أنهكني هذا اليوم، لقد كان طويلا جد، ولكن هنا في الجنة لا يوجد نهار وليل، إذا علي أن لا أنتظر الليل لأنام وأرتاح، بل سآخذ قسطا من الراحة الآن.
توجهت إلى قصري، ولكن.. أين قصري؟؟ أنا لم أره بعد، منذ أن قدمت إلى هنا وأنا أحدّث الناس وأتعرف أخبارهم، ولم أر قصري بعد، يا للمفارقة الغريبة!!
حسن، سأسأل "الاستعلامات"! لا بد أن يكون هناك استعلامات أو طريقة ما أعرف بها أين قصري، إذ ليس من المعقول أن أدخل الجنة وأنا لا قصر لي فيه، هل سأنام في قاع النهر أم على أغصان الأشجار؟؟!! لا بد أن يكون لي قصر!!
وتوجهت صوب باب الجنة، ورأيت منصة كبيرة يقف خلفها مجموعة من الشباب والفتيات لم أر مثلهم في الحسن والبهاء، مبتسمون، ينظرون إلى الناس بمودّة ظاهرة.. بل وبحنان غامر!! تقدمت نحوهم، فبادرتني إحدى الفتيات قائلة: هل من خدمة أقدمها لك؟؟
- نعم، شكرا لك.. أريد أن أعرف أين قصري، فقد تعبت وأريد أن أرتاح
ضحكت لهذا السؤال، وضحكت أنا أيضا عجبا من قدراتها الخارقة.. لو أنني مكانه، لاحتجت إلى خمس سنوات من الدراسة المتواصلة لأستطيع استظهار أسماء كل أهل الجنة، ناهيك عن قصص حياتهم!!
يبدو أنه مركز الانطلاق الموحد لكافة أرجاء الجنة، يا لهذه المركبات البديعة، لقد كنت أتمنى –عندما كنت في الدنيا– أن أتعلم قيادة السيارة لأقتني واحدة من نوعية الليموزين الفارهة، لقد كنت أحبها كثيرا.. ولكن، الآن زهدت فيها تماما!!
وفعل، هذا ما كان، تحركت السيارة، وحدها بكل هدوء وانسيابية وأخذت بحركتها تهفهف علينا نسمات شذية عطرية، ثم تمهلت قليلا إلى أن توقفت تماما
ضحكت الفتاة لكلماتي، ثم ودعتني وعادت أدراجها إلى عملها. التفتّ صوب قصري لأدخله، لم أكن قد انتبهت له بعد، فقد أخذت السيارة كل اهتمامي. ما إن تقدمت من الباب المغلق حتى انفتح على مصراعيه ودوّى نشيد رائع بأصوات تخلب اللب عذوبة ورقة وجمالا.. لقد اصطف كل خدم القصر من الحور والولدان صفين على جانبي الممر المؤدي إلى القصر، فتلك البوابة لم تكن إلا بوابة الحديقة: حديقة القصر..
أخذت أتهادى بين صفوف المنشدين وكلماتهم البديعة تطربني أيّما طرب.. أحسست برغبة عارمة في ضمّهم وتقبيلهم، وتذكرت أطفالي وزوجي، ليتهم كانوا معي الآن.. ولكن إنّ غداً لناظره قريب..
وصلت إلى باب القصر، باب كبير لم أر مثل روعته وجماله، رأيت الكثير من فنون العمارة والتزيين والديكور في الدنيا و ولكنها بدت لي كخربشات الأطفال أمام عظمة وروعة ما أراه.. لا عجب إنه صنع الله الذي أحسن كل شيء.. قلت في نفسي: سبحان الله، دخلت إلى الردهة الكبيرة، وأخذت أتجول بين أرجاء هذا القصر الواسعة، أين أنت يا ماري أنطوانيت مما أنا فيه الآن، آه لو علمت ما في الجنة لما قتلت شعبك جوعاً بغرورك ولهوك.. ولما أعجبتك كل زينة الدنيا التي ضيعت بلادك من أجلها..
ها قد وصلت أخيرا إلى غرفتي، استقبلتني ثلاثة من الحور، وأخذن يمازحنني ويضحكنني بعذب حديثهن.. ما أجملهن.. وما أرق طباعهن.. تباركت يا ربي يا أحسن الخالقين، تمنيت أن أكون مثلهن بهاء وحسنا ورقة، ولكن لا.. الحمد لله على ما أعطاني.. أنا راضية بنصيبي الذي قسمه الله لي.. أما يكفي أنه قد سهّل لي طريق هذا القصر المشيد؟؟
بدّلت ثيابي، وارتديت ثياب النوم المريحة.. وأردت أن أمشّط شعري قبل أن آوي إلى سريري لأرتاح فيه.. ولكن ما هذا؟؟ من هذه التي في المرآة؟؟
أنا!! ولكن ماذا جرى لي..؟؟ لم أكن يوما بهذا البهاء والحسن، هل أجروا لي عمليات تجميل قبل أن يدخلوني الجنة؟؟
- كيف بمن حلّ عليه رضوان الله تعالى يا حبيبتي يا ريم.. التفت إلى مصدر الصوت فإذا بها إحدى الحوريات.. يا إلهي.. الكل هنا يعرف بماذا أفكر، وليست المركبة فقط!!
