أدت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 إلى تبلور تيار في الإدارة الأمريكية يدعو إلى إجراء حوار مع الحركات والتيارات الإسلامية المعتدلة في المنطقة العربية؛ لإعطاء الدبلوماسية الأمريكية فرصتها في تحقيق مصالحها في المنطقة، ولكبح جماح «الإسلام السياسي» في الشرق الأوسط وللحد من قدرة امتداداته في البلاد الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية على تهديد الهوية الأمريكية والثقافة الغربية بحسب تخوف دعاة صدام الحضارات أمثال هنتنجتون وفوكاياما.
وكانت هناك محاولات أمريكية بوساطة فرنسية وألمانية وشخصيات عربية للتحاور مع رموز الحركة الإسلامية في أوروبا في محاولة لإيجاد شركاء في المنطقة العربية وبالتحديد في مصر والسعودية؛ لمنع انضمام الشباب إلى المجموعات التي تتخذ المقاومة المسلحة سبيلا لصد الاحتلال الأمريكي للبلاد العربية والإسلامية.
ولقد ازدادت قناعة إدارة بوش بفكرة التحاور مع الحركات الإسلامية المعتدلة في الوقت الراهن نتيجة الإخفاقات التي ألمت بالقوة العسكرية الأمريكية في أفغانستان وفي العراق، فالتجربة المريرة التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان وفي العراق والتي استنزفت قوتها الاقتصادية، وهددت مصالحها في الشرق الأوسط، جعلت الإدارة الأمريكية مقتنعة أكثر من أي وقت مضى بضرورة التحاور مع التيارات والحركات الإسلامية الأكثر انتشارا في العالم العربي للبحث عن شركاء، فلم تعد الأنظمة العربية -التي تحالفت لعقود من الزمن مع الولايات المتحدة- قادرة على الحد من تعاظم الإسلام السياسي قوة وفعالية وشعبية، ولم تعد قادرة على منع ما يسمونه «التطرف الديني» عند الشباب، ولم تعد أيضا قادرة على الإصلاح أو التحول الديمقراطي الذي سينجم عنه -على كل الأحوال- وصول الإسلام السياسي إلى السلطة.
وترى الإدارة الأمريكية أن محاولاتها للحد مما يسمونه «الإرهاب الدولي» ذو الصبغة الإسلامية باءت جميعها بالفشل، بل إن المخاوف الأمريكية من تنامي المجموعات الإسلامية المسلحة المهددة لمصالحها وتجاوزها لتنظيم القاعدة قد زادت، رغم الحروب العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان، أضف إلى ذلك فشل الغرب والولايات المتحدة في دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية بشكل تذوب فيه الثقافة الإسلامية ويتخلى المسلمون عن هويتهم الإسلامية، فلا تجد الثقافة الغربية منافسا وبديلا لها في تلك البلاد.
المهم أن هدف الإدارة الأمريكية من التحاور مازال غير معلن، ولكن يحب فهم سعي واشنطن للتحاور مع الحركات الإسلامية السياسية المعتدلة في ضوء مسلمات يؤمن بها المحافظون الجدد بقوة، ولا يمكنهم بأي حال من الأحوال التخلي عن هذه المسلمات:
أولا: يهدف التحاور مع الحركات الإسلامية إلى تحقيق مصالح الولايات المتحدة في المنطقة ويأتي في إطار إصرار الولايات المتحدة على نشر الديمقراطية في العالم بكل السبل، ففي مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية نشرتها السبت 26-3-2005، قالت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس: "إن سياسة بلادها في الضغط من أجل الديمقراطية عالميا مستمرة"، في إشارة إلى اللجوء للحركات الإسلامية كخيار بديل لتحقيق ذلك في حالة فشل الأنظمة العربية، رغم الأخطار التي تخشاها الولايات المتحدة من وصول هذه الحركات إلى السلطة.
ثانيا: باتت الإدارة الأمريكية لا تخشى وصول الإسلام السياسي إلى الحكم في المنطقة العربية بشروط تقبلها الولايات المتحدة، فعدم الاستقرار في منطقة الشرط الأوسط قد يحمل أخطارا لا تقل أهمية وتأثيرا بالغا على المصالح الأمريكية من وصول الإسلاميين إلى السلطة، وهذا ما وصلت إليه كل الدراسات التي قامت بها معاهد ومراكز دراسات سياسية واستراتيجية في الولايات المتحدة الأمريكية.
ثالثا: يأتي لجوء الولايات المتحدة لتكثيف الجهود الدبلوماسية في سياق عدم إنجاز مهمتها في العراق، والإحباط الذي أصاب الإدارة الأمريكية نتيجة المقاومة العراقية وقدرتها على إنزال أضرارا بالغة بقوات الاحتلال الأمريكي في العراق مما زاد من تكاليف الاحتلال إلى درجة لا يتحملها الاقتصاد الأمريكي المتردي.
رابعا: والأهم من ذلك أن الانتفاضة الفلسطينية جمدت المشروع الصهيوني وأوقعته في مستنقع لا يمكن أن يتجاوزه بالقوة العسكرية، مما أدى إلى تفاقم الإحباط في أوساط اليهود والصهاينة، وتقول الإحصائيات ضمن هذا السياق أن عدد المنتحرين من اليهود في (إسرائيل) لعام 2005 تجاوز 92 صهيونيا، وهو معدل لم يعهده الكيان الصهيوني، ولجوء الصهاينة إلى المحاولات المتكررة لهدم الأقصى المبارك، ينم عن إدراك اليهود للمأزق الذي وصلوا إليه خاصة بعد محاولة الولايات المتحدة للتحاور مع الحركات الإسلامية في المنطقة العربية؛ مما يجعلهم يعتقدون بأن مصالحهم باتت مهددة، لذا فهم يحرصون على تخريب الأوضاع في المنطقة لعرقلة الانسحاب من المستوطنات وتفويت أي فرصة ينال الفلسطينيون فيها أي حد من الحقوق.
خامسا: تأكيد الإدارة الأمريكية على عدم الوصول إلى حالة توازن عسكري بين (إسرائيل) والدول العربية مهما كانت الظروف، وعدم الإخلال بتفوق (إسرائيل) في منطقة الشرق الأوسط، والحالة الإيرانية شاهد على ذلك، فتحاور الولايات المتحدة مع الدول العربية والإسلامية لا يعني التسامح مع البرنامج النووي الإيراني، وبهذا الصدد فإن واشنطن قررت بالفعل ضرب المشروع النووي الإيراني في شهر يونيو من العام الحالي بحسب تقرير أوردته الجزيرة نت.
سادسا: التحاور مع التيارات والحركات الإسلامية هو تكتيك تلجأ إليه الإدارة الأمريكية وليس هدفا استراتيجيا للوصول إلى علاقة تفاهم طويلة الأمد، فتعلم الإدارة الأمريكية جيدا مدى ازدياد هذه الحركات قوة وتأثيرا، ومدى التأييد الشعبي المتعاظم الذي تحظى به، مما أقنع الولايات المتحدة بأن أي إصلاح سياسي وانتخابات «ديمقراطية» سوف يؤديان إلى نجاح وفوز هذه الحركات، والإدارة الأمريكية تحاول -بشكل خاص- إلى احتواء حركة «الإخوان المسلمون» في مصر لتجنب أي تهديد لمصالحها في المنطقة وللتخلص من مشكلة تزايد الشعور بالعداء تجاه الولايات المتحدة في المجتمعات العربية والإسلامية. لذلك فإن نموذج «حركة العدل والتنمية» التركية بزعامة رجب طيب أردوغان هو النموذج المرغوب أمريكا، حيث النظام العلماني وفصل الدين عن الدولة في تركيا، وإقامة علاقات طبيعية مع (إسرائيل)، والسماح بوجود قواعد عسكرية للأمريكان على الأراضي التركية.. الخ.
سابعا: تحرص الإدارة الأمريكية على نزع سلاح كل من حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين وحزب الله في لبنان، ومن هنا يأتي الترحيب الأمريكي والعربي والأوروبي بتحويل حركة المقاومة الإسلامية حماس وحزب الله إلى أحزاب سياسية، وبدخول حماس في منظمة التحرير الفلسطينية وتشجيع مشاركتها في الانتخابات التشريعية وغيرها، كل هذا يأتي في سياق تطويع الحركات الإسلامية، بهدف نزع سلاحها وإشغالها إلى الأبد في القضايا السياسية والتفاوضية مع (إسرائيل)، وكذلك الحال بالنسبة لحزب الله اللبناني.
