مرةً أخرى يؤكد رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون كما كل المرات، على خطه الثابت ومشروعه الرفضوي لكل ما يتصل بالاستحقاقات والثوابت الفلسطينية. شارون وخلال كلمته التي ألقاها في الرابع والعشرين من الشهر الجاري بواشنطن، أمام اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للعلاقات العامة (ايباك)، استحضر لاءات رئيس الوزراء الأسبق ايهود باراك المعروفة، ونتنياهو وكل اللاءات الإسرائيلية التاريخية، المتصلة بالتشدد الإسرائيلي وعدم الخوض في الخطوط الحمر الفلسطينية، تلك التي راهن عليها باراك حفاظاً على موقعه وماء وجهه، فيما غرق في وحل الانتفاضة بسبب تأزم العملية السلمية آنذاك.
شارون أسقط القدس وعودة اللاجئين والانسحاب من أراضي العام 1967، بالإضافة إلى الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية المهمة وغير المهمة في الضفة، كلها أسقطها شارون من قرارات الشرعية الدولية أولاً، ثم من استحقاقات المرحلة النهائية التي افترضت تطبيق ومعالجة كل تلك القضايا المفصلية. والأهم من ذلك أن تلك الاستحقاقات يحاول شارون إسقاطها من الذاكرة والعقل والسياسة الفلسطينية، خصوصاً وأنه يسعى منذ وقت لترجمة لاءاته على الأرض.
وتأكيداً على مشواره في بلوغ اللاءات، ضمن الرجل لنفسه وبموافقة بوش الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية، كعملية تبادلية أحادية مقابل خطة فك الارتباط للانسحاب من غزة، ويعني ذلك أنه في حال تقرر الرحيل من مستوطنات غزة وشمال الضفة، فإن الأخيرة -الضفة- ستكون مجمع العمليات والمخططات للنشاط الإسرائيلي الاستيطاني. أما القدس فهي الآن تحارب بالجدار العنصري الذي يلتف حول رقبتها، والتهويد المستمر لمعالمها الداخلية، فيما تسعى واشنطن لاعتمادها عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، وما نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس إلا أحد مؤشرات الضوء الأخضر الأمريكي المقوي للمخططات الإسرائيلية.
أما فيما يتصل بعودة اللاجئين، فلا أحد ينكر أن إسرائيل التي تجاهلت المجتمع الدولي برمته، هي نفسها إسرائيل القادرة على تجاهل حق العودة، وما عليها سوى إتباع سياسة الطرشان المعهودة، وكفى المؤمنين شر القتال.
الملاحظ من كل ذلك، أن بوش غلف لاءات شارون تلك بـ"الشرعية"، طالما كان الرضا هو عنوان السياسة الأمريكية، وأطلق يد الأخير للتضييق على الفلسطينيين وفعل ما يحلو له إزاء رؤيته لاستراتيجيات المرحلة القادمة، بما يتناسب مع خطة فك الارتباط. بوش الابن كان قد أعطى شارون ورقة ضمانات قدمها له في منتصف أبريل 2004، ثم جددها منتصف أبريل الماضي، وتقوم على شرعنة السياسة الإسرائيلية، فيما تشاطر شارون بتحميل الفلسطينيين مسؤولية عجزهم عن متابعة أمورهم بالشكل المطلوب منهم.
مبيت شارون في واشنطن، تزامن مع لقاء جمع الرئيس محمود عباس بنظيره الأمريكي جورج بوش. الهدف من زيارة شارون لواشنطن قطع الطريق أمام عباس المحمل بالكثير من المطالبات التي عرضها على بوش.
بالطبع يعرف شارون من أين تؤكل الكتف. هو قال جملة من الكلام البراق والرطب، قال الرجل من واشنطن، إنه ينوي إطلاق سراح 400 معتقل فلسطيني لمساعدة الرئيس عباس، وقال أيضاً إن عصراً جديداً من الثقة مع الفلسطينيين ممكن إذا تم تنسيق خطة فك الارتباط، فيما هو مستعد كذلك لتسليم المزيد من مدن الضفة إلى السلطات الأمنية الفلسطينية.
