"أنت تنظر إلى الأشياء كما هي وتسأل نفسك لماذا؟ أما أنا فأحلم بالأشياء التي لم تكن موجودة يوما وأقول ولماذا لا؟" جورج برنارد شو
قرأت خبراً في جريدة في التسعينات عندما كنت شابا ولا زلت، ولحسن الحظ أنني وبعد مرور هذه السنوات العجاف في الفعل السياسي الفلسطيني لا زالت لدي المقدرة على فتح مخزون الذاكرة لألتقط ما يضيء لي بعضاً من معالم الطريق. يقول الخبر: أن نساء قرية بريطانية، لا يتخيل أحدكم أنها قرية مثل قرانا، أجمعن على عدم طهي السمك، ليس لعدم حبهن للسمك أو أن السمك غير مفيد للصحة بل لأن سعر السمك قد ارتفع دون مبرر. كسد السمك وتوقفت حركة بيعه في القرية وكان لامتناع نساء القرية عن الشراء أثر قوي في الضغط على باعة السمك مما أجبرهم على تخفيض السعر ليس إلى السعر السابق بل إلى أقل منه.
والمرأة الفلسطينية التي أثبتت أنها على قدر كبير من تحمل المسؤولية عندما قامت بتشجيع أبنائها على خوض النضال المسلح هل غاب عن بالها أنها تستطيع أن تربك صناع القرار السياسي الأمريكي والإسرائيلي إذا ما اقتنعت وأقنعت زوجها وابنها بعدم المشاركة في مهزلة التصويت بخوض إنتخابات الرئاسة الفلسطينية فهي تستطيع أن تضع زوجها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما صقيع الانتخابات أو دفء البيت.
ولقد أجمع مرشحوا الرئاسة الفلسطينية، والبركة فيهم، على أن أول بند في مشروعهم الإنتخابي هو "إنهاء الاحتلال" وكأنهم يدركون بوحي باطني أن البنود الأخرى يسهل انجازها إذا ما حققوا هذا البند. هل هؤلاء صادقون في هذا الطرح؟ أم هي العادة السياسية المستهبلة في تدبيج وصف كلمات (التكرار مقصود) ترضي الناخب الفلسطيني وهم يعون في قرارة أنفسهم أنهم لن يستطيعوا إنهاء الاحتلال بل إن الاحتلال سينهيهم. مرشحو الرئاسة الفلسطينية ينتهجون السلوك الإعلامي المحلى بالسم والذي يبتعد عن طرح الحقائق المرة ليبتعد المواطن عن مواطن الإدراك. لماذا؟؟
من المعروف أن قدرة الدولة على شن حرب يتوقف على توفر الإرادة المعتمدة على القوة الصناعية وتماسك الجبهة الداخلية والقدرة التموينية وقوة توفر المعلومات التي تتيح الخيارات واتخاذ القرارات وتوفر السلاح مما يعطي المفاوض القدرة على فرض الشروط بعد انتهاء الحرب. وبما أن السلطة الفلسطينية لا يتوفر لديها أي شرط من هذه الشروط لخوض حرب ضد إسرائيل غير توفر الإرادة في المشاركة في الصفقات السياسية حسب الرؤية الإسرائيلية فإن الرئيس المنتخب والمنتَحَب عليه سوف لن يفي بتحقيق بند "إنهاء الإحتلال".
أم ترى أن شارون قابع الآن في مكمنه ينتظر مرتجفا مما سوف تنجم عنه إنتخابات الرئاسة الفلسطينية؟ وأنه بانتظار أن يوجه مرسوم رئاسي فلسطيني له بالانسحاب حتى ينسحب؟ أم أن الانتخابات تجري دون علمه وموافقته؟ أم لعل الاحتلال الإسرائيلي قام على أساس تعاقدي مع الشعب الفلسطيني، وأن الرئيس الفلسطيني المنتخب سوف لن يجدد عقد خدمات الاحتلال؟ أم ترى أن الرئيس الفلسطيني القادم سيلقي صك الحرمان على شارون فيزحف شارون على قدميه من القدس إلى مَرْمَس عرفات في رام الله طالبا الصفح والغفران عن طول بقاء إسرائيل دولة احتلال للضفة وقطاع غزة؟ إن انتخابات الرئاسة الفلسطينية ليست إلا مجرد فترة سماح لكي يتمتع بها الشعب الفلسطيني بحرية الثرثرة السياسية!
سوف يطرح السؤال الذكي التالي:"ما الذي سنكسبه من عدم التصويت؟"الجواب الأذكى منه هو "ما الذي سنكسبه من المشاركة في التصويت؟" أليست المشاركة تعني شرعنة الاحتلال وأن الرئيس المنتخب سيقوم بحراسة أمن إسرائيل وأن أول ما سيقوم به هو افتتاح ومباركة المشاريع الاستيطانية الجديدة والتي بان أول إرهاصاتها في النية الإسرائيلية في مد خط سكة حديد يقسم الضفة الغربية إلى نصفين فينسينا الجدار العازل، فنحوقل.
أم سيشعر المواطن الفلسطيني بالانتشاء ويحمد الذي لا يحمد على مكروه سواه بأنه يعيش في ظل احتلال ديمقراطي جلب رئيس ثورته من الخارج وسمح بإجراء انتخابات خليفة له. شعب محسود.
لقلب كافة الطاولات والأوراق وجعل إسرائيل تقوم على حماية أمنها وتتحمل مسئولية الحياة البائسة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في آن واحد جراء احتلال أرضنا بعدم رضانا بأن نجعل إسرائيل "تتعبطنا" بعدم رضاها .
طالما أنه سوف لن يكون سلام وإنما تسويات تُفرض على الشعب الفلسطيني بمشاركة من رئيس الدولة الفلسطيني المنتخب فإسرائيل تلقي بمشكلتها (احتلالها لأرضنا) في وجهنا ونقوم نحن بمعالجة مشكلة إسرائيل نيابة عنها باعتبارها مشكلتنا.
إن هذا الشبه إلى حد قريب وبعيد بمثابة رشقنا بقطعة بطاطا ساخنة أثناء الشواء. فما هي صور البطاطا الساخنة التي تسعى إسرائيل إلى إلقائها في وجوهنا بين الفنية والأخرى؟ وهي تقول لنا احلموا بالدولة الفلسطينية لكن بعيدا عنها. إن احتلال الأرض مشكلة إسرائيل والداعم لها هو أمريكا وليست مشكلة الشعب الفلسطيني.
فلماذا نسيء تشخيص المشكلة ونتقبلها على أنها مشكلتنا؟ يجب أن يكون رد فعلنا مماثلا تماما لرد فعل إسرائيل التي تلقي بمشاكلها على عواتقنا بأن نرشقها بنفس قطعة البطاطا الساخنة ونجعلها "تتعبطنا". وهذا هو خيار الصفر الفلسطيني. تذكروا إن الاستثناء المعارض دائما هو الذي يصنع الحدث.
طيب الخير لكم
اقرأ أيضاً:
أريحا وسلطة العجز الكامل/ السيرك الفلسطيني