1- أنا الطفل الفلسطيني الحي الذي لم يرزقني ربي الشهادة كما رزق أخي محمد الدرة وكما رزق أختي إيمان حجو وكما رزق بقية أخوتي الأطفال الشهداء!! أنا الذي قد أخطأتني رصاصات قناصة الاحتلال عشرات المرات بينما كنت أنام على فراشي في بيتي، وبينما كنت قائما في غرفتي خلف الشباك أراقب الدبابات وهي تسحق أشجار الزيتون، وبينما كنت في طريقي إلي الدكان كي اشتري لأخي الرضيع علبة حليب، وبينما كنت على مقعدي في مدرستي، وبينما كنت قائما لله تعالى في صلاتي!! نعم لقد أخطأتني رصاصة قناص الاحتلال قبل أيام حين مرت قرب أذني، وأخطأتني رصاصة أخرى مسحت شعر رأسي، وأخطأتني رصاصة ثالثة اندفعت بلهيبها بين قدمي، وأخطأتني رصاصات ورصاصات تراكضت تحمل الموت عبرت تؤُزّ عن يميني وعن يساري ومن فوقي ومن تحتي!! أنا الطفل الفلسطيني الذي أخطأتني قذائف الدبابات وراجمات الصواريخ وقنابل الطائرات وقذائف مروحيات الأباتشي الأمريكية!! فلا نامت أعين الجبناء!!.
2- أنا الطفل الفلسطيني الذي قد هدموا بيتي فوق رأسي وفوق رأس أمي وأبى وأخوتي في مخيم جنين ومخيم بلاطة ونور شمس وفي سائر مخيماتنا وقرانا ومدننا في الضفة الغربية وقطاع غزة!! فاستشهد أبى تحت ردم بيتنا الذي تحول إلى رجم حجارة، واستشهدت أمي وهي تحمل أرغفة خبز فوق رأسها جاءت مسرعة بها لتطعمنا، واستشهد أخوتي وهم في مواقف المواجهة لدحر الاحتلال!! أنا الذي ودعت بيتي المهدوم ولم أعد إليه حتى الآن، فأقمت أياما عند خالتي فهدموا بيتها، ثم أقمت أياماً عند عمتي فهدموا بيتها، ثم أقمت أياما جوالا متنقلا عند القريب والبعيد، وها آنذا طفل يتيم بلا أم ولا أب ولا إخوة!! ها آنذا طفل يتيم بلا بيت!! فهل تحملون جرحي؟! وهل تجبرون كسري؟! وهل تغيثونني لأبني بيتي من جديد؟! ألست طفلا غاليا عليكم وكريما على نفوسكم؟ ألست طفلا معتبرا من عالم الطفولة الإسلامية والعربية؟! ألست كذلك؟! لا تغفلوا عني ولا تهملوني ولا تتركوني وحيدا.
3- أنا الطفل الفلسطيني الذي خرجت -بحفظ الله تعالى- من تحت ركام بيتي حيا، ثم طفقت اركض وسط الدمار في مخيمنا ومن فوق رأسي الطائرات تطاردني وتطارد بقية أهلي الهائمين على وجوههم والصارخين، فمررت وأنا اركض في شوارع المخيم المجروفة وأزقته المحروقة، مررت بجارنا (أبو محمود) شهيدا عند أعتاب بيته المهدوم، ومررت بجارنا (أبو سعيد) جسدا بلا رأس ورأسه على بعد متر من جثمانه الغارق بالدماء، ومررت بعشرات الأيدي المبعثرة هنا وهناك، والتي لم أعرف أصحابها، رغم إنني عرفت أن بعض هذه الأيدي الصغيرة كانت لأطفال صغار لعلي كنت قد تعلمت معهم في مدرسة واحدة، ولعلي كنت قد لعبت معهم في حقل زيتون واحد، ولعلي كنت قد ركضت معهم في بيارة البرتقال الواحدة، والآن أصبحوا شهداء ممزقين لا أرى عيونهم ولا وجوههم ولا ابتسامتهم، بل أرى منهم الطفل الفلسطيني الذي رأى كل ذلك، ورأيت الأرجل المبعثرة ومن حولها قطع لحم وبقع دماء تحيط بها كما يحيط الأسوار بالمعصم!! فَلِمن هذه الأرجل يا ترى؟! هل هي لأخي الذي استشهد عند بوابات المخيم ولم أره بعد ذلك؟! هل هي لعمي (صابر) الذي قيل لي عنه أنه قد تصدى لدبابة ففجّرها بعد إذ فجر نفسه بلا تردد؟! هل هذه الأرجل لخالي(حمزة) الذي قيل لي عنه أنه وقف يدافع عن حرمة مسجد المخيم حتى مزقته قذيفة دبابات الاحتلال؟! رباه ارحم نكبتي!! رباه ارحم غربتي!! رباه ارحم حسرتي !! لمن هذه الأيدي المبعثرة؟! لمن هذه الأرجل المتناثرة؟! لمن هذه الأجساد الممثل بها؟! لمن هذه الوجوه المسمّلة العيون؟! أنا الطفل الفلسطيني الذي رأيت كل ذلك وما زلت أراه ماثلا أمام عيني طوال الوقت!!
