل بشاعتها، إلا أننا الآن -وبإصرار- بصدد البحث عن فوائد جمة نزعم أن الأمة الإسلامية جنتها من هذا الغزو البربري (الصهيوغربأمريكي).
ولم يكن لنا من سبيل للحديث عن فوائد مع هذا الغزو لو كانت أمة أخرى هي التي تعرضت له غير أمتنا الإسلامية، ذلك أن الأمة دائماً ما ينبغي أن تنظر إلى الهدف البعيد في مسيرتها الإنسانية والحضارية دون الهدف القريب العاجل. ولم يكن لنا من سبيل للحديث عن مثل هذه الفوائد لولا علمنا بالدور المنوط بهذه الأمة تجاه البشرية، رغم أنها الآن تعاني من حالة تراجع حضارية غير مسبوقة في تاريخ مسيرتها، وهو تراجع -لاشك- وقتي يوشك أن ينجلي -بإذن الله- ومؤشرات ذلك تنبأ عن نفسها وهي أكثر من أن تحصى.. فما هي النتائج التي خرجت بها الأمة من هذا الغزو؟
1 ـ سقوط الأقنعة الزائفة عن المدعين
تمكنت القوى الغربية المتحالفة -ومن خلال وضع زمامها وإمكانياتها تحت الطلب الأمريكي- من تجييش قدراتها السياسية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية وراء عمليات التحضير والاستعداد التي سبقت الحرب على العراق. وكانت -بحق- إمكانيات أكبر من أن توصف، وهو ما أرجف المرجفين وأفزع المفزوعين من عمداء الأنظمة العربية الرسمية، وكان له الأثر الأكبر في جعل هؤلاء يقدمون كل فرائض الطاعة والولاء للسيد الأمريكي قبل أن يطلبها صراحة، ومع هذا الإرجاف -وربما بدونه- سقطت أقنعة الزيف والبهتان عمن غلبوا مصالحهم الشخصية وأغراضهم الذاتية على كرامة الأمة وأمنها وسلامة ربوعها وأراضيها.
** على الصعيد الخارجي
ــ فالأقنعة الزائفة التي بدت مع قرع طبول الغزو كثيرة، وأشهرها أكذوبة "نشر الحرية وإسقاط الدكتاتورية" التي ادعاها أصحاب هذه الأقنعة من الأمريكيين وحلفائهم، ورغم أن هذه الإدعاءات لم تكن بحاجة إلى برهان للتأكد من زيفها، إلا أن الأمور سريعاً ما بدأت تتكشف، ليعرف من لا يعرف أن أعداء الأمة لن يحلوا مشاكلها، ولم تكن العراق هي البلد الوحيد من البلدان الإسلامية التي خضعت لحكم الاستبداد والدكتاتورية، ولم يكن دكتاتور العراق أسوء من باقي أشقائه الطغاة في العالم العربي، ولم يكن مجرمو الحرب وناهبو الثروات صادقين فيما روجوا له من أكاذيب قبلها المغفلون وانطوت عليهم.
ــ الأكذوبة الثانية هي "البحث عن أسلحة الدمار الشامل" وحقيقةً هذه ليست أكذوبة لأن الغزاة بالفعل دخلوا العراق وكان هذا السبب أحد دوافعهم، وقد يكون هو الهدف الحقيقي الوحيد الذي أعلنوه. إلا أنهم -ولفرط خوفهم على أمنهم وهو حقهم- ظنوا وكان الظن إثم، لأنه لا وجود لهذه الأسلحة في العراق. وحتى لو كانت هذه الأسلحة لدى العراق أكان ذلك يستوجب تدمير دولة كاملة على أهلها؟؟ فماذا إذن عن الترسانات النووية لدى الآخرين؟؟ أهي حلال لهم حرام على العراق؟؟؟.
** على الصعيد الداخلي
وهنا أعني الأنظمة العربية الرسمية التي قبلت غزو العراق -قبولا غير معلن- وقدمت التسهيلات للغزاة، وهي عديدة لا يخفى صنيعها على كل متابع.. وأعني كذلك وسائل إعلام (صحف، وإذاعة)، ومنظمات، ومؤسسات بحثية، سعت لإقناع الرأي العام العربي والإسلامي بوجاهة ما يطرحه المحتلون من مبررات لاغتصاب دولة الخلافة العباسية. كما أشير إلى عملاء الداخل، والمنتفعين من هذا التدمير، والذين قبضوا الثمن، وهم كثير أيضاً جهات وأحزاب وتكتلات وطوائف وأفراد من أبناء العراق الأسير نشأوا على ترابه وشربوا ماءه ثم طاب لهم أن يبيعوه رخيصاً.