ثم توجهت إلى سريري لأستلقي فيه، يا لأغطيته الجميلة الفاخرة، ما هذا؟؟
أخذتني ذاكرتي بعيدا إلى أيام الدنيا.. ورحت أتذكر أيام الشقاء والكفاح والعذاب، لكم تعذّبنا ولكم تألمنا ولكنني لا أجد لهذا الألم أي طعم الآن بعد ما رأيته من نعيم ومن وجوه نضرة.. وبعدما أحسسته من هناء واطمئنان لرضوان ربي عني.. حقا ليس بعد النعيم من شقاء..
كم رأينا قتلا وتنكيل، كم رأينا أشلاء ودماء.. كم رأينا هدماً وتشريدا.. أين كل هذا الآن!! بل إنني لشدّة ما رأيت من حفاوة ونعيم، أشعر أن ما قدّمته قليل فعلا.. آآآآآآآآآآآه يا ربي ما أكرمك.. ترى ماذا يفعل الناس في الجنة الآن؟؟ هل يشعرون بما أشعر به أيضا؟؟
وما إن تساءلت هذا السؤال حتى انفتحت أمامي شاشة كبيرة فيها عدّة شاشات صغيرة تصوّر كلٌ منها الجنة من زاوية مختلفة، فهذه مجموعة من الناس يتجوّلون في أرجائها المختلفة ويلعبون ويمرحون.. وهذه مجموعة أخرى من الشبان يجلسون تحت ظل شجرة كبيرة لا تستطيع حدود الشاشة الصغيرة أن تحيط بها.. وهاتان فتاتان واقفتان على الجسر الماسيّ تتسامران..
وهذا شاب يتجوّل وحيدا قرب نهر العسل، لماذا هو وحيد؟ ليس من عادة الملائكة أن تترك أحدا وحيدا هكذا، لكن.. يبدو أنه هو من أراد البقاء وحيدا.. وسرعان ما صعد شجرة تفّاح كبيرة ليستقر فوق غصنها الضخم، أسند ظهره إلى جذع الشجرة وحلّق بخياله بعيداً.. بعيداً.. تُرى هل يفكر بما عاشه في الدنيا، وما يراه اليوم ها هنا؟؟ ولكن..
يبدو لي أنني أعرف هذا الرجل حق المعرفة، آآه.. أظنه ذاك الذي أقام الصهاينة ولم يقعدهم، نعم نعم.. إنه المهندس: يحيى عياش مخترع القنابل والسيارات المفخخة!! آه أيها المهندس، ها قد وجدتك هنا معي في هذا النعيم.. قفزت من سريري الجميل، وأسرعت بارتداء ثيابي، بل إنني لم أسمح حتى لوصيفاتي أن يساعدنني في ارتدائها.. وخرجت مسرعة من قصري، تذكرت أمر السيارة العجيبة، فركبتها.. وإذا بها تنطلق بي بسرعة البرق لتستقر أمام الشجرة التي يجلس عليها المهندس.. رفعت رأسي فوجدته جالسا على الغصن، ولا يظهر منه شيء، يا لضخامة هذا الغصن..
- نعم يا ريم، لا تكاد تمرّ ساعة دون أن ننبهر بشيء جديد خلقه الله وأعدّه لنا بيديه الكريمتين..
أضحكني كلامه كثير، وتذكرت قول الله تعالى: "وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (آل عمران:54)
وبقيت أؤدي هذه المهمة إلى أن فجّر "باروخ جولدشتاين" رصاصاته في رؤوس الساجدين في الحرم الإبراهيمي في رمضان عام 1994م، عندها بدأتُ ردودي على هذه المجزرة، وقد آلمت اليهود كثير، فبعد أربعين يوماً فقط من هذه المجزرة توجه "رائد زكارنة" (عكاشة الاستشهاديين) بحقيبة من حقائبي في مدينة العفولة؛ ليفجّرها ويمزق معه ثمانية من الصهاينة ويصيب العشرات.