نعم ما زالت كل هذه المشاهد ماثلة أمام عيني رغم مرور أسابيع على دمار مخيمنا!! نعم ما زلت أرى كل هذه المشاهد وأنا آكل وأشرب، وأنا أركع وأسجد، وأنا في الشارع والمدرسة!! ما زلت أراها تلازمني ملازمة الروح للجسد في النهار، وما زلت أراها أحلاما تقتحم عليّ نومي كل ليلة!! فهل لي أن أنسى هذه المشاهد؟ متى وكيف؟! هل لي أن أرجوها كي تغيب عني للحظات رأفة بي حتى أستريح؟! هل لهذه المشاهد أن تشفق عليّ وأن ترحمني وأن تودعني ولا تعود؟!! رباه يا أرحم الراحمين!! نهاري عذاب وليلي هموم، ودمعي سكيب وجسمي كلوم.. يا رب يا الله .
4- أنا الطفل الفلسطيني الذي رأى سيارات الإسعاف وهي تنقل مئات الجرحى من مخيمنا!، يا ويلتي... إني أراهم الآن ماثلين أمام عينيّ!! ها هم أمامي... صدقوني إنني أراهم يتعثرون بدمائهم فيسقطون على الأرض!! صدقوني إنني أراهم يتمرغون بالتراب صارخين وناعبين أَلَماً ودماء!! صدقوني إنني أراهم وقد تدلت أيديهم والتوت أرجلهم وبُقرت بطونهم وتكسرت عظامهم وشجت رؤوسهم!! يا ويلتي إنهم يزحفون رغم الجراح والدماء والآلام !! انظروا إليهم... إنهم يزحفون في كل اتجاه على بطونهم وعلى ظهورهم وعلى جنوبهم!! بل إنهم يصرخون!! ألا تسمعونهم؟ إنهم يطلبون النجدة!!
إنهم يصيحون قائلين: النجدة… النجدة.. النجدة.. وإسلاماه واعرباه!! وامعتصماه!! وإصلاح الدين!! ألا تسمعونهم؟ إنهم يصيحون متألمين وينادون: إسعاف... إسعاف إسعاف... أيها المسلمون إسعاف!! أيها العرب إسعاف!! أيها العلماء والأئمة والدعاة والمصلحون إسعاف!! أيها الملوك والحكام والرؤساء والزعماء إسعاف!! أيها المؤتمر الإسلامي إسعاف!! أيتها الجامعة العربية إسعاف!! يا لصرخاتهم تدوي في صدري وتسبح في قلبي وتدوي في أذني!! إنهم أهلي وأهلكم يصرخون!! لا تقولوا لي: وكيف تراهم وقد مضت الأسابيع على مجزرة مخيمكم وتم دفن كل الشهداء، وتم نقل كل الجرحى؟!! أرجوكم لا تقولوا لي ذلك فالمأساة ما زالت تزداد بعد مرور أسابيع على مجزرة مخيمنا!! فإن كنتم لا ترون مأساتي فأنا ما زلت أراها تزداد!! نعم... قيل في الفضائيات المختلفة إنهم فكوا الحصار عن الرئيس ياسر عرفات، ولكن مأساة شعبي ما زالت تزداد!!
قيل في الفضائيات المختلفة إنهم توصلوا إلي حل لأزمة كنيسة المهد، ولكن مأساة شعبي ما زالت تزداد!! قيل في الفضائيات المختلفة إن السلطة الفلسطينية قد باشرت في الإصلاح السياسي فنقلت وزارة العمل إلي وزير الصحة ونقلت وزارة الرياضة والشباب إلى وزير التعليم العالي ونقلت وزارة التعليم العالي إلي وزير العدل، ولا ندري من سيقدر على حمل أعباء العدل وهموم المظلومين؟! قيل لنا ولكم كل ذلك، ولكن مأساة شعبي ما زالت تزداد؟!