ومن أهم التحديات التي تواجهها الإدارة الأمريكية في حوارها مع الحركات الإسلامية هو إقناع الحركات الإسلامية والشعوب العربية والإسلامية بقبول تحيز الولايات المتحدة الكامل لـ (إسرائيل)، وحرصها على استمرار بقائها وتفوقها عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا على الدول العربية، وهناك مشكلة أخرى وهي أن الولايات المتحدة تركز على مصطلحات ومفاهيم لم يتم تحديد تعريفات عالمية لها مقبولة لدى العرب والمسلمين؛ مثل الإرهاب، والتنمية الإنسانية، والحرية الثقافية، والديمقراطية، والأصولية، فما زالت تنظر واشنطن إلى المقاومة الإسلامية في فلسطين وفي لبنان على أنها «إرهاب» يجب القضاء عليه، وهذا ما يستحيل على الحركات والتيارات الإسلامية قبوله أبدا.
ومن التحديات الكبيرة أيضا استمرار الاحتلال الأمريكي للعراق ولأفغانستان، فمن غير المعقول أن يتم أي تفاهم بين الإدارة الأمريكية والحركات الإسلامية في ظل استمرار هذا الاحتلال، واستمرار زعزعة الأوضاع في لبنان وفي السودان، وزيادة الضغط والتهديد الأمريكي لسوريا والسودان وإيران، واستمرار دعم الصهاينة في الاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية وتهويد القدس وتهديد المسجد الأقصى المبارك.
أما بالنسبة لموقف حركة «الإخوان المسلمون» من التحاور مع الإدارة الأمريكية، فهو نفي أي اتصال أو تحاور في الماضي مع الإدارة الأمريكية الحالية، وعدم رفض الحوار شريطة أن يكن في قنوات رسمية من خلال الخارجية المصرية كما صرح بذلك الدكتور محمد حبيب نائب المرشد العام، ورفض أي أجندة إصلاح أمريكية والتأكيد على ضرورة أن تكون هذه الأجندة وطنية، وعدم تعويل الإخوان من قريب أم بعيد على تصريحات رايس بهذا الخصوص.
فعداء الولايات المتحدة للأمة العربية والإسلامية لا يقل عن عداء (إسرائيل) لهما، فهي السبب في قوة هذا الكيان الغاصب وتمكينه من احتلال فلسطين وأراض عربية أخرى، وهي محتلة بالفعل لبلاد عربية، وهي تعمل ليل نهار وبكل الوسائل لسلخ المسلمين عن دينهم، فهل يتخلى اليمين المسيحي الصهيوني والمحافظون الجدد عن معتقداتهم؟!
لذلك فلا توجد استجابة من قبل الحركات الإسلامية لطلب الولايات المتحدة بالتحاور معها، وقد انعكس هذا في «منتدى أمريكا والعالم الإسلامي» الذي عُقٍد في قطر الأسبوع الماضي، حيث غاب عن المنتدى رموز الحركة الإسلامية وقادتها ومفكريها، وفي المقابل سجل المعسكر الديمقراطي حضورا قويا في هذا المؤتمر، وتجدر الإشارة إلى أن معظم ورشات المنتدى التي حضرها نحو 50 شخصية أمريكية و100 شخصية عربية ومسلمة تمت في غرف مغلقة، ولم يتسرب إلا القليل من المعلومات عما دار فيها.
وقد تلجأ الإدارة الأمريكية -بل هي تحاول الآن بالفعل- الالتفاف حول حركة «الإخوان المسلمون» من خلال شخصيات داخل صفوف الحركة وامتداداتها في الولايات المتحدة وفي أوروبا للبدء في التحاور، والوصول إلى تفاهمات من أجل شق الصفوف وإحداث البلبلة، وقيام صراع بين النظام المصري والإخوان وإحداث الفوضى.
وخلاصة الأمر أن الإستراتيجية الأمريكية في جوهرها مازالت هي إستراتيجية (إسرائيلية) تعمل على ضرب المشروع النووي الإيراني، والقضاء على النظام ألبعثي السوري، والتفاهم والحوار مع الحركات الإسلامية المعتدلة في سبيل تحويلها إلى النموذج التركي (حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان)، والتخلص من الأنظمة الدكتاتورية في الدول العربية؛ لأن استمرار وجود هذه الأنظمة سيؤدي إلى مزيد من التطرف -بحسب الإدارة الأمريكية- بين الشباب الساخط على هذه الأنظمة وعلى الولايات المتحدة.
لذلك فمطلوب الحذر من الخطوة الأمريكية، والاستجابة لقول الله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود:113)
اقرأ أيضاً:
أسباب ظهور النظام العالمي الجديد / قطعة البطاطا الساخنة/ رسالة من يهود العالم إلى شباب العرب / عملية استيلاء تدريجية على القدس القديمة