وبعد أسبوع تقريبًا فجَّر "عمار العمارنة" نفسه؛ لتسقط خمس جثث أخرى من القتلة. وبعد أقل من شهر عجَّل جيش الاحتلال الانسحاب من غزة، ولكن في 19-10-94 انطلق الشهيد "صالح نزال" إلى شارع ديزنغوف في وسط تل أبيب ليحمل حقيبة أخرى من حقائبي ويفجرها ويقتل معه اثنين وعشرين صهيونيًّا. وتوالت صفوف الاستشهاديين لتبلغ خسائر العدو في ما أطلقوا عليه اسم "عمليات المهندس عياش" في تلك الفترة 76 صهيونيًّا، و400 جريح.
طبعا توكُّلي على الله تعالى لم يمنعني من اتخاذ أسباب الحيطة والحذر، وللحق.. فقد كانت سنوات لمطاردة تلك عصيبة حق، ولكنني بعون الله استطعت أن أفلت منهم..
كانت هي أيضاً تحيا حياة مليئة بالقلق، فهي أيضاً مستهدفة من العدو الصهيوني، إذ أنهم لا يتورعون عن اعتقال النساء ليستخدموهن كوسائل ضغط على أقاربهم المطلوبين من الرجال.. فكانت تتنقل كثيراً من بيت لآخر، ولا تمكث في بيت واحد أكثر من أسبوع، وتنام والقنابل اليدوية فوق رأسها، وسلاحها بجوارها، وخاصة أنها كانت تتقن استخدامه وتتقن كيفية تحديد الهدف؛ لقد كانت حياتها معرضة للخطر في كل لحظة، ولكنها ما تذمّرت يوماً ولا اشتكت، جزاها الله كل خير عني وعن الإسلام وعن فلسطين كلها..
- نعم الزوجة والله، لقد صدق الحبيب المصطفى حين قال: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة".. ولكن، إذا كنت أنت وزوجتك وأهلك قد اتخذتم كل التدابير اللازمة في الحيطة والحذر والتخفي، فكيف وقعت في أيديهم أخيرا؟
وأمّا الصحف العبرية فقد كتبت عن مواصفاتي، ونشرت عدة صور مختلفة لي لتحذر الشعب الصهيوني مني تحت عنوان رئيسي "اعرف عدوك رقم 1.. يحيى عيَّاش".
نعم يا ريم، العمالة والخيانة والغدر هي السبب في وقوعي وتمكّنهم مني، بعد أن عجزت كل أجهزتهم ووسائلهم وأعقد تكنولوجياتهم عن تطويقي.. العمالة والغدر ليس لها عند الله إلا مصير واحد، وهو نفس المصير الذي لاقاه أول الغادرون في الإسلام: بنو قريظة.. لا أحسبك تجهلين حكم الله فيهم؟
- كيف أجهله، لقد كان حكما قاسي، ولكن ما كان يصلح أقل منه ليتناسب مع فداحة الجريمة التي ارتكبوها..
احك لي عن عملية اغتيالك، وعن آخر لحظاتك في الدنيا..
- كانت عملية وضيعة جد، لقد استغلوا رغبة الابن في أن يسمع صوت أبيه، ورغبة الأب في أن يطمئن على ابنه، فلغّموا جهاز الهاتف النقّال الذي كنت أتكلم فيه، وما إن بدأت حديثي مع والدي في الميعاد المحدد وهو صباح يوم الجمعة من الخامس من يناير 1996م حتى انفجرت العبوة الناسفة لتفجر رأسي معها.. فتنقلني من التعب والنصب إلى الراحة والهناء، لقد أراد الله لي أن أرتاح بعد طول عناء.. ولكنني كنت أريد تقديم المزيد والمزيد لله تعالى، فكل ما أبغيه هو أن يرضى الله عني وأن ألقاه وهو يضحك إلي، ووالله وبعد أن رأيت الجنة وما فيها من نعيم وإكرام ازددت قناعة بقلّة وتواضع ما قدّمته من مهر له، صحيح أن هذا المهر مختوم بأجزاء من مخّي الذي تناثر في الانفجار، ومصبوغ بدمي الذي أريق يوم اغتيالي، إلا أنه قليل، قليل جدا.. والله لوددت أن لي بعدد شعر جسدي أدمغة تنفجر الواحد تلو الآخر في سبيل الله، لما رأيت من حلاوة الشهادة..
- نعم، يا أخي المهندس، والله هذه رغبتي أنا أيضا، بل ورغبة كل من رأيته في الجنة حتى الآن.. ولكنها إرادة الله اللطيف الخبير، لقد كتب أنه من خرج من الدنيا فإنه لا يعود إليها أبداً.. آآآه.. هذه هي مسرحية الدنيا، تتكرر فصولها دائم، ما يختلف فقط هو الأبطال، فمرة أنت، ومرة أنا والله أعلم من سكون في المرة القادمة..
اقرأ أيضاً: