ضجيج... وفحيح.. وازدحام في الفراغ.. وثعابين تتلوى في حفلات الرقص الفانتازي، وليس من غائب في هذا الكرنفال سوى الشعب، الذي تغيبه سدنة السياسة الفلسطينية والنظم العربية.
والسؤال لإيجاز الحالة الفلسطينية الراهنة، رغم استنكاري لكرنفال ما يسمى انتخابات الرئاسة، أو غير ذلك في ظل الاحتلال أو ظروف القضية والمسارات التي تمر بها.
ألا يمكن أن يتفق الفلسطينيون على مرشح دون تدخل الكوتة الفلسطينية المتآكلة، وتكون أكثر قبولا لدى الشارع ولدى الفعاليلات الشعبية والثقافية والسياسية؟ وأنه لا يمكن أن يكون إلا من الحزب أو التنظيم الأقوى والأدسم مالا والوسع صيتا..؟
أم أن العقل السياسي الفلسطيني ما زال يقف عند حدود الفاكهاني ولم يغادره بسلوكه رغم مغادرته له في الزمان والمكان، ورغم التحولات والتطورات التي طرأت على الحالة الفلسطينية والعربية والعالمية. ولكنه ما زال محكوما بمصالح وامتيازات الفصيل والتنظيم، حتى التحالفات الفلسطينية فإنها ما زالت على ذات الضفاف البيروتية والمملكة الفاكهانية، أي في بناء تحالفات تغذي امتيازات ومصالح قيادات هذا التنظيم وذاك الفصيل، ما زالت تحالفات مصلحية تحكمها عقلية القبيلة السياسية، مصالح التنظيم ما زالت فوق مصلحة القضية والشعب والوطن.
كثيرا ما نسمع عن انتقادات جانبية من فصيل أو من مثقف، أو كاتب أو صحفي، ويتحدث كل منهم عن مساوئ الاحتكار السياسي، وعن الفلتان والزعرنة، وعن الالتفافات والتآمر والعلاقات المشبوهة، ولكنه عند (الحزة واللزة) كما يقول المثل، لا نسمع منه غير كيل المدائح السلطانية، وتصمت الأكثرية، إلا من غضب الله عليهم برفضهم لكل التسويات مع عدو لا يفهم غير لغة الإبادة والإحلال والتحلل، وذلك تحت شعار عدم نشر الغسيل الوسخ، حتى لو ضاعت فلسطين.
وفي الجانب الأخر دائما ما تكون عينهم على تأثيرات صندوق (النقد) الفلسطيني (الصندوق القومي الفلسطيني) والعين الأخرى على المكاسب السياسية التي توفر له الامتيازات الأخرى، من مقعد هنا وموقعهناك...
باختصار... إن العقل السياسي الفلسطيني ما زال محكوما بمفهوم ونهج (الكوته) الفلسطينية.ذلك المفهوم الذي كان وما زال مسيطرا على العقل الفلسطيني، فما زالت فتح تريد النصف زائد واحد (عنزة ولو طارت)، غير أبهين بكل التحولات التي طرأت على الساحة الفلسطينية، وقدرة بعض الفصائل على تجاوز حالة فتح، كما حماس والجهاد، وكذلك انعدام رؤية بعض الفصائل الأخرى إلا بالميكروسكوب، (الفصائل الميكروسكوبية أو المجهرية)، أو تحول البعض الأخر إلى حالة إعلامية فحسب، حتى أنهم يدفعون لبعض الإعلاميين وبعض الفضائيات للقاء مع أمين عام هنا أو كادر هناك، أو تصريح أو ما شابه ذلك.. والكل يهدد أو يصيح أو يخشى من أي حالة قادمة، وكان يحصل وما زال أيضا تحت شعار (المسكينة) الوحدة الوطنية.
وأمام الحالة الفلسطينية الراهنة، واللعب المفضوح فيما يخص الأخ مروان البرغوثي، وتهديدات عباس زكي بفصله ومحاولة الطيب عبد الرحيم بالتشكيك به وانسحاب أو رفض حماس والجهاد والشعبية كبرى الفصائل الفلسطينية الفاعلة في مواجهة العدو الصهيوني إلى جانب كتائب الأقصى من أية علاقة لها بانتخابات الرئاسة الفلسطينية أو الترشيح لها، فان الحالة تتحول إلى شكل فانتازي أكثر من كونه عملية انتقال للسلطة عبر صناديق الاقتراع واللعبة الديمقراطية.
وذلك للأسباب التالية:
أولا: أية انتخابات تتم تحت حراب الاحتلال هي انتخابات غير شرعية. تماما كما يجري في العراق هذه الأيام.
ثانيا: غياب أكبر الفصائل الفلسطينية والمؤثرة بالساحة على المستويين الشعبي والكفاحي، عن المشاركة، هو بحد ذاته إبطال للشرعية الانتخابية، وتعتبر انتخابات غير شعبية بقدر ما هي انتخابات فرض رؤية لحزب السلطة ومواليها من بعض الفصائل الميكروسكوبية.
