المؤرخ الصهيوني برنارد لويس
المؤرخ الصهيوني برنارد لويس: موسوعية وانتقائية وتعميم
كشف لويس عن قدرة كبيرة، وشبه فريدة بين أترابه من المستشرقين المحدّثين، كما كشف عن موسوعيةٍ هائلة في البحث وجمع مواد التاريخ والاجتماع في العالمين العربي والإسلامي، فلقد اختار المناسب منها للفكر الصهيوني المطروح والمعالَجة الفكرية الاستعلائية لدعم أحادية الإمبراطورية الأمريكية، ثم قام بتشريحها وتحليلها وتقديمها للقارئ الغربي كمادة ثقافية جذابة -وليس أكاديمية باردة فحسب، وذلك بأسلوبٍ وشكل وإطار من الموضوعية المثيرة والمنطق الجذاب واللغة المبسطة، أو "التبسيطية" كما يتهمه ناقدوه، محاكياً بذلك العقل والغريزة معاً وجامعاً أحداث الحاضر والتاريخ في حزمة واحدة، وهو ما عجز عنه، أو لم يتجرأ على مقاربته، البحاثة الآخرون من قبله؛ لقد فهِم لويس منذ أن جاء إلى الولايات المتحدة، وربما كان ذلك من أسباب قدومه إليها أيضاً، أن الأفكار والمبادئ التي تنتجها النخب الفكرية، بذهنية ولغة أكاديمية نخبوية صافية، غير قادرة -على الأقل في المجتمعات الديمقراطية الحرة- على التأثير العميق والسريع في الثقافة العامة وصناعة الرأي، وبالتالي في صناعة القرار.
رغم أن المقارنة قد تبدو غريبة بعض الشيء، لكنها لا بد مفيدة في توضيح الأثر الذي تركه برنارد لويس لجهة إعادة إنتاج وترتيب مواد التاريخ والاجتماع العربية والإسلامية وتسويقها في العالم الغربي، في ما يشبه الكتب القصصية الجذابة، المتوسطة الحجم نسبياً والمعتمدة على المناهج الأكاديمية في ظاهرها، ولن نبالغ في القول أن الكثير مما أنتجه برنارد لويس يصلح لأن يكون ضمن سلسلة كتب أميركية شهيرة لتبسيط المعارف، وذلك تحت عنوان مثير هو "تاريخ الإسلام للأغبياء"! (Islamic History for Dummies)، [وهذا يوضح مدى سخرية برنارد لويس من المسلمين والعرب؛ وإلا لما اختار مثل هذا العنوان المفعم بالسخرية من أمتنا]
أما أكثر نقاط النقد لأفكار برنارد لويس إثارة للجدل فهي: تلك التي تتصل بأسلوب التنميط والتعميم الذي يمارسه لويس في حق العرب والمسلمين، فهو ينتقي مواده بشكلٍ يصعب على النقاد إنكارها أو التشكيك بصحتها، وهو يستشهد إضافة بآيات من القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبوقائع تاريخية، قديمة وحديثة، تنتمي إلى حقبة معينة وتتصل بفئة أو مجموعة أو مجتمع إسلامي بعينه، ثم يقوم بتحليلها وإسقاط نتائج ذلك ومدلولاته بشكل تعميمي سافر، على العرب، وعلى المسلمين جميعا، وعلى امتداد تاريخهم، أو على حقبة كاملة منه!!!.
