يــــوم الأرض
يــوم وحــــدة الشعب الفلسطيني
كان يوم 30 آذار/مارس يوماً ككل أيام السنة الأخرى قبل 1976، ولكنه منذ تلك السنة أصبح عيداً وطنياً، وذكرى نضالية تستعد الجماهير للاحتفال بها، ويستعد العدو الصهيوني لمواجهة ما سيحدث فيه. ففي 30 آذار/مارس 1976، اقتحم عرب 1948 ساحة الصدام ضد العدو الصهيوني منتقلين بذلك من الدفاع إلى الهجوم.
فبعد ثمانية وعشرين عاماً من الحياة تحت وطأة الاحتلال الصهيوني، وأحكام حظر التجول والتنقل، وإجراءات القمع والإرهاب والتمييز العنصري والإفقار وعمليات اغتصاب الأراضي وهدم القرى والحرمان من أي فرصة للتعبير أو التنظيم، بعد كل ذلك خرج عرب 1948 في هجوم أذهل الأصدقاء والأعداء، من حيث التوقيت، والمقاومة، والتنظيم والاندفاع الذي اكتسح أمامه كل أوراق الاحتلال في النفوس، والتلاحم الذي قوَّض أوهام الصهاينة في تفتيت وشق صفوف الشعب الفلسطيني، والإقدام الذي تحدى الدبابات والجنود وحظر التجوال، والشهداء الذين سجلوا بدمائهم بدء صفحة جديدة في النضال الفلسطيني.
في تلك الأيام كان العدو الصهيوني يظن أن الحرب القذرة في لبنان ستقضي على الثورة الفلسطينية أو على الأقل ستمنع انتشارها أو اتصالها بالعرب الفلسطينيين في فلسطين المحتلة، وجاء يوم الأرض 30 آذار/مارس 1976، ليُعلن فتح جبهة جديدة ضد العدو، وترفع عالياً علم الثورة الفلسطينية وتكشف للعالم وجه العدو العنصري الصهيوني الذي أراد أن يختفي خلف الحرب الطائفية اللبنانية.
جاء يوم الأرض ليُعلن للجميع، للأصدقاء وللأعداء على السواء، أن معركتنا هي معركة الأرض أولاً وأخيراً، لا نقبل أن تُصادر أو تُنتزع، ولا نقبل أن نُوطن أو نُبعد عنها، ولا نقبل أن تنحرف بنادقنا عن صدور من اغتصبوها منا. فكيف وُلد هذا اليوم، وماذا فعل الأهل يومها؟ وكيف واجه العدو هذه المفاجأة والصدمة؟
ذلك ما تجيب عليه هذه الصفحات التي تصدر تعريفاً موجزاً باليوم العظيم وتحية إجلال وإكبار للذين صنعوه. وإنها لثورة حتى النصر
الجـليـــل:
كان تهويد الجليل ولا يزال، هدفاً من أهداف الحركة الصهيونية وهاجسها منذ بدأ الاحتلال، فقد حدد "بن غوريون" هذا الهدف بقوله: "الاستيطان نفسه هو الذي يُقرر إذا كان علينا أن نُدافع عن الجليل أم لا". وتطابقاً مع السياسة الصهيونية، تجاه الأرض، فقد احتل الكيان الصهيوني عام 1948 أقساماً واسعة من الجليل، وأقام فيها العديد من المستوطنات. وبرر عملية الاستيلاء على الأراضي، بأنها أراضٍ للغائبين، ولكن الاستيلاء لم يقتصر على أراضي الغائبين، وإنما وضع يده على "أملاك" حكومة الانتداب البريطاني، التي "ورثها" بدوره عن الحكم العثماني. وتقدر هذه الأراضي بحوالي 2-3 مليون دونم، لكن الكيان الصهيوني لم يكتفِ بتلك الأراضي، وإنما امتدت يده إلى أراضي العرب الذين بقوا في فلسطين المحتلة.
كان العرب يملكون حتى عام 1948 حوالي 13 مليون دونم من أصل 27 مليون دونم، بينما لم يكن للكيان الصهيوني سوى 1،5 مليون دونم، والباقي أراضٍ مشاع.