2 ـ الإطلاع على الحجم الحقيقي لقوة الأعداء
وحيث كنا نسمع -في السابق- ونقرأ عن أسطورة: صواريخ كروز، وتوماهوك، وطائرات الـ (إف 16) و الـ (إف 15) و(الشبح) والـ (بي 52) وحاملات الطائرات التي تجوب بحار الدنيا، ومشات البحرية (المارينز). ثم تبين لنا بفضل هذا الغزو -الذي فُرض على الأمة ولم تسع إليه- وهمية كل هذه المسميات وغيرها، وكيف رأينا أبناء الإسلام في العراق -أُسد الشرى- ينصبون فخاخهم لتكنولوجيا الحرب الأمريكية، وأحدث آلة تدميرية عرفتها البشرية، وبأقل عدد وعدة تمكن أبناء الأمة البررة من تحويل الهزيمة بل النكسة إلى نصر.
ولعله ليس من المستغرب أن الحديث الآن لم يتوقف عند الانسحاب الأمريكي من العراق -البلد الذي ظنوا ثرواته مستباحة- بل صار الحديث الآن يتردد عن الانهيار الذي تتعرض له القوة العسكرية الأمريكية منذ دخولها العراق.
فقد حذر تقريران من أن الجيش الأمريكي يتعرض لضغوط خطيرة بسبب وجوده في العراق، واعتبرا أن ذلك ستكون له آثار ضارة طويلة الأمد على هذا الجيش. واتهم تقرير إدارة جورج بوش بالفشل في تجهيز القوات وتجنيد الأعداد الكافية، وقال: إن (هذه السياسة) "خلقت خطراً حقيقياً بانهيار القوة" العسكرية الأمريكية.. وأشار إلى أن "هذه العوامل ستخلق ضغوطا داخلية هائلة للبدء في خفض عدد القوات الأمريكية من العراق أياً تكن الظروف على الأرض".
وحذر "اندرو كريبنيفيتش" الخبير العسكري الذي استعان به البنتاجون لتقييم الحرب في العراق، حذر من أن انخفاض معنويات الجيش المثقل بالأعباء، وتراجع الدعم الشعبي للحرب، سيهددان قدرة الجيش وقوات مشاة البحرية الأمريكية.
كما نشرت وكالات الأنباء خبراً فحواه أن الجيش الأمريكي أجبر 50 ألف جندي على الاستمرار في الخدمة بعد انتهاء مدة تطوعهم بموجب سياسة أطلق عليها اسم "منع الرحيل". وقال خبراء عسكريين: إن هذه السياسة تظهر مدى الضغط الذي يواجهه الجيش الأمريكي، وإنها قد تزيد من صعوبة تجنيد قوات جديدة خاصة أن الجيش الأمريكي يقوم على نظام التطوع.
وقالت لورين تومسون محللة الدفاع في معهد لكسينجتون للأبحاث: "مع طول أمد حرب العراق فاقم الجيش من مجموعة من المشكلات قد يطرح تراكمها تساؤلاً بشأن مدى صلاحية جيش مكون بالكامل من المتطوعين". وجاء في دعوى رفعها جنديان من الحرس الوطني ضد سياسة منع الرحيل: "إن الجيش لجأ للاحتيال ليحث الجنود على الانضمام (إليه)".
وكانت واشنطن قد أبطلت سياسة التجنيد عام 1973 إلا أنه ومنذ ذلك الحين لم يسبق للجيش الأمريكي المكون بالكامل من المتطوعين أن خاض حرباً طويلة، ومثلت الحرب على العراق الامتحان الصعب والذي لم يكن في الحسبان، وهو ما يعني أن الذين خططوا لهذه الحرب لم يظنوا يوماً ما أن العراق صعب المراس إلى الحد الذي ستنهار معه قوتهم العسكرية.
3 ـ صلابة الأمة وقدرتها على المقاومة ولو بأقل عدة وعتاد
فقد تبينَ لكلِ متابع لمؤشر صمود الأمة في ساحات المجابهة التاريخية -ومثالنا هنا العراق- أن إحدى مكامن القوة، في هذا الجسد الإسلامي، الممتد من مشارق الأرض إلى مغاربها.. تمثلت في قدرته على الصمود، وصبر أبنائه، واستمراره في الدفاع، مهما نال من ضربات، وإن كانت موجعة، وبدت مفرطة في آلامها وتزفها الجراح.