في مقالة بعنوان "الإسلام من خلال عيون غربية"(4) يقول إدوارد سعيد:
"بدلاً من توضيحها وتهذيبها، ساهمت النخب الثقافية ومواقع صنع القرار في الولايات المتحدة، في تعزيز وتكثيف الصورة النمطية للإسلام كتهديد للغرب، من رؤية زبغنيو برجنسكي في "هلال الأزمات" إلى نظرية برنارد لويس في "عودة الإسلام"، تبدو الصورة المرسومة موحدة: "الإسلام" يعني نهاية الحضارة كما نعرفها "نحن"؛ الإسلام ضد الإنسانية، ومعادٍ للسامية، ولاعقلاني"!!!، [وبالتأكيد فإن هذا الكلام ظالم مجحف إذا تم إلصاقه بأي مجموعة عرقية أو دينية أو حتى مجموعة صاحبة أيدلوجية محددة، وأستطيع أن أقول أن هذا الكلام العام المطلق والمرسل على عواهله يكون ظالما ومجحفا لو أطلقناه على أمة بربرية همجية في تاريخ البشر مثل المغول مثلا؛ لأن المغول رغم همجيتهم في القرون الوسطى وقسوتهم في القتل والنهب والحرق وسفك الدماء في أثناء اجتياحهم للأمم وللشعوب المجاورة لهم وذلك حتى حدود مصر في عين جالوت، إلا أنهم لم يخلوا كأمة من فوائد وبصمات حضارية ظهرت لدى الحكام من أحفاد جنكيز خان في الهند والصين وأسيا الوسطى والصغرى؛ وخير مثال على ذلك ضريح تاج محل بالهند وهو قمة في الرومانسية سواء من حيث جماله المعماري أو من حيث الهدف الذي بُني من أجله، فهل فَضل حضارة الإسلام -الممتدة لمئات الأعوام بالقرون الوسطى– وأياديها البيضاء على العالم الغربي اليوم أقل قدرا وفضلا على العالم من فضل حضارة المغول على العالم؟!؛ أوجه سؤالي هذا للمفكر الصهيوني برنارد لويس وغيره من المستشرقين الجدد؟! ].
وكمثل على نمطية صورة الإسلام وتعميمها على الشخصية الإسلامية على اختلاف تنوعاتها وخلفياتها الثقافية ومخزون تجاربها، يقول برنارد لويس في مقالته الشهيرة، "جذور الغضب الإسلامي"(5)، وذلك في معرض إجابته عن التساؤل: "لماذا يمقت غالبية المسلمين الغرب، ولماذا لن يكون من السهل التخفيف من مرارتهم تجاهنا؟!".
في نظر غالبية الشعوب (العربية والإسلامية) في الشرق الأوسط، لم تجلب الأنماط الاقتصادية الغربية لهم سوى الفقر، والنظم السياسية الغربية لم تنتج لهم سوى الديكتاتورية، وأما أسلحة الغرب فلم تأتِ بغير الهزائم، لقد عانى المسلم من مراحل متتالية من الهزائم؛ الهزيمة الأولى كانت خسارته لموقع السيادة التاريخي في العالم، وذلك في مواجهة روسيا والغرب، الهزيمة الثانية كانت تحجيم سيادته الوطنية الداخلية عبر اجتياح الأفكار والقوانين وسبل العيش الغربية، وأحياناً إلى درجة تنصيب الحكام الغرباء وتوطين المستعمرين من غير المسلمين على أرضه؛
أما الهزيمة الثالثة، وهي القشة التي قسمت ظهر البعير، فكانت تحدي سيادته على أسرته من خلال تعميم شعارات العولمة وتحرر امرأته أو تثوير أبنائه على أنماط وأساليب حياته التقليدية!!". [هذا جزء من طريقة برنارد لويس في الكتابة؛ وهي الطريقة التي نسميها: "دس السم في العسل"، فجزء معقول من كتاباته واقعي ويحمل وجهات نظر مقبولة ومعقولة، ولا مانع من أنها قد تحتوي على أفكار جديدة رائعة!، وهذا من أجل الحفاظ على قدر كبير من المصداقية في كتاباته، ولكنك كقاريء عربي -على دراية- تجده فجأة ينحرف عن جادة الحق ويبث رسالة من رسائله المسمومة على شكل سطر واحد أو أقل؛ كما سنرى ذلك بوضوح في الأمثلة التالية].
مستقبل الشرق الأوسط
في كتابه "مستقبل الشرق الأوسط"(6) الصادر عام 1997، كتب برنارد لويس نبوءاته عن مستقبل المنطقة ودولها وشعوبها على أعتاب القرن الواحد والعشرين، وقد عرض الكتاب لمجمل الأطروحات الفكرية والسياسية والإستراتيجية التي كانت حينها على قمة أولويات البحث، وازداد الاهتمام بها لتأخذ أبعاداً تطبيقية عالمية بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، ومع انطلاق الحملة الأمريكية في سياق "الحرب على الإرهاب".
