من أغرب مفارقات زماننا، أن شعوبا عدة في عالمنا العربي، باتت تساق الي انتخابات حرة تماما، في حين أن تلك الشعوب فاقدة الحرية من الأساس، الأمر الذي يجسد الفصل بين الديمقراطية والحرية، فيستدعي الأولي ويؤجل الثانية، علي نحو لا يختلف عن وضع العربة أمام الحصان.
(1) بين أيدينا نموذجان طازجان يجسدان تلك المفارقة: الانتخابات الفلسطينية، التي تابعنا أحداثها قبل أيام قليلة (في التاسع من شهر يناير الحالي)، والانتخابات العراقية التي يفترض أن تجري بعد خمسة أيام، في كل من الحالتين يرزح الشعب تحت احتلال من العيار الثقيل، كما أن الانتخابات تعد مطلبا للمحتل، مضمر إسرائيليا في الحالة الفلسطينية، لكنه معلن ومشهور أمريكيا في الحالة العراقية، لدرجة أن الرئيس بوش شخصيا يقف علي رأس المطالبين بإجرائها في موعدها، فضلا عن ذلك، فهي مفصلة بحيث تحقق المصالح المرجوة، آية ذلك أن اللاجئين المقيمين بالخارج حرموا من التصويت في الحالة الفلسطينية برغم أن عددهم يتراوح بين 4 و5 ملايين شخص.
في حين أنهم في الحالة العراقية (عددهم مليونان) استدعوا للتصويت حيثما كانوا، في مشارق الأرض ومغاربها، وحين يكون الأمر كذلك، فلابد أن يبعث علي الشك والارتياب، وهو ما تعززه شواهد عدة فإسرائيل التي سعت الي التخلص من الرئيس ياسر عرفات، ومازال اتهامها بتسميمه معلقا في رقبتها، رحبت بالانتخابات التي أتت بقيادة فلسطينية جديدة أملا في تحقيق هدفين، أولهما وقف الانتفاضة وشل حركة المقاومة المسلحة، وثانيهما التوصل الي تسوية تنتهي بإقامة دولة فلسطينية(في غزة علي الأرجح)، مع تأجيل جميع القضايا الجوهرية الأخري في الملف: القدس والاستيطان واللاجئون والحدود.
في العراق المصلحة واضحة، فالانتخابات التشريعية التي تصر الولايات المتحدة علي إجرائها في موعدها (30 يناير) لا تختلف في مقاصدها عما جري في أعقاب ثورة العشرين حين دعت سلطة الاحتلال البريطاني الأمير فيصل بن الحسين ونادت به ملكا علي العراق، علي رأس نظام دستوري نيابي ديمقراطي، أيدته الجماهير في استفتاء أجري عام 1921، وكان أول انجاز قام به الملك الجديد بعد تنصيبه -بناء علي الإرادة الشعبية- أنه وقع في العام التالي مباشرة المعاهدة التي قننت الانتداب وأبقت علي النفوذ البريطاني في العراق، هذا الذي فعله البريطانيون في عشرينيات القرن الماضي، هو بالضبط ما يريده الأمريكيون في آخر يناير الحالي، أي بتشكل مجلس نيابي عراقي منتخب، يضفي شرعية علي الوضع المستجد، خصوصا الوجود العسكري الأمريكي، ويؤمن مختلف المصالح الأمريكية التي كانت دافعا الي الغزو.
في الحالتين انفصلت الإجراءات الديمقراطية عن قضية السيادة الوطنية، وبالتالي انفصلت حرية الوطن عن حرية المواطنين، وأصبحت الانتخابات أو الاستفتاءات غاية بحد ذاتها.
(2) تلك حالة قصوي للمفاصلة بين الديمقراطية والحرية، دونها حالات أخري كثيرة شائعة في العالم الثالث والعربي ضمنا، تكررت فيها المفاصلة ذاتها، ولكنها وظفت لصالح استمرار احتكار السلطة وتكريس الأوضاع غير الديمقراطية، فقد تابعنا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، جهودا حثيثة لاستخدام قيم الديمقراطية وعناوينها في ذلك الاتجاه، وشهدنا تنافسا علي رفع اللافتات ونصب الهياكل الديمقراطية دون أن يكون لذلك كله أي ترجمة أو ممارسة علي صعيد الواقع.