بدأ العدو الصهيوني منذ عام 1948 بسرقة الأراضي العربية وأخذ يُصدر القوانين المتعددة الأسماء والأشكال لتكون سرقتها "مبررة وشرعية". فمن قانون الأراضي البور إلى المناطق المغلقة، إلى قانون أملاك الغائبين إلى مناطق الأمن، إلى استملاك الأراضي... إلى إرغام العرب على رهن أراضيهم، حتى تمكنت من تجريد العرب حوالي مليون دونم من أخصب وأطيب أراضيهم. ولم يتوقف الكيان الصهيوني عن استصدار "قوانينه"، وممارسة سياساته، التي تتمشى وفقاً لنظريته القائلة (ما أصبح في يدنا هو لنا، وما يزال في يد العرب هو المطلوب).
وكان آخر القوانين في هذا المجال، هو الذي صدر عن مجلس وزراء الكيان الصهيوني بشأن مصادرة الأراضي بحجة تطوير الجليل، وبعد أن زادت نسبة سكان العرب فيه عن 50%.
كان مشروع "تطوير الجليل" من أخطر ما خططت له حكومة الكيان الصهيوني؛ إذ اشتمل على تشييد ثمانية مدن صناعية في الجليل. كانت إقامة هذه المدن تقتضي استملاك المزيد من الأراضي العربية (التي سيكون لها دور في تطوير الجليل) ذلك أن نظرية الاستيطان والتوسع توصي بأن لا تُقام مظاهر التطوير فوق الأراضي المطورة، وإنما فوق الأراضي البور والمهملة (وهي التسميات التي تُطلق على الأراضي التي يملكها العرب).
في مواجهة ذلك تحرك عرب الجليل، بعد أن أدركوا هدف القرار: ففي 29/07/1975 عُقد اجتماع للتشاور في حيفا، حضره عدد من المبادرين لحملة الاحتجاج على مصادرة الأراضي، وقد ضم هذا الاجتماع عدداً من رؤساء المجالس المحلية، ومحامين، وأطباء، ومثقفين وصحفيين، وأصحاب أراضي، وتقرر في هذا الاجتماع، تأليف لجنة للدفاع عن الأرض سُميت باللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي.
بعد تشكيل هذه اللجنة، دعت إلى اجتماع في الناصرة يوم 15/08/1975، اتخذ عدداً من المقررات، وكان من أبرزها: الدعوة لعقد مؤتمر شعبي للمطالبة بوقف المصادرة، وإصدار نداء إلى الرأي العام لحثه على مقاومة المصادرة. ودعت اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي لاجتماع آخر في الناصرة يوم 06/03/1976 دعت إليه حوالي عشرين رئيساً من رؤساء المجالس المحلية، واتخذ المجتمعون قراراً بإعلان الإضراب العام يوم 30/03/1976 استنكاراً لمصادرة الأراضي.
كان تحديد ذلك اليوم ثمرة تصاعد النضال الوطني في الجليل وبلوغـه مسـتوى كبير من التنظيم؛ فقبل ذلك ومنذ النكبـة كانت مقاومـة عرب 48 قاصرة على الدفاع "السـلبي" بالتمسـك بالأرض، والبقاء عليها، والتكافل فيما بينهم، ورفض محاولات التفرقـة بين صفوفهم وانتظار الظروف المناسـبـة للهجوم، وإعداد الجيل الجديد من أبنائهم لتلك اللحظات.
كان قرار الدعوة إلى إضراب عام لعرب 48، هو أول قرار من نوعه منذ النكبة وبدأت الجماهير تُحضر لذلك اليوم التاريخي، ولم تكن أسلحتهم إلا الحجارة، والعِصي والفؤوس، والمناجل، والسكاكين، وصفائح البنزين المشتعلة، ومحاولة الاستيلاء على أسلحة الجيش، واستجابت كل التجمعات العربية في الجليل للإضراب... رغم محاولات الكيان الصهيوني إفشال هذا اليوم، وبأي ثمن... ففي مساء 29/03/1976 داهمت قوات الشرطة، وحرس الحدود قرية (عرَّابة) وأخذت تستفز المواطنين بالضرب وإطلاق النار، وقد اشتبكت مع الأهالي وسقط نتيجة ذلك أحد المواطنين ويُدعى (خير أحمد ياسين) وكان أول شهداء يوم الأرض.
