أشعرني أحد كبار المثقفين الفلسطينيين الذين عانوا من المعتقلات الصهيونية والإقامة الجبرية والمنع من السفر بالصدمة عندما جادلني بالدور البريطاني في فلسطين. قلت له إنني أشعر بالإحباط الشديد إزاء مؤتمر لندن الأخير لأن فلسطينيين يذهبون بزيارة رسمية إلى بريطانيا وهي التي زرعت المآسي والأحزان في كل بيت فلسطيني وفي قلوب الفلسطينيين. أجابني بأنني أعيش في الماضي ومن المفروض ألا أتذكر التاريخ، والمرء الحديث يجب أن يبقى ابن الحاضر. قلت له إن ما قامت به بريطانيا من دعم للصهيونية والكيان الصهيوني ليس من الماضي؛ أنا وأنت وكل الفلسطينيين والعرب يعانون من المصائب التي صنعتها بريطانيا كل يوم. أجاب بأن الأمس هو الماضي، بل أن الساعة الماضية هي الماضي.
حاولت أن أسوق له الأعداء مثلا في كيفية ملاحقتهم للنازيين ولألمانيا، وفي كيف أن إسرائيل وقفت بحدية من أجل تغيير الرئيس النمساوي كورت فالدهايم لأنها اشتمت رائحة علاقة قديمة له مع النازية، ولكن عبثا. سألته لماذا لم ينس اليهود الماضي الموغل في القدم، ولم ينسوا الجرائم الأوروبية الروسية منها والفرنسية والبلغارية، بينما علي أنا أن أنسى الساعة البارحة لكي أكون تقدميا و "موديرن" هز رأسه مستنكرا.
هذا المثقف الفلسطيني ليس فريدا من نوعه. هناك آلاف المثقفين داخل فلسطين وخارجها يتحدثون ذات اللغة ويدافعون عنها وعن الوجود الإسرائيلي وعن ضرورة ضرب المقاومة الفلسطينية، الخ. هناك آلاف آخرون يتخذون مواقف مغايرة تماما ويصرون على استعادة الحقوق الفلسطينية، لكن هذا الانقسام يعبر عن وجود ظاهرة في أوساط المثقفين الفلسطينيين الذين يدافعون عن الحاضر بمعزل عن الماضي تمشيا مع السياسة الأمريكية والإسرائيلية. السلطة الفلسطينية هي رأس هذه الظاهرة وهي التي تتعاون مع هذا التوجه الذي كان يعتبر قبل سنوات من المحرمات التي تتطاول على ما يسمى بالثوابت الفلسطينية.
هذا الطرح المستسلم للواقع الحاضر لم يأت فجأة، ولم يسقط على الشعب الفلسطيني مرة واحدة. إنه طرح يحظى بمؤيدين منذ عشرات السنين، ولم يطل على الشعب علنا إلا بعدما قوي وبرزت له أنياب. طرف من سياسة عرفات كان يعمل على تربية هذا الفئة المثقفة منذ بداية السبعينيات تمهيدا لمراحل سياسية قادمة لم تكن بعيدة عن تخطيطه أو مشاركته في تخطيطها. وقد تمخضت هذه السياسة عن مفاوضات غير مباشرة أو سرية مع إسرائيل قادها مثقفون فلسطينيون مثل السرطاوي والقلق وحمامي. وعلى الرغم من أن الساحة الفلسطينية عانت من الاغتيالات على خلفية هذا التوجه غير المعلن أمام الجمهور، إلا أن الاتصالات استمرت بقيادة مثقفين.
انتعشت الظاهرة مع مرور الأيام وخاصة بعد تقارب عرفات مع مصر التي كانت قد وقعت اتفاقية كامب ديفيد. وقد وجدت أمريكا وأوروبا لهما مرتعا في الضفة الغربية وغزة مع بداية الثمانينيات لاستغلال المثقفين المنظرين للحاضر الآني على حساب الماضي الممتد حاضرا وعلى حساب الماضي التاريخي. بدأت الدول الغربية بإنشاء جمعيات أو منظمات غير حكومية بحجة دعم البحث العلمي وتطوير البنية التحتية ومساعدة الفلسطينيين المساكين الذين يعانون من الاحتلال. استقطبت هذه الدول عددا كبيرا من المثقفين من خلال أموالها، وأخذت قدرتها على الاستقطاب تتسارع هندسيا بعد اتفاقية أوسلو. عدد كبير من أساتذة الجامعات والكتاب والمفكرين الفلسطينيين يعملون الآن في منظمات وجمعيات أمريكية وفرنسية وبريطانية تحت أسماء فلسطينية. كل هؤلاء المثقفين والمفكرين والأدباء من المؤيدين للسلطة الفلسطينية والاتفاقيات مع إسرائيل، ومن المسافرين إلى لندن وواشنطون وروما وباريس، الخ، ومن المدافعين عن الانقلاب الثقافي في فلسطين. هؤلاء هم الذين يتواجدون في المحافل الدولية وفي المؤتمرات وفي المطارات وعلى مختلف وسائل الإعلام. هذا أمر منسجم مع طرح رعاة الساحة الدولية الآن والمهيمنين عليها. المعارضون للانقلاب والتخلي عن الحقوق الفلسطينية لا نصيب لهم بالمشاركة، وعدد كبير منهم ممنوعون من السفر أو غير مقبولين من الدول التي يرغبون بالسفر إليها؛ وأيضا لا يملكون المال للإنفاق على سفرياتهم. لقد قدمت الدول الغربية المال الذي يعرف الآن فلسطينيا بالعلف فجرى خلفها الآلاف.
