تشابه في المقاومة وتشابه في الاندحار الأمريكي
بدا مؤخراً في الولايات المتحدة أن المواطن الأمريكي يسمع ويذكر كلمة "فيتنام" أكثر فأكثر في البيوت والحانات والمقاهي وفي الاتصالات الهاتفية التي تجري مع برامج الحوارات الإذاعية، حيث يستطيع هذا المواطن التفكير والنقاش بحرية وبعيداً عن رقابة وتعتيم الإعلام المرتبط بالإدارة الأمريكية اليمينية الفاشية. وخلاصة تلك الأحاديث هو أن العراق قد تحول إلى فيتنام أخرى للقوات الأمريكية المحتلة ستنتهي باندحار تلك القوات كما حدث في فيتنام.
المعروف في حرب العصابات أن الثوار ينفذون عملياتهم القتالية من خلال وحدات صغيرة، وبعد أن ينتظموا ويتحدوا، فإنهم يقاتلون بوحدات أكبر، وتلك كانت سمات المقاومتين الفيتنامية والعراقية. فلو عدنا إلى تأريخ الحرب الفيتنامية لوجدنا أنه عندما بدأت القوات الفرنسية مقاتلة الفيتناميين وبعدها تدخل المستشارون الأمريكان، كانت المقاومة الفيتنامية تعمل جميعها بوحدات صغيرة. وفي العراق، رأينا كذلك أن العمليات القتالية للمقاومة الوطنية العراقية تجري من خلال وحدات صغيرة بدأت بالازدياد في الحجم من أجل شن عمليات نوعية مؤذية لقوات الاحتلال.
وبالرغم من أن المقاومة الوطنية العراقية دخلت في مرحلتها الثانية التي يحاول المحتلون إيقافها بشتى السبل، إلا أنه يمكن القول أن عمليات حرب التحرير الشعبية الشاملة هي في بداية مراحلها الأولى، حيث تمثلت تلك العمليات على الدوام بما يسمى في حرب العصابات بـ "أضرب وأهرب"، وعلى الأغلب من خلال استعمال المتفجرات المسيطر عليها من بعد ضد قوات الاحتلال والقوى العميلة المتعاونة معها وكذلك ضرب الأهداف السهلة. ومن المهم التذكر بأن هدف المقاتلين في المراحل الأولى للمقاومة هو ليس دحر وهزيمة قوة عسكرية كبيرة وقوية كما هو الحال لقوات الاحتلال في العراق، ولكن من أجل زعزعة الأمن وزيادة عدد الداعمين للمقاومة من أبناء الشعب المناهضين للاحتلال.
وحول تطور المقاومة العراقية يقول ستيوارت نوسباومر، من المنظمة الأمريكية لمناهضي الحرب على العراق وأحد المحاربين القدماء، بأن "المقاومة الوطنية العراقية تقوم بعمل متين وفعال، حيث أن الأمن في العراق يسير من سيئ إلى أسوأ، وأن مناهضة الاحتلال تزداد يوماً بعد آخر وأن ذلك يشجع ويزيد الفعل المقاوم ويعطي المقاومة الدعم المستمر الذي تحتاجه لتطورها وزيادة فعالياتها القتالية، وهذا يشبه ما حدث في فيتنام كما أراه على الأرض العراقية". ويضيف نوسباومر، "إن العراق يبدو مختلفاً لما حدث في فيتنام من ناحيتين رئيسيتين ألا وهما أن الوضع في العراق يسوء بسرعة بالنسبة لقوات الاحتلال وأن الأمريكان يشاهدون الحقيقة أسرع مما شاهدوها في فيتنام عام 1960".
وأمام حالة الزيادة في العمليات القتالية للمقاومة الوطنية العراقية كماً ونوعاً، والتي تعاني منها قوات الاحتلال والقوات الأمنية للسلطة العميلة في العراق يقول راي ماك غوفرن، المحلل العسكري الأسبق في المخابرات المركزية الأمريكية، "أن القائمين على الإستراتيجية العسكرية والمحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية بشكل عام لم يتعلموا من تأريخنا في فيتنام، خصوصاً بتشجيعهم للرئيس بوش بعدم الرحيل عن العراق وعن انتصارهم المزعوم في الحرب على العراق. إلا أن الكثير من الذين لديهم قليلاً من الخبرة بحرب العصابات ومنطقة الشرق الأوسط مقتنعون بأن هذه الحرب لا يمكن الفوز بها، وأنها مسألة وقت لا أكثر إلى أن تعلن القوات المحتلة انسحابها من العراق".
