هو منطق الأيام.. المنطق الذي يقول إنّ كل ما نعرفه يُصبح وراءنا.. وها هي الأعوام الستون تُغلق دورتها على جُرح النكبة فاردة أمام العين أُطر صورة غريبة مرَّت على اللاجئين المُبعدين عن فلسطين مليئة بالعذاب والألم والكثير من دم الشهادة الذي دفع وما زال يدفع كمهر لعروس اسمها "العودة".. ولأن الأيام مجنونة الخطى، فقد كان طعم الغربة مُراً في الحلوق، قاسياً على النفوس، شديد الوقع على قلوب أجيال تواصلت بين من ولد في فلسطين ومن ولد في المنفى.. ليكون مفهوم التواصل فلسطينياً محدداً بأن ذاكرة الفلسطيني يُفترض ألا تنسى، لأن النسيان يعني ضياع وطن وحق وتاريخ..
لا نُريد هنا أن نقول إنّ الأيام في منطقها المبنيّ على التسارع لا تؤثر بنا ولا تفعل أيّ شيء.. على العكس فقد فعلت الأيام الكثير وزرعت في الصدور ما زرعت، وجعلتنا غارقين غرقاً غير مسبوق في بحر شوق يطرق طرقاً شديداً في ذاتِ كلّ واحدٍ منا.. وتعلمنا الكثير في منطق هذا التسارع، وأول ما تعلمناه الإصرار غير المسبوق على أننا لا يُمكن أن نتنفس بشكل صحيح خارج بلادنا، ولا نستطيع أن نعيش كما يعيش بقية الناس ما دمنا منتزعين من تربتنا المعنونة ببلد اسمه فلسطين..
هذه الأيام الغريبة العجيبة، في منطق تسارعها، وفي منطق دورانها، جعلت الكثيرين يميلون إلى فلسفة العودة حسب أمزجة خاصة رأت أنْ تكون فلسطين محددة في جزء من البلد، ومنهم من اعتبر ذلك "خطوة على الطريق الصحيح، لأن فلسطين المجتزأة الآن ستكون بوابة لكل فلسطين ولكل ذرة من تراب فلسطين"..!!
منطق لا يتفق بأي شكل مع منطق وميزان الحقيقة، لأن فلسطين التي نقبل بها الآن صغيرة مجتزأة مكسورة الأطراف، ستبقى هكذا في منطق العالم وناسه وفي منطق تسارع الأيام، وهنا أُسّ المشكلة وجوهرها.. إذ لا معنى لأن نُفكّر بأن الأوطان تُجزأ، وأنّ التجزيء يقود إلى الكل.. إذ سنكون في دوامة خطيرة مبناها ومعناها أنّ سيئة الذكر "إسرائيل" حقيقة واقعة لا يُمكن الخلاص منها..!! هنا قد يسأل سائل: ماذا نفعل إذن..؟؟!!
منطق الأيام سريعة المرور والزوال أثبت أنّ استعادة الحق منطقياً لا يكون إلا باعترافنا بسيئة الذكر "إسرائيل" ولا شيء آخر.. ستون عاماً مضت وهي ليست قليلة، فماذا فعلنا عربياً وإسلامياً وفلسطينياً..؟؟ لا شيء غير امتداد الغربة والشوق والحنين والوقوف على أطلال زمن مضى..!!
منطق الأيام هنا يقول إنّ المقاييس عند الحديث عن الأوطان تكون بالنسبة للشعوب لا الأفراد.. ستون عاماً في عمر الشعوب تبقى محفزة على حقنا كله دون أي اجتزاء.. بينما ينكسر ذلك ويغيب في منطق الأفراد، لأن عمر الفرد محددٌ بينما عمر الشعوب غير محدد.. عمر الفرد يُقاس بيوم وسنة، وعمر الشعوب يُقاس بمئات وآلاف السنين.. والشعب الحيّ لا يقبل أن يُنتزع منه حقه أو جزء من هذا الحق.. بل هو يُصرّ ويكتب في تاريخه أنّ الوطن ذاكرة جمعية.. ولا يحق لأي فرد العبث بهذه الذاكرة وتشويه ملامحها ومخزونها.. أي فرد يقود الذاكرة كلها إلى مجرى مغاير لمخزونها سيقع بعد حين في مطاردة هذه الذاكرة له ونفيه من مفهومها الصحيح القائل بوحدة الوطن واستعادة الحق والتشبث بالجذور..
قد يحدث هذا أو ذاك في فترة مسروقة من الزمن.. وقد يظن البعض أنّ الأمور انتهت إلى حيث وصلنا.. لكن منطق الأيام المرتبط بالذاكرة الشعبية سيُغير كل شيء، ويُعيد الأمور إلى نِصابها.. منطق الذاكرة الشعبية سيغلب منطق الأفراد.. ومثل هذه المعادلة لا تحتاج إلى براهين كثيرة، لأنها معادلة الحق والحقيقة..
اقرأ أيضاً:
جرح غزة المفتوح!!! / أنقذوا غزة / لا سـلام صدقوني!! / الفلسطينيّ أين؟؟!! / شجرة الدار