إعلام عصرنا، وتحديداً هذا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تميز بانتشار واتساع نطاق البث الفضائي الذي شمل قنوات متنوعة تتكاثر وتتنافس، وبات جهاز «الرسيفر» في البيت، أو حتى المتجر، والصحن اللاقط فوق أي مبنى، بغض النظر عمن يشغل هذا المبنى من حيث المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو العلمي، علامة مشتركة أو من الضروريات لا الكماليات؛ وكذلك انتشار وازدياد مواقع (الإنترنت) الإخبارية، وهي زيادة تناسبت طردياً مع الارتفاع الملحوظ في أعداد مستخدمي شبكة (الإنترنت) عموماً ولخدمات الشبكات الإخبارية الإلكترونية خصوصاً؛ ووجود خدمة إيصال الخبر ونشره من خلال الهاتف النقال "الجوال الإخباري" انطلاقاً من وكالات إخبارية ومحطات فضائية وشركات وشبكات إعلامية مقابل رسوم مالية، وأحيانا مجانا لفترة محدودة على سبيل الترويج والدعاية والإعلان لهذه الخدمة والقائمين عليها.
هذا الإعلام المعاصر طغى على الإعلام التقليدي السابق الذي ساد طوال القرن الماضي؛ من محطات تلفزة أرضية لم تكن أحيانا تُرى بوضوح في بعض مناطق القطر أو الإقليم الذي تبث منه وله، ومحطات إذاعية مختلفة وصُحف ومجلات مطبوعة، وهذا اضطر جميع وسائل الإعلام التي سادت في القرن العشرين إلى التكيَّف أو محاولة اللحاق لمواكبة التقدم الهائل في وسائل الاتصالات و(تكنولوجيا) المعلومات، فشرعت معظم محطات التلفزة الأرضية بإيجاد نسخة فضائية، وقامت الإذاعات المسموعة بإيجاد خدمة بث عبر الشبكة العنكبوتية وحجزت ترددات للمحطات المسموعة عبر الأقمار الصناعية، وبات لكل صحيفة مطبوعة نسخة إلكترونية!
هذا التقدم والتطور يأتي في سياق التغيّر الإنساني لشتى وسائل المعيشة ولجميع أدوات العلم والتعلم ومنها الإعلام، وقد ساهم هذا التطور المتنامي في زيادة أهمية الإعلام وفي دور الإعلاميين والصحفيين، نظراً لأنه لم يعد بالإمكان فرض «جدار حديدي» على عيون المشاهدين وآذان المستمعين رغماً عن كل محاولات الوقوف في وجه هذا الطوفان الإعلامي عبر وسائل تقنية وتشريعات وقوانين ستبوء بالفشل، نظرا للظروف الموضوعية الإنسانية لعصرنا وحياتنا، والإعلام الذي تميّز بسرعته الفائقة في الوصول إلى كل مكان، وخفته عبر نجاحه في اختراق أي جدار!
ولكن هل المحتوى أو المعلومـة التي يُقدمها هذا الإعلام الحديث أو العصري المتطور يتسـم بالبراءة والحياديـة والسـعي المطلق نحو نشـر الحقيقـة!؟ وهل المواد الإخباريـة التي تصل إلى المتلقي تتجنب التضليل!؟
إعلام العصر سلاح ذو حدين؛ وللأسف فإن هذا الإعلام أصبح في جانب منه وسيلة تضليل مبرمجة يقع ضحيتها ملايين المتلقين؛ ولهذا أسباب عدة منها طبيعة القائمين والمُمولين لكل أداة أو وسيلة إعلامية؛ فهم بالتأكيد لديهم ارتباطاتهم (الأيديولوجية) أو العرقية أو القطرية أو الاقتصادية التي تلعب دوراً محورياً في طبيعة ما ينشرون؛ واشتداد المنافسة بين مختلف الوسائل الإعلامية الحديثة يدفع الكثير منها للوقوع في خطأ أو خطيئة التضليل؛ وسبب آخر لا يقل أهمية وهو دور الناقمين والمنزعجين من انهيار فكرة «الجدار الحديدي» المانع للأفكار والمعلومات وعجزهم عن وقف التدفق المستمر للمعلومات، وقد اكتشفوا أن خير وسيلة لمواجهة هذا الخطر هي امتلاك ما يُمكن من وسائل الإعلام الحديثة وتوجيهها وبرمجتها وفق رؤاهم ومعتقداتهم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