ويضيف ماك غوفرن قائلاً "إن وجود القوات الأمريكية في العراق هو المشكلة وليس الحل، إذ أن أعداء هذه القوات في العراق هي المقاومة العراقية بشكل خاص والشعب العراقي بشكل عام والذين سيستمرون بجعل قوات الاحتلال تعاني وتعاني بشدة. فطالما يستمر الاحتلال سيستمر قتل أفراد القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها". أما إصرار الإدارة الأمريكية على الاستمرار بالمنهج الذي يتبعوه في العراق وعدم "الهروب" من العراق، فلم يماثله إلا ما انتهت إليه الإدارة الأمريكية عام 1975 بعد مقتل 58.000 جندي أمريكي واستشهاد ثلاثة ملايين فيتنامي، وهو جر أذيال الخيبة والهروب من فيتنام.
إن قراءة مستفيضة لتأريخ المقاومة في كل من فيتنام والعراق ستبين لنا أن المقاومة بدأت سريعاً، ولو أنها بدأت أسرع جداً في العراق منها في فيتنام، فقد بدأت في العراق في اليوم الأول لاحتلال بغداد والتي اعتبرها الإستراتيجيون العسكريون مقاومة مكملة لما بدأه الجيش العراقي الباسل منذ بداية العدوان على العراق. ولكن ما يميز المقاومة الفيتنامية عن العراقية، أن الأولى جرت في الغابات والأحراش وحقول الرز، بينما جرت في العراق بين البيوت في الحارات والمدن وطرق المرور السريع. وفي كلتا الحالتين كانت المقاومة هي من يسيطر على توقيت العمليات ومداها ومكانها.
كما أن ما يميز المقاومة العراقية عن الفيتنامية هو أن المقاومين العراقيين يصطادون العدو من خلال انتهاز الفرص المواتية لهم و"يذوبون" بعدها سريعاً في المحيط الذي يوفر لهم الأمان والاختفاء. ونتيجة لذلك فقد كان رد فعل قوات الاحتلال على الدوام قتل العديد من المدنيين الآمنين مقابل قتل عنصر واحد أو اثنين من عناصر المقاومة نتيجة لرد فعل قوات الاحتلال التي أعطيت الأوامر مسبقاً للقيام بهذا العمل الدنيء، الأمر الذي جعل تلك القوات الغازية معزولة تماماً عن الشارع العراقي. ونتيجة للقتل العشوائي الذي تقوم به قوات الاحتلال فإن المقاومة الوطنية العراقية حظيت بدعم الشعب، وبذلك سقطت منذ البداية وإلى الأبد نظرية "الفوز بقلوب وعقول العراقيين" كما سقطت من قبلها في فيتنام.
إلا أن العمق في معنى حروب أمريكا على فيتنام والعراق يتمثل بالجانب الإستراتيجي لهما. فكلا الحربين تم شنهما كمقدمة وطليعة للإستراتيجية الأمريكية الكبرى. ففي فيتنام كانت الحرب من أجل احتواء والحد من توسع إمبراطورية الإتحاد السوفيتي. أما في العراق، فإن الإستراتيجية الأمريكية الكبرى هي من أجل "خلق" أنظمة شرق أوسطية تحت السيطرة الأمريكية وخدمة لإسرائيل، وبالتالي من أجل السيطرة الأحادية على العالم من خلال حروب مستمرة تشنها هنا وهناك لتنفيذ مآربها تلك. والعراق كان الخطوة التكتيكية الأولى لهذا المنظور التوسعي الأمريكي، الذي يؤمن أيضاً بالسيطرة على جميع المناطق الغنية بالبترول في الشرق الأوسط، ومن ثم التغلب على المنافسين الإستراتيجيين للولايات المتحدة. ولتفعيل ذلك، فإن البنتاغون قد خطط قبل وبعد الحرب لبناء 14 قاعدة عسكرية دائمة في العراق.