ثالثا: إن مرشح فتح (محمود عباس) هو المرشح الأكثر تفويضا من العدو الصهيوني، والولايات المتحدة الأمريكية، والقوى الاستسلامية في الساحة الفلسطينية من كونه مرشح الشعب والحائز على ثقة الشعب. فان السيد عباس كان قد أعلن عن توجهاته منذ توليه رئاسة الوزراء فيما سبق، وموقفه من الانتفاضة وما أطلق عليه من عسكرة الانتفاضة، فأسقطه الشعب، حتى السيد عرفات رغم كل مواقفه لم يكن راضيا عن توجهات عباس فساعد على إسقاطه، بينما يعود اليوم ليحل محل عرفات على السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكأن من رشحه يريد إنهاء كل ما تبقى في وعد القضية الفلسطينية. واليوم وما أن أخذ التفويض من الحزب الذي ينتمي إليه حتى كان أول خطواته وتصريحاته هو الاستجابة لاشتراطات العدو الصهيوني في وقف ما يسمى التحريض من قبل الإذاعة والتلفزيون الفلسطيني. وقد لاقى ذلك الأمر استهجانا من قبل الصحفيين الفلسطينيين بالداخل وكذلك من جموع الشعب الفلسطيني.
رابعا: أن تجربة الأحزاب العربية والفلسطينية جزء منها، أثبتت فشلها في مقدرتها على التعبير عن الحالة الشعبية، وتشهد غزة والفلتان الأمني والقتل والعصابات والفساد وغياب السلطة حتى أثناء وجود عرفات خلال السنوات الأخيرة. ولذلك فإنها انتخابات القوى الفلسطينية المشاركة في هذه المهزلة، وليست ديمقراطية ولا هي نابعة من إرادة الشعب.
خامسا: وفي هذا السياق تطرح هذه الانتخابات مسألة الشرعية، هل هي شرعية التسويات التي أثبتت فشلها وشرعية الاستسلام وما يتبعها من مصطلحات مغلفة بما تسمى اليوم الواقعية.. أم هي شرعية المقاومة لعدو لم يحترم عهدا ولا ميثاقا ولا حتى أدنى الاتفاقات، بما فيها ما يسمى بخارطة الطريق ، بل كان وما زال يمعن بالقتل والتدمير والاغتيال والإبادة وهدم البيوت وتجريف الأراضي كلما قدم الطرف الفلسطيني تنازلا جديدا، ومرحلة شارون ومن قبله نتنياهو وغيرهم أثبتت للجميع فشل وبطلان هذا النهج الاستسلامي الارتهاني.
سادسا: من الأجدر بهذه القيادة التي قادت المقاومة من فشل إلى فشل من أيلول وتجربة الأردن إلى بيروت وتجربة لبنان إلى تجربة المنافي من تونس إلى..... إلى تجربة سلطة الحكم الذاتي المحدود جدا، إلى تجربتها الراهنة التي لم تستطع فك نفسها من رهن الاعتقال لما يزيد عن ثلاث سنوات في مقاطعة لا تزيد عن بعض الكيلو مترات المربعة، بمن فيهم أولئك الأمناء العامون الذين فرضوا أنفسهم على فصائلهم وعلى الشعب لأكثر من زمن أي رئيس عربي في سلطة عربية ما.
من الأجدر لهؤلاء ترك القيادة لجيل الشباب، ولجيل يقاوم وقادر على الاستمرار بالمقاومة، ومنها وبها يرفض الاعتراف، جيل لم يذق طعم الهزائم التي جرعتنا إياها هذه القيادات رغم كل الذرائع والمسوغات التي تسوقها لتبرير فشلها وعدم قدرتها.
وهناك ما هو أكثر فظاعة من كل ما ذكرنا، وهو وجود أكثر من شعب فلسطيني، أو أن هناك فلسطيني مواطن من درجة (أ) وفلسطيني من درجة (ب) ، ففلسطيني الداخل من حقه أن يرشح نفسه وينتخب وله حق المواطنة الأولى، وأما فلسطينيي الخارج فليس من حقهم الترشيح أو حتى الانتخاب، فهؤلاء في عرف السلطة والأحزاب الموالية ليس إلا حفنة من اللاجئين (البدون) كما (بدون الكويت).ولم يقف الأمر عند هذه الحدود بل تجرأ البعض ممن هم من أطراف السلطة على المساومة عليهم وعلى حقوقهم الشرعية والتاريخية كما فعل ياسر عبد ربه وبعض المستوزرين الآخرين في كوبنهاجن وما تلا ذلك في عمان وغيرها. فهؤلاء ورقة المساومة الأخيرة للحصول على فتات سلطة هزيلة منزوعة السيادة وحتى ورقة التوت.فمتى يستفيق عقل القيادة الفلسطينية التي ننوء بحملها إلى واقع الحال الفلسطيني والمتغيرات التي طرأت على الوضع العام فلسطينيا وعربيا ودوليا