وفي اليوم الثاني أي يوم 30/03/1976 أعلنت الشرطة أمراً بمنع التجوال لمدة 24 ساعة في قُرى الجليل والمثلث، وتفرقت سيارات الشرطة في القرية وأخذت تُنبه الأهالي، وتُهدد من يُحاول الخروج من منزله، ولكن التهديدات لم تُثنِ المواطنين عن التعبير عن سخطهم وحقدهم، وخرج الشعب إلى الشوارع، واشتبك الجيش مع الأهالي في معركة لم يسبق لها مثيل.
لم تكن هذه المعركة هي الوحيدة في ذلك اليوم، فقد عمّت المظاهرات جميع قُرى ومدن الجليل، واشتبك الشعب مع قوات الشرطة والجيش التي حاولت تفريق المتظاهرين واستعملت في ذلك مختلف الأساليب.
ففي قرية سخنين، زعمت قوات الاحتلال الصهيونية أن الأهالي خرقوا نظام منع التجوال وهاجموا قوات الشرطة التي "اضطرت" بدورها إلى استعمال القوة، وإطلاق النار الذي أدى إلى استشهاد ثلاثة من أهالي القرية هم الشهيدة "خديجة شواهنه"، والشهيد "رجا أبو ريا" والشهيد "خضر خلايلة"، وجُرح أثناء الاشتباك حوالي خمسين شخصاً، واعتُقل حوالي سبعين شخصاً آخرين.
أما في قرية كفر كنا، فقد حاولت الشرطة استفزاز المتظاهرين، بإطلاق النار عليهم، وإلقاء القنابل المسيلة للدموع لتفريقهم، واستعمال الهراوات واقتحام البيوت والاعتداء على النساء والأطفال، واستُشهد شاب يُدعى "محسن طه" وجُرح آخرون، واعتقلت الشرطة عشرات الشبان.
وفي قرية الطيبة، حاولت قوات الشرطة تفريق المتظاهرين بالهراوات والقنابل، وأخذت تُطلق النار على المواطنين بدون تمييز وسقط الشهيد "رأفت علي زهدي" الذي جاء من قرية نور الشمس ليُشارك في الإضراب في قرية الطيبة، وقامت الشرطة بعد ذلك بحملة اعتقالات واسعة. كذلك في الناصرة: فقد شمل الإضراب حوالي 80% من المدينة وانتهزت قوات الاحتلال الصهيونية فرصة الإضراب للاعتداء على رئيس بلديتها، فقامت بمداهمة منزله بحجة ملاحقة بعض الفتيان الذين رجموا قوات الأمن بالحجارة والزجاج وقنابل (المولوتوف) واعتدت بالضرب على زوجته وابنته.
وتدافع الشباب في المدينة على المستشفيات للتبرع بالدم لعشرات الجرحى، الذين نُقلوا من القُرى العربية إثر الاشتباكات. وفي طمرة حوَّلت الشرطة ساحة البلدة إلى ساحة حرب استخدمت فيها المجنزرات والسيارات العسكرية، وقد تعرضت القرية لاعتداءين من قِبل رجال الشرطة، وشوهدت بعض السيارات المحترقة عند مدخل القرية واعتصم عدد من المواطنين في المجلس المحلي احتجاجاً على تصرف رئيس المجلس الذي استدعى الشرطة لتفريق المتظاهرين.
وفي دير حنا استُشهد أحد المواطنين، وأُصيب عدد آخر بجراح وأعلن العدو أن 38 جندياً صهيونياً قد أُصيبوا بجراح، وأن ست سيارات عسكرية قد أُحرقت.
وفي الطيرة حاول رئيس المجلس المحلي طارق عبد الحي تفريق المظاهرة فتصدى له الأهالي، واستدعى رجال الشرطة، التي هُرعت بالمئات وانهالت على المواطنين بالضرب وأطلقت عليهم النار، مما أدى إلى إصابة بعض الشبان، واعتقال حوالي 40 شخصاً.