قبل سنوات حين تولي ميخائيل جورباتشوف زعامة الاتحاد السوفيتي ورفع شعار (البريسترويكا) أو إعادة البناء، وكان للشعار صداه الذي تردد في العالم الخارجي، خرجت الأبواق الإعلامية الرسمية في إحدي دول المغرب العربي، معلنة علي الملأ أن زعيمها كان سباقا الي الدعوة لإعادة البناء، منذ قام بحركته التصحيحية، التي قومت ما كان معوجا وأخرجت الأمة من ظلمات البؤس والاحباط الي نور الأمل والرجاء، وحين اختبرت التجربة واحتل النموذج مكانا دائما ومتميزا في التقارير السنوية، التي تسجل انتهاكات حقوق الإنسان، جري تكثيف الحملة الدعائية، التي زفت الي الجميع أخبار تقرير مادة حقوق الإنسان في كل مراحل التعليم، وانشاء مكتب لحقوق الإنسان في كل وزارة وكل محافظة، ومن ثم امتدت اللافتة بطول البلاد وعرضها، دون أن يكون لها أي تنزيل علي الأرض!
وفي وقت لاحق، حين انتخب توني بلير رئيسا للوزراء في بريطانيا، وتبني آنذاك شعار (الطريق الثالث) بين الاشتراكية والرأسمالية، فإن إعلام قطر عربي آخر قال إنه أخذها عن شعار النظرية الثالثة الذي أطلقته قيادة ذلك البلد، وبعدما صارت لافتة التعددية عنوانا للمرحلة التي اعقبت سقوط جدار برلين، سمعت خطيبا للجمعة في إحدي دول الخليج وهو يشيد بالفكرة ويعتبرها انجازا إسلاميا سبقنا به الجميع، تجلي في سماحه بتعدد الزوجات ـ وأخيرا حين رفع في الأفق العربي شعار الإصلاح السياسي، وشاع الحديث عنه في مختلف الأوساط السياسية وغير السياسية، فإن أكثر من قيادة عربية ذكرت أن الأمر ليس جديدا عليها، وان الاصلاح هو هدف كل ما تتخذه من إجراءات، باعتبار أنها ما جاءت إلا لتصلح، وظل ذلك (ديدنها) طول الوقت، بالتالي فهي ليست معنية بتلك الدعوة.
(3) مادام الجدل محصورا في إجراءات الديمقراطية وأشكالها وليس وظيفتها وغاياتها، فإن قضية الحرية ستكون هي الضحية في نهاية المطاف، فالانتخابات مهمة لا ريب، ولكن ما لم تكن سبيلا الي المشاركة في القرار السياسي والي الحساب والمساءلة، وما لم تكن صيغة تكفل التداول السلمي للسلطة، فإنها تغدو عبئا علي الديمقراطية وليست عونا أو رافعة لها، إذ حين لا ترتب الانتخابات أيا من تلك الوظائف؛
إن شئت فقل، إن الانتخابات الحرة حقا ليست فقط تلك التي تتوافر لها حرية التصويت أمام صناديق الاقتراع، ولكنها أيضا تلك التي يتمتع فيها المواطنون بحرية الإرادة والاختيار، أعني أنها ليست فقط تلك التي يتمكن فيها الناس من التصويت بغير ضغط ولا اكراه أو ارهاب، أو تلك التي يتم فيها فرز الأصوات دون تلاعب أو تزوير، إذ الأهم من ذلك أن تتم في جو ترفرف عليه رايات الحرية، حرية التعبير وحرية إصدار الصحف وحرية تشكيل الأحزاب السياسية.. الخ، وهي الظروف التي من شأنها تحرير إرادة المواطن وتعزيز قوة المجتمع وتحصينه، من خلال ما تفرزه من مؤسسات مدنية ومنابر مستقلة تسهم في تشكيل الرأي العام، وتكبح جماح السلطة وتحول دون تغولها أو طغيانها.
