الهجمة الصهيونية مستمرة على مساحة بيضاء في الخارطة العالمية!
هل يمكن أن تعتمد الحركة الصهيونية العالمية على الحليف الأوروبي بدلاً من الحليف الأمريكي في المستقبل المنظور..؟
وهل يوجد على أرض الواقع الراهن ما يُشير إلى ذلك..؟
وما الذي ينبني على مثل هذا التحوّل بالنسبة إلى مستقبل المنطقة العربية والإسلامية، عبر قضيتها المحورية بفلسطين..؟
صيغة السؤال المطروح بحاجة إلى شيء من التصحيح ليكون دقيقاً، فليس المقصود استبدال حليف بحليف، ولو استطاعت الحركة الصهيونية لعملت على "تطويع" مختلف القوى الدولية لدعم أغراضها، أو على الاستفادة من نقاط الالتقاء المشتركة بينها وبين القوى الدولية جميعاً، لتحقيق أغراضها أولاً.
الصيغة الأصحّ إذن: هل تسعى الصهيونية العالمية، في مواكبة التغيرات الكبرى على خارطة القوى الدولية، أن توجد لنفسها مركز ثقل أكبر من ذي قبل في المنطقة الأوروبية، بما يخدم أغراضها، مع رصد احتمالات ضعف مركز الثقل الأمريكي تخصيصاً..؟ وما الذي ينبني على ذلك مع ملاحظة العنصر الجغرافي بالنسبة إلى قضية فلسطين المركزية المحورية، على امتداد المنطقة العربية والإسلامية..؟
الجواب أصعب من وضع الصيغة الأصح للسؤال، فالسؤال نفسه ينطلق من تفسير بعض الوقائع المشهودة، والجواب ينطلق من "تكهّنات" أو تقديرات مستقبلية. وفي الحالتين يبقى الموضوع المطروح من وراء ذلك رأياً بحاجة إلى دراسات متعمّقة، واستنتاجات تقديرية أقرب إلى إمكانية اختبار صحتها.
ـ أسباب التساؤل ودوافعه
ـ ثغرات في السؤال المطروح
ـ مساحة بيضاء في خارطة ملوّنة
أسباب التساؤل ودوافعه
من الوقائع المشهودة التي تُثير التساؤل:
1 ـ اضمحلال المعطيات الواقعية لنظرية ما سُمّي الزعامة الانفرادية الأمريكية كناية عن الهيمنة الأمريكية عالمياً.
2 ـ معالم صعود أوروبي سياسي وأمني وليس اقتصادياً ومالياً فقط في المرحلة المقبلة.
3 ـ أوروبا هي الأرض التي انطلقت منها الحركة الصهيونية تاريخياً والتي شهدت من الأحداث ما استطاعت الصهيونية العالمية توظيفه لصالحها، وامتدّ هذا التوظيف لاحقاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
4 ـ منذ سقوط الشيوعية والمعسكر الشرقي لم تنقطع المساعي الصهيونية لربط الدول المستقلة عن المعسكر الشيوعي بما سبق أن ارتبطت به الدول الغربية من أسباب تاريخية حول مسألة النازية ومحرقتها ضدّ اليهود.
5 ـ تكثيف الجهود الصهيونية في الآونة الأخيرة على الدول الأوروبية الرئيسية في الاتحاد الأوروبي، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهو ما حقق نتائج مشهودة، ليست سياسات الرئيس الفرنسي الجديد (ساركوزي) سوى جزء منها.
6 ـ الهزائم التي لحقت بالحروب الأمريكية في عهد (بوش) الابن جعلت السياسات الأمريكية موضع الرفض الشعبي والحرج السياسي على مستوى غير مسبوق في المنطقة العربية والإسلامية المستهدفة أكثر من سواها صهيونياً.
7 ـ كثير من النظريات والأطروحات العربية والإسلامية التي لا تريد الخروج من نفق التفكير بضرورة الارتباط بقوى دولية، بدأت تنتشر على أساس اعتماد الارتباط بالقوة الأوروبية الناشئة بديلاً عن القوة الأمريكية المترنّحة.
ثغرات في السؤال المطروح
ما سبق طرحه يتناول ما هو ظاهر للعيان من تبدّلات على المسرح الدولي بمعنى صناعة القرار السياسي والعسكري "الأمني"، ولكنّ خلفية هذه التبدّلات تعطي السؤال صورة أخرى أكثر دقّة في وصف التطوّر الراهن، أهم معالمها:
1 ـ مراكز صناعة القرار في الغرب عموماً، بشقيه الأمريكي والأوروبي، هي مراكز القوى، المالية، والفكرية، والإعلامية، والصناعة العسكرية، وصناعة الطاقة، وهو ما يجري التعبير عنه في الغرب بمقولة إنّ الاقتصاد في عصر العولمة بات يحكم السياسة.
2 ـ مراكز القوى التي تصنع القرار أو تفرضه، وتترك إخراجه للأجهزة السياسية، مع مضاعفة أسباب السيطرة المتعدّدة الأشكال والمتفاوتة المستويات عليها، لا تنحصر في حدود وطنية على مستوى الدول، ولا في حدود إقليمية على مستوى التشكيلات والأجهزة القائمة.