لا ينحصر هذا الانقلاب بالمثقفين وإنما أخذ يمتد إلى الشارع الفلسطيني. إنه انقلاب تحول إلى تيار له مؤيدوه ومساندوه والمدافعون عنه. فمثلا من السهل أن يلاقي شخص يدافع عن حق اللاجئين في العودة من آخرين الزجر والاستهزاء والاتهام بأنه لا يريد السلام. هؤلاء يتبنون وجهة النظر الإسرائيلية تماما ويدافعون عنها فيقولون:"إن كل من يصر على حق العودة لا يريد السلام لأن إسرائيل لن تقبل عودة اللاجئين." المعنى هو أنه إذا رفضت إسرائيل موقفا أو عملا فعلى الشعب الفلسطيني أن يرفضه أيضا. وقد واجهت هذا الموقف من بعض طلابي داخل غرفة الدرس. قال طالب بأنه لن يقبل أي مشروع للسلام ما لم ينص على حق اللاجئين بالعودة، فثار في وجهه طلاب وطالبات متهمين إياه بالتطرف ورفض السلام وتأييد حزب الله وسوريا وإيران. وقف معه آخرون وتحولت غرفة الدرس إلى سجال.
وما يبدو مهما جدا أن هؤلاء المثقفين الذين يتبنون الموقف الأمريكي والإسرائيلي يدافعون عن الشرعية الدولية وضرورة الالتزام بقرارات الأمم المتحدة. هذا التأييد يختفي عندما يُواجهون بقرار 194الذي ينص على عودة اللاجئين أو باتفاقيات جنيف التي تصر على حق اللاجئين بالعودة. هذا يشير على أنهم لا يؤيدون الشرعية الدولية وإنما شرعية الولايات المتحدة وإسرائيل. يعكس هذا الموقف الآن أبو مازن، رئيس السلطة الفلسطينية الذي يردد دائما بأنه يريد حل مشكلة اللاجئين حلا عادلا وذلك وفق نص قرار مجلس الأمن242.
من السهل أيضا أن يسمع المرء مقولات أخرى تؤيد الموقف الإسرائيلي. كثيرون مثلا يضعون اللوم على المقاومة الفلسطينية مع كل عملية تقوم بها ضد أهداف صهيونية. إنهم يبررون لإسرائيل عملياتها العسكرية ولا يجدون مبررا للمجاهدين. الاحتلال بالنسبة لهم وديع ومحترم وفقط يتصرف كرد فعل على أعمال بعض الطائشين الذي لا يقدرون تماما المصلحة الوطنية الفلسطينية. من الوارد جدا أن يسمع المرء بعضهم يكيلون التهم والشتائم للاستشهاديين الذين يضحون بأنفسهم، ومن الوارد أيضا أن بعض الشاتمين يكونون على موعد مع الصهاينة في لقاءات سياسية أو اجتماعية.
يطلب الأوروبيون والأمريكيون من الفلسطينيين المعلوفين أن ينسوا الماضي وأن يركزوا فقط على حل النزاعات القائمة وفق الواقع القائم. إنهم يدربون صغارنا وشبابنا المجرورين إلى التطبيع بوساطة مثقفين فلسطينيين بأن إسرائيل عبارة عن حقيقة قائمة وأن فلسطين لم تعد تلك التي كانت، وأن عليهم إقامة علاقات اعتيادية مع الصهاينة اليهود والتفاهم معهم وفق الأمر الواقع وذلك من أجل السلام الذي سيأتي على الجميع بأحوال مادية واقتصادية حسنة. يقولون لهم أن عليهم ألا يدرسوا تاريخ الانتداب ولا النوايا الصهيونية الماضية، بل عليهم التفكير فقط في الحاضر الآني الذي يتطلب تضافر جهود أهل المنطقة من أجل التطوير. ويدربونهم على الاستهزاء بالقرآن الكريم وبالسيرة النبوية ويقولون لهم أن القرآن ضد السلام ويشجع القتل وسفك الدماء، وأن محمدا لم يكن سوى عبقري أبدع في استغلال سذاجة الناس.
الخلاصة أن بعض المثقفين الفلسطينيين الذين يطالهم العلف الغربي يبدعون بالإساءة للأمة وللحقوق الفلسطينية، وهم ينحازون بسرعة كبيرة نحو معسكر الأعداء.
اقرأ أيضاً :
خيانـة المثقفيـن ... سيكولوجيـة خاصـة / قطعة البطاطا الساخنة / محطات فى تاريخ القضيه الفلسطينيه / دفاعاً عن حق اللاجئين الفلسطينيين / أرواح بين الصخرة والأقصى / حق العودة في مشاريع التسوية غير الرسمية (1)