إن الانتخابات حين تصبح غاية، فإنها في أحسن فروضها توفر لحظة حرية، وحين تظل وسيلة فإنها تصنع مجتمعا حرا، ومن أسف أن لحظة الحرية هي التي يجري تسويقها الآن، ويتضاعف الأسف حين نجد أن النخبة مشغولة بترقب تلك اللحظة بأكثر من تركيزها علي استحقاقات وشرائط اقامة المجتمع الحر المشارك والفعال.
ما يسري علي الانتخابات، ينطبق بذات القدر علي غيرها من عناوين ومفردات الممارسة الديمقراطية، من قبيل تشكيل الأحزاب وتأسيس مجالس ومنظمات حقوق الإنسان، والدعوة لإقامة مؤسسات المجتمع المدني وتمكين النساء من شغل الوظائف القيادية والعامة... الخ، ذلك أن تلك الجهود كلها اذا تحولت الي غايات، ولم تصب في وعاء المشاركة الحقيقية وتعزيز الحرية في المجتمع، فإنها تصبح من قبيل محاولات الإلهاء التي تؤدي الي تزييف الديمقراطية وتفريغها من مضمونها.
(4) لابديل عن وضع الحصان أمام العربة لكي تتقدم المسيرة صوب بر الأمان، لذلك فلا مفر من تقديم الحرية علي الديمقراطية، واعتبارها مقياسا لها، إذ بالأولي أن نصل الي الثانية بصورة تلقائية، في حين أن التجربة علمتنا أن العكس غير صحيح، بمعني أن الديمقراطية الشكلية يمكن توظيفها لاجهاض قيمة الحرية واحداث قطيعة معها.
ليس في الأمر مغامرة من أي نوع، هذا ما تؤكده خبرة بلد كالهند وصل عدد سكانه الي مليار نسمة، وتعايشت في ظله تمايزات وتناقضات عرقية ودينية واقتصادية لا حصر لها، جعلته أصعب بلد يمكن أن تمارس فيه الديمقراطية، لكنه بالحرية امتص تلك التناقضات، وحقق في ظلها انجازات اقتصادية كبيرة، وقدم نموذجا للاستقرار النسبي القائم علي التسامح وتداول السلطة، الأمر الذي أضاف الي رصيد الهند إنجازا سياسيا جديرا بالاحترام والاحتذاء.
ما حدث في الهند حصل مع إندونيسيا (250 مليون نسمة)، التي بدورها بلد صعب للغاية، يحفل بالتناقضات والمشكلات التي تراوحت بين الصراعات الدينية (بين المسيحيين والمسلمين) وبين دعوات الانفصال في (مقاطعة أتشيه مثلا)، ومع ذلك فإن البلد خاض التجربة الديمقراطية الي نهايتها، وتم فيه تداول السلطة ثلاث مرات خلال السنوات التي أعقبت سقوط نظام الرئيس سوهارتو في عام 1998، بعدما ظل محتكرا لها طيلة 32 عاما، احتمي فيها الفساد بالاستبداد.
لم يكن في النجاح السياسي الذي حققه البلدان وكفل لهما الاستقرار سر، وإنما الذي حدث لهما، أنهما اتبعا ذلك النهج البسيط الذي بمقتضاه تم وضع الحصان أمام العربة، فتجاوزا ديمقراطية اللحظة والمناسبة، وتعاملا مع الانتخابات بحسبانها وسيلة لاغناء المشاركة، لا غاية استهدفت تثبيت ما هو قائم، لذلك فإنها كفلت في يسر شديد تداول السلطة، فأضفت حيوية علي الحياة السياسية، وأزالت كل أسباب الانسداد ومن ثم الاحتقان السياسي، في الوقت ذاته، فإنها رسخت اقتناع الناس بإمكان تحقيق التغيير السلمي، الأمر الذي قطع الطريق تلقائيا علي دعاة التغيير بالعنف، حتي المتطرفين السيخ الذين يمثلهم بهارتيا جاناتا حينما جاءوا الي السلطة في الهند (عام99)، فإنهم تقلدوا موقعهم برضا الناس واختيارهم -بأصوات الأغلبية أعني- لكنهم اضطروا للتخلي عنها في أول انتخابات لاحقة (عام2004)، حين فاز حزب المؤتمر بأصوات الأغلبية، ومن ثم حق له أن يرأس الحكومة لمدة 5 سنوات علي الأقل.
