في أواخر الأربعينيات -ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي- رفع الصهاينة أعلامهم، وثبّتوا أقدامهم في فلسطين، وطُرد أصحاب الأرض من أرضهم، ونهب اليهود أموالهم، واستحلوا دورهم، وعاش المشردون عيشة لا آدمية في خيام ضائعة ممزقة متناثرة في بعض دول الجوار، يستبد بهم الجوع والفقر والمرض، والشعور الحاد بالغربة والضياع....
وفي إحدى عواصم الغرب نشرت الصحف آنذاك خبر أحد الكبار -أو الأمراء النفطيين- الذي قضي ليلة واحدة شيطانية حمراء، دفع فيها مئات الألوف من الدولارات. فنظم الشاعر العظيم «عمر أبو ريشة» قصيدة بعنوان «هكذا»، يصف بها -بأسلوب مرّ ساخر- هذه الليلة الفاجرة، وكيف اعتبر ذلك عدوانًا علي الخلق والأمة، والقيم العربية الموروثة:
فإذا النخوةُ والكِـبْر عَلَي
ترف الأيام جرح موجعُ
هانت الخيلُ علي فرسانِـها
وانطوت تلك السيوف القطَّعُ
والبطولاتُ علي غربتها
في مغانينا جياع خُـشَّع
ثم ختم قصيدته بالبيت التالي:
هكذا تُقتحم القدسُ علي
غاصبيه، هكذا تُسترجَـعُ
إنها الإدانة الساخرة يطلقها الشاعر، والمرارة تمزق فمه، وتلتهب في دمائه. إنه صوت الاستنكار القوي الصادق المدوي الذي يُصدر الحكم الحاسم بأن «القدس لن تُسترجع» وفي وطننا مثل هذا الفاجر، ومثل هذا الفجور. وبعد ذلك أصبح من السهل علي القارئ أن يدرك أن المضمون العام للقصيدة، ومنطوق بيتها الأخير هما اللذان ألهماني عنوان مقالي هذا "نانسي عجرم تحرر القدس".
حكاية بنت اسمها نانسي؛
ويقول خبراء الفن، والعالمون ببواطن الأمور، وراء الكواليس وأمام الكواليس، إن نانسي هذه لبنانية لم تجد لها مكانًا في بلدها لبنان، لأن صوتها لا يزيد علي كونه مجموعة من الآهات أو التأوهات المصابة بالإسهال المزمن، فسمعت أن هناك «تِـكيّة» اسمها مصر، وأن الإعلام فيها آخر «أُنْـس »، وأنه لا يهمه من المغنية جمال الصوت، ولكن "القدرات الحركية التي تدلك العواطف، وتفجر الشهوات." يقول المهندس عصام خليل «.... فأقحمتٍ نفسها في الحفلات، وعلي المسارح، وأغنيات الفيديو كليب، ولكن بـ«فكر جديد». وجديدها له مظهران:
الأول: أن حركاتها الصارخة أثناء أداء أغنيتها أكثر بكثير من حروف كلمات الأغنية.
والثاني: أنها توظف كل إمكاناتها في التعامل مع جمهور الحاضرين، فلم تكتف بالرقص المواجه، بل تعطي ظهرها للجمهور، وترفع يديها إلي أعلي، وهات يا رقص، وبذلك تفوقت علي الراقصات المصريات بعرض هذه المساحة الجديدة.
وأعتذر للقارئ إذا وجد فيما سبق بعض الكلمات «الجريئة» فما تلقيته من رسائل يقدم ما هو أجر، وإن لم يخرج عن الواقع.
وجاء حفل التليفزيون
وفي مساء الخميس 24/7/2003 أقام التليفزيون المصري حفله الصاخب المعروف، وحضر الحفل أعداد ضخمة من المراهقين والمراهقات، و«أحٍيته» نانسي عجرم، وغاب عن الحفل الحياء والتعفف والأدب. ولا أستطيع هنا أن أنقل من الرسائل التي تلقيتها وصف «بدَ يْـلة» الغناء أو الرقص التي ظهرت بها المحروسة نانسي، وهي كما وصف السيد «محمود عبد الفتاح» قطع من القماش الشفاف.. صغيرة جدً، وضيقة جدً، لا تكاد تستر شيءً، وعندها تذكرت جملة الممثل عادل إمام الذي وصف راقصة فقال: "كانت لابسة بالعريان".
وأسوق إلي القارئ سطورًا من بعض الرسائل التي تلقيتها «بالبريد الالكتروني»:
- "كدت أبكي واللّه، وأنا أري مئات الشباب وهم يصفقون، ويتمايلون علي تأوهات هذه النانسي عجرم، وكأن الدولة تحرص علي إبعاد هؤلاء الشباب عن المساجد، وشدهم إلي بؤر الفساد والفجور".
- "قولوا لوزير الإعلام المصري، ولمن فوقه، ولمن دونه من أسيادنا الحكام وقادة الحزب المسمى بالوطني: أوقفوا هذه المهازل، وكفاكم ضربًا في الإسلام".