قيل في الفضائيات المختلفة: لقد جاء (تشيني) وذهب (باول) ثم ذهب وجاء (تينت)، ثم ذهب تينت وجاء باول، ولكن مأساة شعبي ما زالت تزداد!! قيل في الفضائيات المختلفة إن قوات الاحتلال الإسرائيلية قد انسحبت من مخيم جنين، ولكنها عادت واقتحمته مرات ومرات!! قيل في الفضائيات المختلفة إن قوات الاحتلال الإسرائيلية قد انسحبت من رام الله، ولكنها اقتحمت بيت لحم!! وقيل أنها انسحبت من نابلس، ولكنها اقتحمت طوباس!! وقيل إنها انسحبت من مخيم رفح، ولكنها اقتحمت مخيم الشاطئ!! وهكذا دواليك... ما زال جنود الاحتلال يقتحمون!! في الليل يقتحمون وفي النهار يقتحمون!! ما زالوا يقتحمون ويهدمون البيوت!! وما زالوا يقتحمون ويعتقلون الآلاف!! وما زالوا يقتحمون ويقتلعون الزيتون ويحرقون البرتقال ويدمرون الحقول!! برنا وبحرنا وجونا ما زالوا يقتحمون!! وما زالت مأساة شعبي تزداد!!.
قيل في الفضائيات المختلفة إن مجزرة مخيم جنين التي ذبح فيها جنود الاحتلال الإسرائيلي العشرات من أهلنا قد انتهت ثم توقفت!! ولكن إن ذبحوا العشرات من أهلنا في مجزرة مخيم جنين جملة واحدة فما زالوا يذبحون العشرات أسبوعياً بالتقسيط في الضفة الغربية وقطاع غزة.
قائلكم: مأساة الشعب الفلسطيني تزداد وقد تم تشكيل حكومة فلسطينية جديدة؟!! أمعقول؟! وكيف ذلك؟! وأنا الطفل الفلسطيني أقول لكم: مأساة شعبي ما زالت تزداد!! فشعب بلا لقمة طعام ولا جرعة دواء ولا حقن لدمائه ولا حماية لأعراضه ولا حفظ لمقدساته... أليس في مأساة؟!.
5- أنا الطفل الفلسطيني الذي لم يتوقف عن توديع الشهداء كل يوم!! فعلى مدار السنتين وأكثر ما زال لنا في كل يوم أكثر من جنازة وقبر وتابوت، وما زال لنا في كل يوم أكثر من بيت عزاء!! وما زال لنا في كل يوم أكثر من ثكلى وأكثر من يتيم وأكثر من باكية نائحة وأكثر من ناعية جائحة!! ما زالت لدينا قوافل الأيتام تزداد يوما بعد يوم!! وما زالت لدينا قوافل الأرامل والثكالى تزداد يوما بعد يوم!! وما زالت لدينا قوافل الجرحى والمعتقلين تزداد يوما بعد يوم!! ما زلت أتجوّل بين مئات البيوت المدمرة وآلاف البيوت المتصدعة!! ما زلت أمر بمسجد الخضراء المهدوم في نابلس، ومسجد الشيخ زيد المهدوم في طولكرم!! ما زلت أمر بعشرات المساجد الأخرى وقد عاثت بها يد الاحتلال الإسرائيلي خرابا وإرهاباً!! فكم من مسجد بالوا في محرابه، وكم من مسجد حطموا كبرياء منبره، وكم من مصحف مزقوه واستخدموا أوراقه عند قضاء حاجتهم، وكم من مئذنة قصفوا شموخها العالي والغالي، وكم من مسجد أرادوا به كيدا وحرقوه!!
6- أنا الطفل الفلسطيني الذي ما زالت تطارده الدبابات حتى الآن في كل رقعة من جرحنا الكبير في الضفة الغربية وقطاع غزة!! وما زالت هذه الدبابات المتوحشة تطارد جدتي كلما تجرأت وصعدت إلي الجبل القريب منا لتحضر لنا بعض (الزعتر) أو أعواد (الميرمية) علّها تخفف من حدة جوعنا ومرضنا وعطشنا!! أنا الطفل الفلسطيني الذي ما زال يتنفس رائحة الموت في كل مكان!! نعم ما زلت أتنفس رائحة البارود والقنابل والرصاص في كل مكان!! ما زلت أتنفس رائحة الحصار بعد الحصار كل يوم!! رباه ارحم هواني على المحتلين!!
7- أنا الطفل الفلسطيني الذي يريدون إبعادي عن القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك طريداً أو سجيناً، وأنا أقول لهم: بل سأحيى للقدس الشريف والأقصى المبارك شهيدا... شهيدا... شهيدا... قول صدق لا تمثيل.
الشيخ رائد صلاح (رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948)
اقرأ أيضاً على مجانين:
هذه كلمات وزفرات طفلة من الأراضي الفلسطينية/ نماذج مسلمة/ الـمـخــــيـّم / رضيع في زنازين الاحتلال