وفي باقة الغربية، خرج الأهالي إلى شوارع القرية في تظاهرة كبيرة متحدية قوات الشرطة، التي كانت تتجول في شوارع القرية منذ يوم 29/3 والتي قامت بدورها باعتقال عدد من الشبان.
وفي كسرى، تصدى الأهالي لجرافات الاحتلال التي كانت تحميها قوات من الشرطة بهدف مصادرة الأراضي، وقد منعوا الجرافات من دخول القرية، وأقسم الجميع على التمسك بالأرض ومقاومة أية مصادرة جديدة.
وفي كفر قاسم أضربت المتاجر والمدارس وتجمهر حوالي ألف شاب في ساحة المجلس المحلي، وهتفوا هتافات وطنية، ثم ساروا في مسيرة صاخبة إلى الأسلاك الشائكة التي أقامتها إدارة أراضي الكيان الصهيوني حول أراضيهم المصادرة واقتلعوها فاعتقلت الشرطة بعض المواطنين، وفرَّقت المظاهر بالقوة.
وفي قلنسوة وضع المتظاهرون حواجز في الطرق، وأحرقوا إطارات السيارات وكان الإضراب عاماً، وتدخلت قوة من الشرطة وحرس الحدود، لتفريق المظاهرة وإزالة الحواجز. وأضربت قرية الرامة عن بكرة أبيها معلنة سخطها، وتجمعت الجماهير أمام كنيسة الأرثوذكس لتُعلن استنكارها لجرائم القتل الوحشية ومصادرة الأراضي.
وفي نحف داهمت قوات كبيرة من قوات الأمن القرية، وبدأت تضرب البيوت بالقنابل المسيلة للدموع، وتعتدي على المواطنين وقامت بحملة تفتيش واسعة واعتقلت بعض الشباب.
وفي مجد الكروم، وبالرغم من معارضة رئيس المجلس المحلي، سارت تظاهرة كبيرة اخترقت شوارع البلدة، وتوجهت إلى الجامع حيث قرأت الفاتحة على أرواح شهداء الأرض، ثم توجهوا إلى المجلس المحلي وطالبوا باستنكار المذابح الوحشية ومصادرة الأراضي. كما أضربت كل من قرى دير الأسد والبعنة وأبو سنان وكفر ياسيف وشفا عمرو وعبلين وكابول.
وكانت حصيلة يوم الأرض ستة شهداء هم الشهيدة "خديجة شواهنه" والشهيد "رجا أبو ريا" والشهيد "خضر خلايله" من أهالي سخنين، والشهيد "خير أحمد ياسين" من قرية عرَّابة والشهيد "محسن طه" من قرية كفركنا والشهيد "رأفت علي زهدي" من قرية نور شمس واستُشهد في قرية الطيبة.
وبلغ عدد المعتقلين أكثر من 300 شخص وعشرات الجرحى.
النتائج:
وفي أعقاب يوم الأرض رفع رؤساء المجالس المحلية مذكرة إلى (إسحاق رابين) رئيس الحكومة آنذاك ذكروا فيها ان الفوارق بين العرب واليهود لا زالت كما هي رغم طلبات رؤساء المجالس المحلية بإزالة الفوارق وعلى العكس من ذلك زادت مصادرة الأراضي في القرى العربية. وطالبوا بإلغاء القضايا التي رُفعت ضد الذين اشتركوا في يوم الأرض وإعادة المفصولين إلى أعمالهم وتشكيل لجنة تحقيق في حوادث يوم 30 آذار. وذكرت صحيفة "هآرتس" أن أحداث يوم الأرض حوَّلت المواطنين العرب أو بعضهم على الأقل في نظر أنفسهم وفي نظر اليهود والعالم إلى جزء من الشعب الفلسطيني، الموجودين في نزاع وطني مع الغالبية اليهودية.
وهكذا أصبح 30 آذار ذكرى عظيمة في حياة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
اقرأ أيضاً:
يوم الأرض معانٍ معاصرة وذكرى متجددة / عملية السلام العارية!!! / تاريخ الماسـونيـة/ فلسـطين تعريف!!!