- وكانت آخر الرسائل من المهندس الزراعي مجدي أحمد الصفتي من القرين - شرقية، وفيها يقول: "هل كتب علينا -نحن شباب هذا الجيل- أن نعيش عصرًا تسوده الجرأة والتطاول علي اللّه? إن الدعوة إلي الإباحية والعري والفساد لا تأتي إلا من أناس ينتسبون -اسمًا- إلي الإسلام. أجبني باللّه عليك: كيف نحافظ علي هويتن، وقد أصبح المتمسك بدينه منا كالقابض علي الجمر?..."
بالسقوط يشغلون الشباب
وأنا أري أن المظهر الذي ظهرت به «المحروسة» نانسي عجرم إنما هو مجرد زيادة في «جرعة» المجون والسقوط جاوزت بها الجرعات المعهودة في التليفزيون المصري في العصر «الصفوتي الشريفي». فالناس قبل تشريف نانسي تعودوا -في القنوات المصرية المحلية والفضائية، والقنوات الخاصة- أن يشاهدوا المغني، أو المغنية ومعها مجموعة من الراقصات الكاسيات العاريات، أو العاريات العاريات، وأصبحت «السرّة» تواجه المشاهدين في تبجح وصفاقة وانحطاط. وقد كتبنا عن هذه الظاهرة الخطيرة عدة مرات، وقد لاحظت أن بينها وبين فساد النظام وسوء الحالة الاقتصادية علاقة طردية، بمعني أنه كلما زاد النظام تخبطًا وفسادً، وزادت الحالة الاقتصادية والمعيشية سوءً، ارتفع ترمومتر المجانة والفساد والاستهتار والسقوط في الأعمال الفنية، واقتربت من إرضاء العواطف والشهوات، مما يشد الشباب ويلهيه، ويشغله عن واقع المشكلات العاتية المدمرة التي تعيشها الأمة.
إنه إذن «الفن الموجّه» الذي يهدف إلي الإلهاء وشغل الناس عن مشكلاتهم الحقيقية، وموقف الإعلام «الصفوتي الشريفي» واحد من ثلاثة: الإنتاج، أو التشجيع الصريح، أو السكوت الذي يعني إجازة العمل، وعدم الاعتراض عليه. وما زالت الظاهرة "النانسية العجرمية" تتفاقم وتنمو وتنتشر على أوسع نطاق ، ولكن يبقى لمصرتا المحروسة فضل الريادة والسبق في إظهار هذا الكنز المتوهج... نانسي عجرم
انفجار... انفجار!
وهناك واقعة لا أنساه، يمكن أن أستدل بها علي صحة الحكم الذي قدمته آنفً، وخلاصة هذه الواقعة أنني بُعَيد النكسة -نكسة سنة 1967- في مساء يوم من أواخر يونيو، قادتني قدماي إلي شارع فؤاد، فرأيت أمام سينما «ريفولي» صفًا طويلاً جدًا أغلبه من الشباب لشراء تذاكر لمشاهدة فيلم أمريكي اسمه Blow Up (انفجار). واعتقدت أنه فيلم من الأفلام الحربية مثل: نضال الأبطال، وأطول يوم في التاريخ. وقلت في نفسي: فيلم يتفق مع الجو الذي نعيشه، ولكني صدمت حينما رأيت أن الملصق الكبير علي واجهة السينما يصور فتي وفتاة في وضع متهتك جدً، فسألت أحد الواقـفين أمام شباك التذاكر عن موضوع الفيلم، فأجاب ضاحكًا: موضوعه حاجة كده «فُـلَّلي» - نسبة إلي الفل، حاجة تسلي الشباب اللي زينا. ما شفناش حاجة زيها قبل كده.
ثم علمت أن الفيلم من الأفلام الجنسية الصريحة الصارخة جدً، وأنه أُدٍخل مصر بناء علي أمر من قيادات عليا جدًا. وهدف حكامنا -صنّاع النكسة- أوضح من أن نعيد القول فيه.
لا تفرطوا في الصاروخ نانسي(!) ولا أبالغ إذا قلت إننا - من ربع قرن - نعيش أسوأ العهود، وأشدها سوادًا وهبوطًا في تاريخ مصر:
- مئات البشر يعيشون فوق الأموات في المقابر بسبب الفقر وأزمة المساكن.
- مئات الألوف من الخريجين والعمال لا يجدون عملاً.
- الرشوة، والاختلاسات، وسرقة البنوك، ونهب أرض الدولة، والكذب والنفاق، والتزوير، والشعور الحاد بالخوف.... و...... و..... كل أولئك يمثل قائمة «أخلاقية» جديدة في هذا العهد. أما الإعلام "الصفوتي الشريفي" فقد أصبح محصنًا ضد الاحترام والتقدير. ولو اطرد هذا المعيار لأصبحت ظاهرة نانسي أمرًا عاديًا جدًا... جدً، مما يدفع شاعرنا عمر أبا ريشة -لو كان حيًا- أن يقول: "لا تفرطوا في نانسي وأخواتها":
فبها تُقتحم القدسُ علي
غاصبيه، وبها تُسْـتَرجَع
وادعوا للسلطان بالعمر المديد، والعيش الناعم السعيد. وإنا لله وإنا إليه راجعون
اقرأ أيضاً:
رسالة من يهود العالم إلى شباب العرب/ آه يا معز علي قاهرة المعز/ دمعَةُ القُدس/ أحبتنا ... بيانا.