وعندما بدأت حرب المقاومة الفيتنامية في آذار من عام 1965 تأخذ طابعاً تأكد منه قادة البنتاغون أن الاندحار لقواتهم قادم سريعاً ولذا عليهم الخروج بسرعة، قدم المستشارون العسكريون للرئيس الأمريكي جونسون، بعد فوات الأوان، صورة حقيقية عما يجري على الأرض وعما ستئول إليه الأوضاع بالنسبة لقواتهم حين أخبروه بصريح العبارة أن هدفهم في فيتنام كان 70% منه هو تجنب اندحار مذل لقواتهم، و 20% هو لإبعاد فيتنام الجنوبية عن أيدي الصينيين، وأن 10% كان من أجل تقديم حياة حرة للفيتناميين، وتلك جميعاً كانت الأسباب المذلة لخروجهم من فيتنام.
وبسبب الإستراتيجية الأمريكية لاحتواء الإتحاد السوفيتي والضغط الأيديولوجي للمكارثية فإن الولايات المتحدة لم تستطع الابتعاد عن فيتنام، ولكن بسبب طبيعة المقاومة الفيتنامية وخرافة الديمقراطية الأمريكية وأكاذيب الإدارات الأمريكية فإن المغامرة الأمريكية في فيتنام لم تستطع النجاح. وبها نرى في تأريخ الحرب الفيتنامية أن أمريكا لم تستطع تدبير بقائها، كما أنها لم تستطع أبداً تدبير نجاحها.
إن ما عانته أمريكا في فيتنام بدأ يتحقق في العراق، بل بدأت معاناتها مباشرة بعد احتلال العراق. فالقوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها تشعر الآن وأكثر من أي وقت مضى أنها تواجه اندحارا مذلاً شبيهاً لما حدث في فيتنام. وهنا يفكر الإستراتيجيون العسكريون الأمريكان بمسألة غاية في الأهمية لاستمرار وضع أمريكا كقوة عسكرية مهيمنة عالمياً. وتلك المسألة هي أنه إذا انسحبت قواتها من العراق الآن بفعل المقاومة العراقية، فإن أمريكا ستفقد هيبتها عالمياً وأن قوتها العالمية ستتضرر بشكل لا يمكن معه إصلاحه، بل وأكثر بكثير من خسارتها في فيتنام. ولهذا السبب فإن العراق أصبح بالنسبة لأمريكا أسوأ من فيتنام.
لا بد لنا أن نذكر أيضاً أن ما يميز حروب أمريكا على فيتنام والعراق هو أن الإدارات الأمريكية استعملت خرافة الديمقراطية الأمريكية لتهدئة الشعب الأمريكي عما قدمه ويقدمه من ضحايا في تلك الحروب التي لم تكن إلا من أجل مجموعة من الشركات والأشخاص المنتفعين مالياً. لهذا يجب أن تخسر أمريكا حربها في العراق واحتلالها له كما خسرتها في فيتنام، لأن ذلك سيعني بالتأكيد انحسار الصناعة العسكرية الأمريكية التي تغذي حروب أمريكا العالمية، وعندها أيضاً سيصرخ دافع الضرائب الأمريكي بأعلى صوته: ما الفائدة من الإنفاق العسكري إن لم تستطع أمريكا النجاح في مغامراتها العسكرية؟ لذا فإن انتصار المقاومة الوطنية العراقية سيقود بالتأكيد إلى سقوط تعهدات بوش الإستراتيجية للسيطرة على العالم وقناعاته الأيديولوجية الصليبية ونهاية لأيديولوجية اليمين الفاشي المتطرف، خصوصاً وأن الضرر قد لحق بمجاميعه التي خططت لاحتلال العراق من خلال افتضاح الأكاذيب التي سوقوا لها من أجل ذلك والتي بان كذبها جميعا. كما أن اندحار أمريكا في العراق سيمثل ضربة قاصمة لسياساتها المستقبلية ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب بل في العالم أجمع.
اقرأ أيضاً على مجانين :
تفاصيل محضر اللقاء السري بين رامسفيلد وصدام حسين / اجتثاث عروبة العــــــــــراق!! / عن مهزلة الانتخابات الأمريكية في العراق!