حسناً فعل شارون حينما قال كل ذلك الكلام، لكنه لم يقل إن الإعلان عن إجراءاته التخفيفية تأتي لمساعدته في تثبيت موقفه السياسي التكتيكي وكأنه حمامة السلام، وتأتي لإفراغ مطالبات الرئيس عباس لبوش برفع مستوى مساعدة الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً.
كان يفترض على شارون إطلاق سراح الأسرى الـ400 منذ انعقاد قمة شرم الشيخ في الثامن من فبراير الماضي، إلا أنه لم يطلق آنذاك سوى 500 معتقل من أصل 900 عاد واعتقل أكثر منهم. وشارون تعهد بنقل السيطرة الإسرائيلية على مدن الضفة إلى السلطة الوطنية، لكنه سلم مدينتين فقط واستوى، كمن يقول إن الانطلاق في العملية السلمية يتطلب من الطرف الأضعف أن يقدم المزيد من التنازلات لصالح جوهر ميزان القوى.
يجب أن نلاحظ الحركة النشيطة التي يقوم بها المجتمع الدولي تجاه خطة شارون لفك الارتباط، وهي محلياً خطة لإعادة الانتشار من القطاع، ودولياً تسوقها إسرائيل على أنها خطة فك الارتباط بانسحاب كامل، كما جوهر خارطة الطريق التي تسعى جاهدةً -إسرائيل- إلى إقصائها من أجندة الرباعية الدولية كما الأجندة الأمريكية، أو ربما تعديلها من طريق إلى طرق، بتضمين واختزال فك الارتباط فيها، وليس على خارطة استكمال الطريق. بمعنى أن فك الارتباط كعنوان جزء من خارطة الطرق التي تستدعي جملة من المخططات على شاكلة إعادة الانتشار وفرض الهيمنة ودمج الفلسطينيين في كانتونات ومعازل ضيقة، وتكريس سياسة الجدار في إطار سياسة التهويد.
وإذا كان شارون في واشنطن للإعلان عن سياسته هناك أمام اللوبي الصهيو أمريكي، فهو في واشنطن لانتزاع المبادرة من أبو مازن، في وقت تشهد فيه الساحة الفلسطينية حالة من الاحتقان الداخلي عشية نتائج الانتخابات البلدية للمرحلة الثانية التي انطلقت في الخامس من الجاري، والتي لم تعجب نتائجها الكثيرين، وفي وقت تجتهد فيه فصائل العمل الوطني لاحتواء أزمة السجالات بين فصيليها المتخاصمين، فتح وحماس.
كان ينبغي علينا أن ننظر باتجاه زيارة عباس لبوش ومدى أهميتها، ودعمها سياسياً بما يرتد إيجابياً علينا ويقطع مشوار شارون المعاكس ضدنا، وأقول أقلها نبذ الخلافات بيننا وتأجيلها لوقت غير هذا الوقت الحساس والمهم بالذات.
كما ينبغي النظر أكثر إلى خطاب شارون الاستهلاكي والدعائي، المفرغ من محتواه، بشن حملة دعاية إعلامية مضادة تسوق الرؤية والموقف الفلسطيني تجاه العملية السياسية، وتجاه التزامه الكامل بما نص في المرحلة الأولى من خارطة الطريق، على عكس الموقف الإسرائيلي الذي لم يفكر في الخارطة من أساسه.
على أن شارون لا يعمل حساباً لأحد، فهو حلاق من الدرجة الأولى وها هو الآن يعرض قضيتنا للذبح، مرة بتأجيل الاستحقاقات المهمة ومرةً أخرى بضربها عرض الحائط، مما يستدعي ويتطلب منا، الانطلاق بتشكيل لوبي عربي فلسطيني، وآخر دولي فلسطيني، وثالث إسرائيلي فلسطيني سلامي، لتكسير مجاديف شارون ودفعه باتجاه تحصيل حقوق الشعب الفلسطيني، وإلا سنبقى في معازلنا نفرغ سفسطائية أنشودة السلام.
اقرأ أيضاً:
شارون.. مسيح مخلص أم دجال؟ :: / شارون وماضيه