التضليل في إعلام عصرنا متعدد الملامح، والخطر في هذا التضليل أنه في أحيان كثيرة يصعُب اكتشافه لأنه تضليل يتفنن في التخفي والتنكر، ومما يُساعد على التضليل تلك المقولة المكررة الثابتة أن عصر الـ (ديجيتال) والـ (إنترنت) والبث الحي والمباشر يُعطي المتلقي فرصة الاختيار ليُميز الغث من السمين، وأن حرية التنقل من محطة فضائية إلى أخرى بضغطة على زر «الريموت كونترول» وحرية التصفح عبر بحار الـ (إنترنت) بضغطة على زر الفأرة (الماوس) أو لوحة المفاتيح (الكيبورد)، وغيرها من التطمينات الواثقة وهي نظرياً صحيحة، ولكن الركون إليها خطأ يزيد في انتشار التضليل، لأن الحالة التنافسية والعرض الإعلامي قد حدد للمتلقي مجموعة أو غَرفة اغترفت له برضاه من بحر المعلومات الموجود أمامه، فبات لكل متلقٍ مجموعة فضائيات وصفحات (ويب) «حازت على الثقة» ويُمكنها أن تقوده حيث تُريد ولو تظاهر أو حاول اتخاذ جانب الحذر والتيقظ؛ فقدرة المتلقي تبقى محدودة ومتواضعـة في مواجهـة الوسـيلـة الإعلاميـة التي يقف خلفها طاقم متخصص وممولون بل باحثون عن أفضل الوسـائل للهيمنـة على طريقـة تفكير ووعي المتلقي، لا سـيما إذا أتقنت الوسـيلـة الإعلاميـة فن اسـتخدام «الماكياج الإعلامي» بحيث تتجنب إثارة النقاط الحسـاسـة التي يحرص المتلقي على حراسـتها وحمايتها، وتنشـط في اسـتثارة وتحفيز مدروسـة وخفيـة ومتأنيـة ومتراكمـة للنقاط غير المحروسـة في وعي المتلقي.
التضليل الإعلامي المعاصر ربما انكشف جزء منه: مثل التضخيم لبعض القوى والشخصيات التي يُقارب وجودها على أرض الواقع الصفر بالمائة، ويُمارس التضليل من خلال القلب المبرمج لأولويات العرض مثل تقديم خبر مهم على الخبر الأهم أو تقديم غير المهم على المهم من حيث النشر والمتابعة والتحليل والتركيز، وتضليل آخر تمثل في التقليل من أهمية وخطورة حدث ما عبر إشغال المتلقي بخطر آخر أقل شأناً...
ولا يقتصر التضليل على الجانب السياسي مثلما قد يوحي سياق الحديث، بل يتعداه إلى شتى جوانب المادة الإعلامية المبثوثة؛ خذ مثلاً مسألة التركيز على مرض أنفلونزا الطيور ونشر حالة من الاستنفار والرعب من هذا المرض، في الوقت الذي يغض الطرف ـنسبياًـ عن مرض السرطان، علماً بأن المرض الأول لم يقتل منذ استنفر العالم لأجل مواجهته، وسخرت أوقات طويلة ومساحات واسعة من الإعلام بشتى أشكاله في هذا الاستنفار، ما يُقارب المائة إنسان! فيما السرطان فتك في عام 2007 بحوالي 7.6 مليونا من الناس!!!
لا يخلو الإعلام المعاصر من التضليل بغض النظر عن النوايا والدوافع وبأساليب متقنة قد لا يكتشفها الكثير من المتلقين، ووجود إعلام غير مضلِل لا يحتاج فقط إلى وجود مخلصين من الإعلاميين مع قدرات ووسائل تقنية، بل هناك أمر أهم من هذا وهو وجود المال الكافي لتمويل إعلام غير مشروط إلا بشرط واحد: البحث عن الحقيقة وإظهارها... فمن لهذا الإعلام؟!
،،،،،،،،،،،
اقرأ أيضاً:
الإعلام العربي يثير الإعجاب مشاركة/ حالة إعجاب بالإعلام العربي/ وهل الضفة الغربية/ بلفور... كم أكرهك وكم أعشق القوة! / عماد مغنية... قدر الأحرار