3 ـ لا تزال الدولة الأمريكية هي المقرّ الرئيسي لمراكز القوى تلك، بدءاً بالمصارف المالية والشركات المتعددة الجنسيات، مروراً بالسيطرة النسبية الأكبر على أجهزة عالمية كصندوق النقد الدولي والمصرف المالي ومصانع السلاح لحلف شمال الأطلسي وسواه، انتهاءً بتصدير "الثقافات" الأمريكية ـولا توجد ثقافة أمريكية واحدةـ إلى أنحاء العالم، لاسيما الساحة الغربية الأوروبية منه، اعتماداً على شبكات دور الدراسات، ودور النشر، ووسائل الإعلام الكبرى، والصناعات الفنية.
4 ـ ظاهرة اضمحلال ما سُمّي الزعامة الانفرادية الأمريكية لا تنطلق من ضعف سيطرة الإرادة الأمريكية على صناعة القرار السياسي والأمني عالمياً، قدر ما تنطلق من ظهور المزيد من المنافسة غير الأمريكية في مراكز القوى المذكورة العابرة للحدود.
5 ـ الساحة العالمية لمراكز القوى لم تعد تقتصر على ما يوجد منها في الساحتين الغربيتين، الأمريكية والأوروبية، بل بدأت تشمل مناطق وتجمّعات عالمية أخرى، ما بين جنوب شرق آسيا والأمريكتين الجنوبية والوسطى.
مساحة بيضاء في خارطة ملوّنة
المشكلة في المنطقة العربية والإسلامية المستهدفة صهيونياً، ليست مشكلة كامنة في اللون الأمريكي أو الأوروبي، أو الخليط "المناسب" بينهما، بل هي كامنة في حقيقة أنّ هذه المنطقة ما تزال تُمثّل مساحة "كبرى" بيضاء في الساحة العالمية، وساحة صناعة القرار في مراكز القوى الفعلية في عالمنا المعاصر.
أحد الأسباب الرئيسية والأهم من سواها على هذا الصعيد هو أنّنا لا نجد بين أيدينا مساحة "بيضاء" عربية وإسلامية واحدة فحسب، بل نجد فوق ذلك مساحات متعددة مشرذمة، جميعها ضعيفة، وهنا سيّان، هل تكون بيضاء، أم تصطبغ بلون أمريكي أو أوروبي أو سوى ذلك، فلن تكتسب من خلال ذلك قوّة ذاتية مؤثّرة في صناعة القرار، إقليمياً ولا عالمياً.
بتعبير آخر: لن يكون انتقال مركز الثقل في اعتماد الصهيونية على تحالفاتها عالمياً، من أمريكا إلى أوروبا، أو إيجاد توزان بين هذا وذاك، سبب تغيير جوهري فيما تتعرّض إليه المنطقة العربية والإسلامية المستهدفة صهيونياً، فجلّ ما ستكون الحصيلة عليه هو التعرّض لهجمة صهيو ـ أوروبية بدلاً من صهيو ـ أمريكية، أو هجمة صهيو ـ غربية، مع اتّباع الوسائل ذاتها، ومع تطويرها، سواء حملت عنوان الغزو الثقافي وغير الثقافي في الماضي البعيد (نسبياً) أو حملت عنوان عسكرة الهيمنة في الماضي القريب المستمرّ حتى الآن، أو حملت سوى ذلك من العناوين مستقبلاً!
الكأس المليئة لا يمكن ملؤها بهيمنة أجنبية، والمنطقة العربية والإسلامية كأس فارغة منذ فترة طويلة، ولن تتبدّل أوضاعها من خلال ملئها أمريكياً أو أوروبياً، أو بخليط من هذا وذاك، مثلما لم يكن ممكناً أو مجدياً ملؤها بما صنعته سياسات الارتباطات التبعية ما بين معسكرين غربي وشرقي في حقبة الحرب الباردة.
كذلك لا يمكن تحصين المنطقة العربية والإسلامية من خلال ما شهدته وتشهده من نزاعات لا نهاية لها، ما بين اتجاهات وتيارات وقوى متعادية متصارعة متنازعة، وكل منها يريد أن يُلغي الآخر فيما يُسمّى "معركة صفرية" مستحيلة.
تحصين بلادنا وشعوبنا في مواجهة الجولة القادمة من الهجمة الصهيونية العدوانية، سيان مع من تحالفت دولياً، لا يتحقق دون أن يعتمد على منطلقات مشتركة، صادرة عن مصالح عُليا مشتركة، ومتحركة على أرضية تعددية مشتركة، لتحقيق أهداف بعيدة مشتركة، ولتتكون فيها، اعتماداً على مصادر قوّتها الذاتية، حضارياً وفكرياً، واقتصادياً ومالياً، وزراعياً وصناعياً، وثقافياً وفنياً، لتنشأ مراكز قوى مشتركة فاعلة، يكون لها وجودها المؤثّر على امتداد المنطقة العربية والإسلامية نفسها، ليكون لها وجود مؤثّر في الساحة العالمية.
نقلاً عن موقع مداد القلم بتاريخ 18/04/2008
اقرأ أيضاً:
النكبة الأشـدّ خطراً من نكبـة 05/06/1967م / وعد (بلفور) ومؤتمر (بوش)