فقد استطاع هذا الغزو الغربي للتراب الإسلامي في العراق، أن يُعرىَ الحقائقَ لمن طلبها، وكان أكبرُ هذه الحقائق وأجلها.. قدرةُ الأمةِ على الثبات والنزال، والتأكيد العملي، على أن الأمةَ الإسلاميةَ، حينما تعزم على مطاردة العدوان، تطارده ولو بغير عُدة، وبدون أي وسائل.. فكأن التاريخَ يعيدُ صفحاته: "لا نقاتلهم بعدد ولا بعُدة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين".
وإن النكبات التي تآزرت للقضاء على هذا الجسد النابض، بروح عقيدته، وإيمان أبنائه، لم تؤثر في عزيمته، بل لم تزده سوى إصرارا على الإصرار. فلم تكن الجيوش المتداعية من كل أقطار الأرض، بخيلها ورجلها، لتفت من عزيمة الأمة، كمقدمة للإجهاز عليها، وإنهاء وجودها العقيدي والإنساني.
4 ـ لن يدافع عن الأمة إلا أبناؤها
والحقيقةُ الأكبر التي تجلت لنا مع جريمة الغزو الأمريكي للعراق، هي أن الأمةَ الإسلامية حينما تقاتل، لا تقاتل بجلاديها، ولا بمن سُلطوا على رقابها زوراً، وإنما تدفع بأبنائها، الذين هم مستعدون ـ في كل وقت وعلى أي جزء من ترابها ـ أن يضحوا بدمائهم في سبيل كرامتها.
ولقد أثبت أبناء الأمة -بدمائهم- أنهم أهل لرفعتها، ومتأهبون ــدائماًــ لنصرتها، ولقد اطلعت البشرية جمعاء على ما بذله شباب الإسلام على ساحة العراق، في ظل مصاعب وأخطار، ومع قلة النصير، وقوة عدوهم وعدته وعتاده، وصمت البشرية المخزي أمام ما تعرضوا له من جرائم.
ولما كان لكل ساحة رجال، فقد تبين جلياً أن للقصور رجالها، وللدولارات رجالها، وللعمالة رجالها، وكذا للجهاد والدفاع عن حمى الأمة وأعراضها رجال أيما رجال.
ولكي تظل سُنة التدافع قائمة بين الحق والباطل فلابد من الاستمرار في حشد طاقات الأفراد والجماعات معاً، وتجيشها للذب عن حياض الإسلام وهويته أمام ما يتربص به من أخطار، كل بحسب قدرته، وكل في مجاله، على أن نضع أهدافَ الأمةِ وأمنَها وسلامتَها نصبَ أعين الجميع.
5 ـ العقيدة هي المحرك والضامن الذي لو تخلت عنه الأمة لضاعت في غياهب التيه
إن العقيدة الإسلامية، التي أنبتت في روح المسلم، هذه العزيمة على الثبات ـبدون أي وسائلـ وأعطته القوة لمجابهة أعتى عتاة الطغيان في الأرض، لتقدم أروعَ الحقائق التي يتحسسها العقل البشري، على أحقية هذه العقيدة الربانية الخالصة. والعقيدة الإسلامية لهي قوة الدفع الروحية الوحيدة على ثبات الأمة، وصمودها أمام ما تواجهه من تحديات وأخطار.
ولعله جدير بالأمة الإسلامية أن تعمل على رفع الحواجز التي طالما وضعت للحيلولة دون تربية الأجيال الإسلامية على هذه العقيدة الربانية، فلولا العقيدة التي انعقدت عليها القلوب لتاهت الأمة في غياهب الظلمات، ولتمكن أعداؤها من رقبة أبنائها، ولاستبيحت حرماتها، وانتهبت كرامتها.
6 ـ التاريخ لا ينسى.. والأمة باقية لم تمت
ولعله المكسب الأجل للأمة الإسلامية من هذا الصراع الذي فرضه عليها الآخرون، وخاضته ليس إلا للدفاع عن حصونها وكرامتها. فالتاريخ لن ينسى الحرمات التي انتهكت، والدماء التي سالت، والفظائع التي ارتكبت.. والتاريخ لن ينسى المجرمين ولا المتواطئين على الإجرام ولا الساكتين عليه والمصفقين له. والتاريخ لن ينسى الموقف الذي وقفه حفنة قليلة من أبناء الأمة للدفاع عن حماها، كما لن ينسى المتخاذلين، ولن ينسى الموقف الدفاعي للأمة نفسها أمام جرائم الآخرين.
واقرأ أيضًا:
حملات التحريض العربية لخنق حماس / دبلوماسية النهب المنظم.. رايس في أفريقيا / مجالس العشائر صحوات من سراب/ بلاك ووتر.. تجارة لقتل الأبرياء / إمبراطوريات الشر الإعلامية