(5) لماذا الحرية والديمقراطية الحقيقية ولادة عسرة في العالم العربي دون غيره من بقية أقاليم وأقطار العالم؟
من السخف أن يرد علي السؤال بإحالة الإجابة الي جينات الإنسان العربي، بدعوي أن تركيبته العضوية والنفسية لا تستجيب لقيم من ذلك القبيل، وأسخف من ذلك أن تتهم في ذلك عقيدة الأغلبية المسلمة في العالم العربي، بدعوي أن ثمة شيئا غلطا في العقيدة، يفضي الي تلك النتيجة البائسة، وهو الكلام الذي يردده نفر من الباحثين الغلاة، الذين يكرهون الإسلام والمسلمين(بعضهم عرب للأسف).
لكنني لا أتردد في الإجابة بأمرين، أولهما أن عسر ولادة الحرية والديمقراطية في العالم العربي راجع الي فشل النخب العربية في الدفاع عن استحقاقاتها، ولهذا الفشل أسباب يطول شرحها، بعضها يتعلق بالبيئة السياسية والبعض الآخر يتعلق بالصراع الفكري الذي غيب الاجماع الوطني، خصوصا بين النخب العلمانية والإسلامية. الأمر الثاني أن مصالح القوي المهيمنة في الخارج والداخل التقت علي ضرورة إجهاض أي جهد من شأنه التوافق علي اقامة مجتمع الحرية والديمقراطية، الذي سيكون بالضرورة رافضا للهيمنة الغربية، وتحضرني هنا الشهادة المهمة والمثيرة التي أوردها الدبلوماسي البريطاني المخضرم جون كاي في كتابه الذي أصدره بعنوان زرع الريح، وعالج فيه جذور الصراع في الشرق الأوسط، في ذلك الكتاب، الذي أشرت الي مضمونه في مقال سابق، قال صاحبنا صراحة إن العالم العربي ضحية موقعه الفريد في قلب العالم، وهو الموقع الذي جعل قوي الهيمنة تتنافس في السيطرة عليه، وأضاف أن الدول الغربية هي التي رسمت الخريطة السياسية للمنطقة (في سايكس بيكو عام1916)، وهي حريصة علي الإبقاء علي تلك الخريطة كما هي حتي الآن، ومنذئذ فإن تلك الدول المهيمنة لم تتوقف عن التدخل في مسيرة المنطقة وفي صياغتها وفقا لمصالحها الاستراتيجية.
خلاصة هذا الرأي، أن تغييب الحرية والإبقاء علي الديمقراطية الشكلية، هو الوضع الأمثل الذي يطمئن قوي الهيمنة علي استمرار مصالحها الاستراتيجية، التي أصبحت مختزلة في الثروة النفطية والوجود الإسرائيلي، وبرغم أن ذلك الاعتبار يضاعف من عسر الولادة المنشودة، ويرفع من درجة التحدي المطروح علي دعاة الحرية والديمقراطية الحقيقية، إلا أن سنة الحياة وعبرة التاريخ تطمئننا الي أن الإرادة الوطنية اذا تحركت، وكان عزمها أكيدا، فلن يحول دون تحقيق مرادها شيء، ذلك أن الله ينصر من ينصره، وما الانحياز الي الحرية إلا انتصار لحق من حقوق الله، ثم لاتنس أننا منذ كنا صغارا في المدارس كنا ننشد دائما بيت الشعر الذي يقول: اذا الشعب يوما أراد الحياة. فلابد أن يستجيب القدر.
إن سنن الكون في انتصار الشعوب وظفرها بحريتها قد تتأخر لسبب أو آخر، لكنها لا تخيب أبدا، وليس مطلوبا منا سوي أن نعقلها، ثم نتوكل
نقلاً عن جريدة الأهرام فى عددها الصادر 43149 بتاريخ 25/1/2005
اقرأ أيضاً
عن مهزلة الانتخابات الأمريكية في العراق!/ قطعة البطاطا الساخنة/ الانتخابات الفلسطينية والشرعية