لعل أبرز هذه الأطروحات: مقاربته لفكرة "دمج الحرية والإيمان بشكلٍ لا يستثني أحدهما الآخر" كحلٍ لمشاكل الإسلام السياسي؛ وتعمّقه في تحليل مفهوم الجهاد لدى الحركات الأصولية الإسلامية، ومقارنته بجهاد الصليبيين المسيحيين في القرون الوسطى؛ إلى مقاربته مستقبل الصراع بين تلك الأصولية الإسلامية والديمقراطية الليبيرالية، رغم ميل البعض من تلك الحركات، كما في تركيا وإيران والجزائر، للقبول باللعبة الديمقراطية كوسيلة للوصول إلى السلطة ومن ثم العمل للقضاء على العناصر والأفكار "المعادية لشرع الله"، وبعد مقولة تبنّي وتنظيم وانتشار إرهاب الحركات الأصولية، "الإرهاب في موطنها أثناء وجودها في صفوف المعارضة، والإرهاب خارج حدود بلادها عندما تصل إلى السلطة"،يصل لويس أخيراً إلى القضية الأساسية، والمتمركزة حول الصراع العربي الإسرائيلي، في هذا المجال؛
يبيّن لويس أن الحل لن يتأتى إلا عن طريق التغيير الجذري لأنماط التفكير في العالم العربي والإسلامي، ويرى أهمية التغيير ابتداء من قبول واعتناق مبدأ التعاون في حل النزاعات، ونمو الحد الأدنى من بنية الاحتكاك والتواصل بين إسرائيل وجيرانها وصولاً إلى "التأقلم"، بل أبعد من هذا، فقد يتطور التأقلم مع الوقت ليغدو تسامحاً، والتسامح قبولاً، والقبول ثقةً، وقد تتطور الثقة إلى صداقة، [وبالطبع فهذا مثل عشم إبليس –لعنه الله- في دخول الجنة، لا لأن العرب والمسلمين يكرهون اليهود، أو لأنهم يرفضون التعايش السلمي مع الآخر، ولكن لأن الصهاينة أنفسهم بداخل وخارج إسرائيل لا يقبلون غير اليهود الصهاينة "شعب الله المختار"، أما "الجويم" والمقصود بهم نحن العرب من مسلمين ومسيحيين وأي ملة أو نحلة أخرى فهم في نظر الصهاينة اليهود بمنزلة أقل وأدنى من الحيوانات، وهذا ما يُفتي به الكثير من حاخامات الصهاينة في إسرائيل اليوم، وليس أدل على صدق تلك المفاهيم لدى الصهاينة؛ من المذابح المستمرة على مدار الساعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة!!، وأسأل هذا الصهيوني الفاني أين التواصل؟!، وأين التعاون؟!، وأين التأقلم؟!، وأين التسامح من جانب الصهاينة في أراضينا المحتلة؟!].
أزمة الإسلام
(أزمة الإسلام: الحرب المقدّسة والإرهاب المدنـَّس)(7)، هو الكتاب قبل الأخير لبرنارد لويس وقد صدرت طبعته الأولى مطلع عام 2003، أي بالتزامن مع الاحتلال الأميركي للعراق، ويمكن اعتبار هذا الكتاب المتوسط الحجم (190 صفحة) تكملة للكتاب الذي سبقه "أين الخطأ؟"(8).
في مقدمته، يتضمن الكتاب أربع خرائط تاريخية للعالم الإسلامي هي:
(1) عصر الخلفاء: تظهر المد الإسلامي منذ انطلاق الدعوة عام 622 م، وحتى عام 750 م، إبان العصر الأموي؛
(2) الإمبراطورية العثمانية: تتضمن الامتداد الجغرافي للدولة الإسلامية منذ عام 1300 م. وحتى عام 1683 م (تاريخ فشل الجيش العثماني في دخول فينا)؛
(3) عصر الإمبريالية: التقسيمات الاستعمارية لتركة الإمبراطورية العثمانية بين الدول الأوروبية (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا وروسيا)؛
(4) الشرق الأوسط الحديث المقسم والمفتت سياسيا!!.
المصادر
4. Edward Said, “Islam Through Western Eyes,” The Nation, 3 April 1980, available at http://www.thenation.com/doc.mhtml?i=19800426&s=19800426said
5. Bernard Lewis, “The Roots of Muslim Rage,” Policy, Vol. 17, No. 4, Summer 2001-2002; available at http://www.cis.org.au/Policy/summer01-02/polsumm01-3.pdf
6. Bernard Lewis, The Future of the Middle East: Predictions (London, 1997)
7. Bernard Lewis, The Crisis of Islam: Holy War and Unholy Terror (New York: Random House Trade Paperbacks, 2003)
8. Bernard Lewis, What Went Wrong? Western Impact and Middle Eastern Response (Oxford: Oxford University Press, 2002).
ويتبع >>>>>: المؤرخ الصهيوني برنارد لويس: أي تاريخ؟